أيقونة «تنزيه الاستعمار»: دي لسبس الذي لا نعرفه.. «حاكم مصر» في عهد الخديو سعيد

لم يكن مهندسًا أو حتى على دراية كافية بالهندسة، لكنه كان صديقًا مقربًا لأصحاب النفوذ ودوائر السلطة العليا، عاش حياةً طويلةً امتزجت فيها الشهرة بالكراهية والحفاوة بالغضب، ليتوفى عن عمر ناهز 89 عامًا مفلسًا بعد اتهامه في قضية احتيال شهيرة عُرفت باسم «فضيحة قناة بنما»، حكمت عليه فيها هو وابنه تشارلز، محكمة فرنسية بالسجن المشدد لمدة خمس سنوات في فبراير (شباط) 1893، بتهمة سوء الإدارة، ليقضي ابنه عامًا من العقوبة بالسجن حتى جرى استئناف الحكم في يونيو (حزيران) من العام التالي.

وفضيحة قناة بنما التي تورط فيها أعضاء من الحكومة من الفرنسية وبرلمانيون متهمون بقبول رشاوي من الشركة المشرفة على بناء القناة، ما جعل للقضية أبعادًا سياسية واقتصادية تسببت في تداعيات خطيرة بتاريخ الجمهورية الفرنسية الثالثة، كما تشير موسوعة «بريتانيكا».

نتحدث هنا عن فرديناند ماري دي لسبس، الذي ارتبط اسمه بمشروع قناة السويس، فمن هو؟ وما الذي نعرفه حقًّا عن حفر قناة السويس؟ وماذا كان دور الخديو سعيد؟ هذه الأسئلة، وغيرها سنتعرف إجاباتها خلال التقرير التالي.

عائلة قريبة من الدوائر الحاكمة.. من هنا كانت البداية

ولد فرديناند ماري ماثيو دي لسبس بمدينة فرساي الواقعة شمال فرنسا في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1805، وكان له ثلاثة أشقاء، صبي وأختان، ولا تتوفر معلومات موثقة عن نوعية التعليم الذي تلقاه الصغير فرديناند.

كانت عائلته قريبة من الدوائر الحاكمة؛ إذ عمل أجداده في خدمة الحكومة الفرنسية، كما عمل والده دبلوماسيًّا موفدًا من قبل الحكومة الفرنسية فى عدة بلدان منها تونس التي دُفن فيها، وتحديدًا بمدينة قرطاج عام 1832.

دي لسبس

وعلى خطى والده، عُين فرديناند مساعدًا للقنصل الفرنسي في لشبونة عاصمة البرتغال عام 1825، ثم أُرسل لاحقًا عام 1828 إلى تونس للعمل القنصلي، وفي عام 1832، جرى انتدابه إلى الإسكندرية لتبدأ مرحلة فاصلة من حياته ومن تاريخ المنطقة.

لكن، وحتى ندرك أهمية قناة السويس علينا أن نرى الوضع العالمي كله حينذاك من خلال ما يشبه منظور الطائر، وفي مجمله من أعلى دون التطرق إلى تفاصيله المعقدة؛ فقد كانت أوروبا في القرن الثامن عشر تمر بثورةٍ صناعيةٍ ضخمةٍ يرافقها قوة استعمارية أو ما يُعرف بـ«الكولونيالية» التي بدأت أواخر القرن 15 ميلاديًّا تقريبًا، وقد تزايد إنشاء المصانع آنذاك حتى أصبحت مثل فطر عيش الغراب – لسرعة انتشارها – وفق تعبير أحد الاقتصاديين الإنجليز.

وبسبب تلك الوتيرة الصناعية المتسارعة زاد إنتاج الفحم والصلب ومُدت الكثير من خطوط السكك الحديدية لتخدم الأغراض الصناعية، وكذلك توفر وسائل مواصلات جيدة للأوروبيين الذين تزايدت كثافتهم السكانية.

وبناءً على ما سبق؛ أصبحت هناك حاجةٌ ملحَّةٌ إلى توفير وسائل نقل رخيصة وسريعة ويمكنها نقل شحنات البضائع الضخمة من سوق الإنتاج الأوروبي إلى باقي قارات العالم، التى كانت حينها سوقًا كبيرة للمنتجات الأوروبية.

من هنا، لم يكن هناك أفضل من النقل البحري الذي يعد – حتى الآن – أرخص وسائل النقل مقارنةً بغيره وأكثرها انتشارًا ويمثل 80% من حجم التجارة العالمية، وفق آخر الإحصائيات التي أصدرتها الأمم المتحدة في عام 2018.

لذلك كانت قناة السويس هي «مستقبل التجارة الدولية» كما قال يوجين فوجي ( 1848 – 1910) السفير الفرنسي لدى الدولة العثمانية آنذاك، وكان دي لسبس حينذاك «الحاكم الحقيقي لمصر» كما ذكر اللورد راسل وزير الخارجية البريطانية في حديث له مع الكونت أبوني سفير النمسا في لندن وفق ما يذكره الكاتب «Charles W. Hallberg » في كتابه «The Suez Canal. Its History and Diplomatic Importance»

دي لسبس وسعيد باشا و«القناة»

في حقيقة الأمر لم تكن فكرة إنشاء قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر فكرةً جديدةً، فهي فكرة قديمة تعود إلى عهد المصريين القدماء وإلى الملك سنوسرت الثالث من الأسرة الثانية عشرة، وحتى بعد الفتح الإسلامي لمصر كانت هناك قناة لربط النيل بالبحر الأحمر عرفت باسم «قناة أمير المؤمنين».

فرديناند دي لسبس – ويكيبيديا

إلا أن أول تصور فعلي لإنشاء القناة فى العصر الحديث قدمه أحد مساعدي نابليون بونابرت، وكانت رغبة الأخير شديدة في إنشاء القناة لتكون مصر قاعدة لإمبراطورية فرنسية ما وراء البحار، لكن فشل الحملة الفرنسية على مصر حال دون تنفيذ المشروع آنذاك، وقد عُرضت الفكرة على محمد علي باشا فيما بعد لكنه رفضها خوفًا من التدخل الأجنبي، لتظهر الفكرة من جديد على يد فرنسي آخر هو فرديناند دي لسبس الذي عرضها على صديقه المقرب محمد سعيد باشا (1822 – 1863 م) والي مصر (لم تكن مصر قد انفصلت عن الدولة العثمانية آنذاك).

وسرعان ما تحمس سعيد باشا للفكرة رغم تلقيه في مطلع شهر أبريل (نيسان) من العام 1855، خطابًا من صهره كامل باشا في القسطنطينية – عاصمة الدولة العثمانية آنذاك – يحذره من عواقب تأييده لمشروع القناة ومن الانقياد لفرنسا ودي لسبس؛ موضحًا أن للمشروع عقبات كثيرة أهمها – في نظره – تدفق عدد كبير من الأجانب على مصر.

مسألة وجود العمالة الأجنبية في مصر كانت مشكلة متكررة وظلت مستمرة حتى عهد الخديو إسماعيل (1830– 1895) مما دفع محافظ الإسكندرية لرفع تقرير إلى مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء في 11 يناير ( كانون الثاني) من عام 1865، يحذر فيه من قدوم 4 آلاف أوروبي من مدينة كالابابريا الإيطالية للعمل بالقناة، ويطلب التصرف حيال ما هو متوقع حدوثه منهم من «حوادث مكروهة».

موضحًا أن القنصل الإيطالي طلب منه إسكانهم في ثكنات عسكرية بمنطقة باب شرق بالإسكندرية، وهو ما رفضه المحافظ خوفًا من صعوبة إخراجهم من تلك الثكنات بعد تمكنهم منها، وربما تعطينا هذه البرقية رقم 625 من دفتر برقيات قصر عابدين رقم 1 لمحةً عن نشاط الأجانب في مصر آنذاك، وكان سعيد باشا محبًّا للأجانب، فقربهم منه واستعان بهم في مناصب قيادية وإدارية كبيرة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، السيد برافاي، أحد المغامرين الأوروبيين الذين قدموا إلى مصر في عهد سعيد واشتُهر بـ«النكات الجنسية» و«الأحاديث الشيقة».

وقد جعله سعيد باشا، مديرًا لشئونه الخاصة ثم منحه امتياز استغلال كل المناجم الواقعة على شاطئ البحر الأحمر – رغم عدم دراية برافاي بشئون التعدين – ثم لم يلبث أن استرد سعيد باشا بعد ذلك بفترةٍ قصيرةٍ هذا الامتياز من برافاي ومنحه مليون فرنك تعويضًا عن سحب الامتياز منه، وفي المحصلة النهائية جمع برافاي وحده أثناء خدمته سعيد باشا في مصر ثروة قُدرت بنحو 30 مليون فرنك فرنسي.

«فرمان» أم عقد؟ تلك هي المعضلة

نجح دي لسبس في إقناع الخديو سعيد باشا بوجاهة فكرة حفر قناة السويس لربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، مشيرًا إلى أن هذا العمل الجليل من شأنه أن يرفع مكانته بين حكام العالم «المتمدين» ويزيد من «عظمته» في أعين نظرائه الأوروبيين.

لم تكن هناك أي إشارة في «فرمان» الامتياز الأول الذي جرى توقيعه في 30 نوفمبر (تشرين الثاني)  1854، إلى وسائل تنفيذ المشروع أو ذكر لكيفية توفير الأيدي العاملة، إنما اقتصر على مواد عامة تبين أهداف المشروع ككل، وقد نصت المادة الأخيرة منه على تعهد سعيد باشا – بصفته وشخصه – وجميع موظفي الحكومة المصرية بتقديم المساعدة للشركة الفرنسية عند تنفيذ «فرمان» الامتياز واستغلاله.

اعترضت الحكومة الإنجليزية على المشروع بمجرد نشر «الفرمان» الأول، مثيرة مشكلة كيفية توفير الأيدي العاملة لمشروع ضخم كهذا، وهو السبب عينه الذي سبق أن اعترضت بسببه الدولة العثمانية على المشروع، بالإضافة إلى خشية الأخيرة من تدفق العمالة الأجنبية على مصر لتصبح السويس مستعمرة فرنسية بدورها.

فور صدور «الفرمان» الخديو الأول؛ زار دي لسبس منطقة برزخ السويس ومعه مجموعة كبيرة من أصدقائه الأجانب، ورافقه في تلك الرحلة «لينان بك» و«موجل بك» كبيرا مهندسي الحكومة المصرية في ذلك الوقت – وكلاهما أوروبي الأصل- وكان الغرض من تلك الرحلة دراسة المشروع على الطبيعة وإقرار مبدأ حفر القناة على خط مستقيم مباشر بين البحرين المتوسط والأحمر، وقد تحملت الحكومة المصرية نفقات الرحلة كاملة، والتي استمرت قرابة ثلاثة أسابيع وانتهت في 15 يناير (كانون الثاني) 1855.

وإن كنا لا نعرف تقديرًا دقيقًا لتكاليف تلك الرحلة، فإنه من الممكن لنا تكوين فكرة عامة عن التكلفة الكلية؛ إذا علمنا أنه بمجرد وصول المجموعة من أوروبا إلى القاهرة أضفى عليهم الخديو سعيد باشا كل مظاهر التقدير ووضع تحت تصرفهم كل ما يحتاجونه من سفن نيلية وقطارات سكك حديدية وموظفين وخدم؛ وفتح لهم اعتمادًا ماليًّا إضافيًّا قدره 300 ألف فرنك فرنسي، أي ما يقارب 12 ألف جنيه مصري وهو مبلغ ضخم بالنسبة لقيمة النقد في ذلك الوقت عام 1855.

وفي 5 يناير عام 1856م استصدر دي لسبس من سعيد باشا فرمان الامتياز الثاني وقانون الشركة الأساسي وقد نصت مواد ذلك الفرمان الثاني على أن عدد العمال المصريين لدى الشركة يجب أن يكون على الأقل أربعة أخماس (80%) من العدد الكلي للعمال، كما نص على أن الشركة ستبيع مياه النيل للمزارعين المصريين الراغبين في ري أراضيهم الواقعة على حافتي ترع الماء العذب التي ستحفرها الشركة.

منحت الحكومة المصرية للشركة الفرنسية أراضي شاسعة دون مقابل، كما منحتها الحق في استخراج جميع المواد اللازمة لعمليات الحفر وصيانة المباني والمنشآت التابعة للمشروع من المناجم والمحاجر الأميرية (الحكومية) دون مقابل، بل معفاة من جميع الضرائب والرسوم والتعويضات أيضًا.

كان لدى الشركة إعفاء جمركي على جميع ما تستورده من الخارج أيًّا ما كان، كما نص فرمان الامتياز الثاني على تعيين دي لسبس رئيسًا ومديرًا لشركة القناة لمدة 10 سنوات تبدأ من يوم سريان مدة الامتياز، وأخيرًا أشهر الشروط والذي نص على أن تكون مدة الامتياز 99 عامًا، تبدأ من تاريخ افتتاح القناة للملاحة البحرية الدولية.

كانت حصة الحكومة المصرية من صافي الأرباح هي 15% ترتفع كل مدة – غير محددة- بمقدار 5% على ألا تتجاوز هذه الحصة بأية حال من الأحوال 35% من أرباح الشركة الصافية.

وقد احتفظ الخديو سعيد بشرط حتمي للبدء في تنفيذ المشروع، وهو ضرورة تصديق السلطان العثماني على فرمان الامتياز الثاني الذي نص في مادته الأخيرة – مادة رقم 23 – على إلغاء جميع النصوص المتعارضة معه في فرمان الامتياز الأول للبدء في حفر قناة السويس بعد صدور التصريح بذلك من الباب العالي (الدولة العثمانية).

بالإضافة لما سبق كانت هناك مشكلة قانونية فيما يخص تلك «الفرمانات»، التي أصدرها الخديو سعيد باشا بوصفها قرارات خديوية (حكومية) في المقام الأول لكن دي لسبس وشركاءه تعاملوا معها بوصفها عقودًا ملزمة بين طرفين، ولهذه المشكلة القانونية تبعات مهمة أدخلت الحكومة المصرية متاهة التحكيم الدولي الذي سرعان ما أغرقها في بحر من الديون التي سنعرفها لاحقًا.

كيف ستُحفر القناة إذن؟

لم تتضمن الفرمانات التأسيسية ولا قانون الشركة الأساسي أية معلومات أو إرشادات عن كيفية توفير العمالة اللازمة لحفر القناة، وكان تدخل الحكومة المصرية لجمع العمال من أجل المصلحة العامة مثل حفر الترع أو مد خطوط السكك الحديدية أمرًا مألوفًا في ذلك الوقت، بل كان نظام السخرة يعد تأدية عملية للضرائب تتناسب مع الحالة الاقتصادية آنذاك، إلا أن رغبة دي لسبس في تدخل الحكومة لجمع مئات الآلاف من العمال المصريين وإجبارهم على العمل في حفر القناة خالف الحالة القانونية للشركة، لأنها مكلفة بالقيام بنفسها بتدبير وسائل تنفيذ المشروع.

تاريخ

منذ سنة واحدة
«فورين بوليسي»: كيف حوَّل الاستعمار البحر الأحمر إلى بقعة صراع لا تهدأ؟

احتوت لائحة العمال سالفة الذكر على إحدى عشرة مادة، كانت المادة الأولى منها تُلزم الحكومة المصرية بتقديم العمال للشركة تبعًا لطلبات كبير مهندسي الشركة وطبقًا لاحتياجات العمل، ولم تُحدد تلك المادة عدد العمال الإجمالي أو الحد الأقصى لعددهم. وقد استغل دي لسبس هذه المادة الفضفاضة ليجمع 20 ألف مصري ثم زاد في الطلب ليصبحوا ما بين 30 إلى 40 ألف مصري يجري تغييرهم شهريًّا للعمل في حفر القناة، وهو عدد ضخم مقارنة بتعداد سكان مصر آنذاك.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد كانت مصر دولة زراعية في ذلك الوقت، ولذا وجب توزيع عمال الحفر – وهم في أساسهم مزارعون- على مواسم الزراعة بنسب متقاربة طوال العام لتفادي إهمال الزراعة على حساب الحفر، إلا أن حشد العمال المصريين للعمل في القناة كان يجري خلال المواسم الزراعية كافة.

أما عن متوسط الأجور فقد حددت الشركة أجر العامل بمبلغ يتراوح ما بين 2.5 – 3 قروش في اليوم، وإذا كان سن العامل يقل عن 12 سنة كان يتقاضى قرشًا واحدًا في اليوم وهي مبالغ زهيدة للغاية حتى بمقاييس العصر، مقارنة بحجم المتاعب في مواقع الحفر مثل بُعد المسافة عن قرى العمال – كان معظمهم من الوجه البحري ودلتا النيل- والصحراء الشاسعة المحيطة بهم وأخيرًا شبح العطش الذي كان يخيم باستمرار على ساحات الحفر بسبب عدم توافر مياه عذبة صالحة للشرب.

قدمت الشركة الخبز المقدد «الجراية» إلى كل عامل بعد خصم ثمنه – قرش واحد – من يومياتهم، واحتفظت لنفسها بحق حجز أجر 15 يومًا من كل عامل ضمانًا لعدم تركه العمل، وقد اعتمدت الشركة على نظام قاسٍ للعمل عُرف لدى الحكومة المصرية بـ«المقطوعية»، وهو العمل من بزوغ الفجر حتى مغيب الشمس تحت وطأة السوط «الكُرباج»، وقد استخدم هذا النظام أيضًا محمد علي باشا في حفر ترعة المحمودية، كما أخبرنا الجبرتي.

أعفى الخديو سعيد باشا الشركة من عبء ترحيل العمال إلى ساحات الحفر، وتكفلت الحكومة المصرية بنقلهم على نفقتها سواء على متن السفن النيلية أو في قطارات السكك الحديدية.

كان دي لسبس سعيدًا بلائحة العمال التي نجح في استصدارها من الخديو سعيد، وسرعان ما استغلها لعمل دعاية للشركة وزار في أبريل (نيسان) 1857، عددًا كبيرًا من المراكز الصناعية والتجارية في إنجلترا- أول معارضي المشروع- عقد خلالها 22 اجتماعًا عُرفت باسم «الاجتماعات الإنجليزية».

سعى دي لسبس في تلك المرحلة لطرح أسهم الشركة الفرنسية للاكتتاب في البورصات الأوروبية، وعلى رأسها بورصة لندن، وكذلك اجتذاب المزيد من المستثمرين الأوروبيين بعد أن أوضح لمستمعيه الوفرة الضخمة من العمال المصريين الموجودة تحت تصرفه بأجورهم الزهيدة وقدرتهم على العمل في ظروف قاسية لن يعمل فيها العامل الأوروبي أبدًا.

تضمنت عقود الامتياز الأول والثاني شرطًا حتميًّا وهو ضرورة تصديق السلطان العثماني على العقد قبل البدء في تنفيذ عمليات حفر القناة، وقد بذل دي لسبس محاولات مضنية طيلة أربع سنوات (1855– 1858) للحصول على تلك الموافقة، إلا أنه لم يحصل عليها.

صورة فوتوغرافية للعمال المصريين في ساحات الحفر، من حملات الشركة الدعائية

دي لسبس يفرض سياسة الأمر الواقع

في النهاية تجاهل دي لسبس هذا الشرط الحتمي وطرح أسهم الشركة للاكتتاب العام في البورصة، وكان يستهل منشورات الاكتتاب بهذه العبارة «فرديناند دي لسبس صاحب امتياز قناة السويس. بمقتضى التوكيل الصادر له من حضرة صاحب السمو والي مصر يفتتح اكتتابًا عامًّا»، وسرعان ما أقام الكيان القانوني والاعتباري للشركة. وخلافًا لتوقعات دي لسبس فشلت الشركة في بيع جميع أسهمها البالغ عددها 400 ألف سهم بقيمة 500 فرنك فرنسي للسهم الواحد.

فرغم تقديمه تسهيلات في الدفع ومنح المستثمرين الأجانب إمكانية الدفع على أقساط مريحة؛ فإن المدة المحددة لقبول الاكتتاب وهي الفترة من 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1858 حتى يوم 30 من الشهر نفسه، انتهت دون بيع جميع الأسهم، وبقي لديه 117 ألف سهم أي أكثر من رُبع عدد الأسهم.

وهنا أصبح دي لسبس في مشكلة حقيقية، فلا بد من تغطية رأس المال بالكامل قبل تأسيس الشركة طبقًا للمادة الرابعة من قانون الشركة الأساسي الصادر في 5 يناير (كانون الثاني) 1856، إلا أنه تجاهل تلك المادة وأعلن تأسيس الشركة باكتمال عناصر قيامها وأرسل خطابًا للجرائد الفرنسية في 9 ديسمبر (كانون الأول) 1858 يُعلن فيه أن جميع الأسهم قد بيعت في البورصة وبعد مرور ستة أيام من إرسال هذا الخطاب، وتحديدًا فى 15 ديسمبر 1858 انتهى دي لسبس من تكوين شركة قناة السويس بمجلس إدارة فرنسي كان ضمن أعضائه ابن عم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، الأمير جيروم نابليون، ولم يُعين دي لسبس مصريًّا واحدًا في ذلك المجلس.

المزيد من السُخرة والأوبئة القاتلة

سافر أعضاء لجنة الشركة برئاسة دي لسبس من القاهرة إلى منطقة الحفر، وبعد وصولهم إلى مدينة دمياط، اتجهوا إلى البقعة التي اختيرت لتكون بداية لعمليات الحفر. وفي 25 أبريل (نيسان) 1859 أُقيم حفل متواضع إيذانا بالبدء في عمليات الحفر، وفي 6 أغسطس 1860 عقد دي لسبس اتفاقًا ماليًّا مع الحكومة المصرية باعها خلاله أسهم الشركة المتبقية!

كان دي لسبس بحاجة لزيادة عدد عمال السخرة، فاستعان بنفوذ الإمبراطورة أوجينى زوجة نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، ليطالب بزيادة عدد العمال إلى 30 ألف عامل في الشهر، ولما كان الخديو سعيد هو حائز أكبر عدد من الأسهم في المشروع لم يشأ أن يرى المشروع يفشل، فأمر بإرسال 5 آلاف جندي من جنود الجيش المصري الذين قاربوا إتمام مدة خدمتهم العسكرية إلى ساحات الحفر للعمل بالسخرة.

وبدأت حركة واسعة من جمع المزارعين المصريين للعمل بحفر القناة وجعل الخديو سعيد مشايخ البلاد هم المسؤولين عن جمع العمال من قراهم وتسليمهم إلى البوليس الذي يسلمهم بدوره إلى مندوب الشركة في مدينة الزقازيق، محافظة الشرقية، وقد كانت أقرب نقطة لتجميع العمال ومن ثم ترحيلهم إلى ساحات الحفر في القناة.

ولنكوِّن صورة ذهنية عن كيفية تجميع العمال وسفرهم فقد كان ترحيل عمال الوجه القبلي – على سبيل المثال- يتم من خلال السفن النيلية التي تجمعهم من قرى صعيد مصر إلى القاهرة ثم يسافرون من القاهرة إلى مدينة بنها وأخيرًا يصلون إلى المحطة الأخيرة وهي مدينة الزقازيق، وهنا يتوجب عليهم السير على أقدامهم لمدة أربعة أيام في صحراء قاحلة تحت حراسة مشددة خوفًا من هروبهم.

وخلال دورة تستمر شهرًا واحدًا يعمل المزارعون في ساحات الحفر ثم يجري تغييرهم بوفد آخر جديد، ولم تكن الحكومة أو الشركة تتكفلان بإعادة العمال إلى قراهم، وبسبب عملية التغيير الدورية تلك كان يتغيب نحو 60 ألف عامل عن حقولهم شهريًّا مما تسبب في فساد الدورة الزراعية في البلاد وإهمالها، ومن ثم أثر في إنتاج المحاصيل. كما أن العمل في ساحات الحفر لم يكن يتوقف حتى خلال شهر رمضان، فقد كان العمال يحفرون طيلة الليل منذ غروب الشمس وحتى بزوغ فجر اليوم التالي.

صورة فوتوغرافية لنقل المياه العذبة على ظهور الجمال

لم تكن المياه العذبة الصالحة للشرب متوفرة بمناطق الحفر، فكانت الشركة تجلب المياه في براميل تحملها الجمال على ظهورها مما تسبب في موت العديد من العمال من شدة العطش، رغم أن دي لسبس كان قد وعد بأنه سيقوم بحفر ترعة للماء العذب أولًا قبل بداية عمليات الحفر لتوفير المياه للعمال، وهو ما لم يفِ به.

أنشأت الشركة مركزًا طبيًّا في منطقة الحفر، بمنطقة طوسون جنوب بحيرة التمساح، لعمالها الأجانب بإشراف طبيب وصيدلي ونصبت مبنى خشبيًّا، بينما كان المرضى من العمال المصريين ينامون فى العراء بالقرب من هذا المركز الطبي دون أي عناية تذكر.

وكانت أكثر الأمراض انتشارًا بين العمال المصريين في ساحات الحفر هي النزلات الشعبية الحادة والأمراض الصدرية والرمدية، وحالات الإسهال الشديد والدوسنتاريا، وأمراض الكبد، وكلها أمراض وردت في التقارير السنوية الصادرة في الفترة من 1860 إلى 1865 لكبير أطباء الشركة د. أوبرت روشيه، ومحفوظة في مكتبة بلدية الإسكندرية.

وكان انتشار الرمد تحديدًا، وفق ما قال أحد أطباء الشركة ويدعى د. بوجوا، يرجع إلى طبيعة المنطقة الصحراوية ذات البرودة الشديدة ليلًا عقب الحرارة العنيفة نهارًا، مع ظروف مبيت العمال المصريين في العراء.

كما انتشرت بين العمال المصريين أوبئة مثل التيفود والتيفوس والجدري والكوليرا والحمى الراجعة، ولم تكن هناك حمامات عامة أو أماكن يغتسل فيها العمال في ساحات الحفر مما ساهم في زيادة الأوبئة وانتشارها، وفي شتاء 1863- 1864 انتشر بين العمال المصريين في منطقة «الشلوفة» مرض الدوسنتاريا إلى أن أصبح وباءً بينهم، ويمكن اعتبار هذا الوباء تحديدًا وباءً محليًّا لأنه نشأ في ساحات الحفر ولم يحمله أحد إلى المنطقة من الخارج مثل سائر الأوبئة، كما اقتصر نشاطه على العمال المصريين دون العمال الأجانب، ويرجع إلى أن شتاء ذلك العام كان شتاءً قارس البرد وكان العمال المصريون يبيتون في العراء بخلاف نظرائهم الأجانب الذين كانوا يبيتون في أكشاك خشبية صنعتها الشركة خصيصًا لهم.

الديون والتحكيم الدولي

كان من المفترض أن تلغي الحكومة المصرية نظام السخرة في حفر القناة اعتبارًا من أول فبراير (شباط) 1864 وهو نهاية مهلة الستة أشهر التي حددها الباب العالي (الدولة العثمانية) في مذكرته لإسماعيل بتاريخ أول أغسطس (آب) 1863، لتسوية النزاع بين مصر «الولاية العثمانية» والشركة الفرنسية، وقررت الدولة العثمانية آنذاك، أنه إذا انتهت تلك المهلة دون الوصول إلى تسوية الخلاف فإن على الخديو إسماعيل التوقف عن إرسال عمال السخرة إلى منطقة القناة.

وفي 16 يناير (كانون الثاني) 1864، أرسل دريون دي لويس وزير خارجية فرنسا بناء على أمر الإمبراطور برقية إلى القنصل الفرنسي في مصر السيد تاستي، كي يطلب من الخديو إسماعيل مد المهلة شهرين، وبعد مضي الشهرين اتصلت الخارجية الفرنسية بالحكومة التركية لتطلب إطالة مدة المهلة شهرين آخرين ينتهيان في 31 مايو (أيار) 1864.

وتحت ضغوط متعددة من الباب العالي بتركيا، أراد الخديو إسماعيل الذي تولى بعد الخديو سعيد، إنقاص عدد عمال السخرة تمهيدًا لإلغاء نظام العمل بالسخرة في القناة، لكن الشركة الفرنسية رفضت ذلك باستماتة متمسكة بلائحة الشركة التي صدرت في عهد الخديو سعيد، والتي تنص على أن الحكومة المصرية هي الملزمة بتوفير عدد العمال الذي تحتاجه الشركة (دون حد أقصى لهذا العدد) وبناءً عليه شكلت الشركة الفرنسية لجنة لدراسة الموقف وحل النزاع بينها وبين الخديو إسماعيل.

وقد قررت اللجنة أن لائحة العمال التي أصدرتها الشركة في عهد الخديو سعيد هي عقد وليست مجرد لائحة لتسيير العمل، وعليه فإن فسخ هذا العقد من جانب واحد وفق رغبة الحكومة المصرية يستوجب دفعها تعويضًا للطرف الآخر (الشركة الفرنسية) وقدرت هذا التعويض بمبلغ 42.5 مليون فرنك فرنسي خصمت منهم مبلغ 4.5 مليون فرنك فرنسي قيمة أجور متأخرة على الشركة للعمال المصريين، لتبقى الحكومة المصرية مدينة للشركة بنحو 38 مليون فرنك فرنسي.

لجأ الخديو إسماعيل إلى طلب تحكيم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا بينه وبين الشركة الفرنسية، إلا أن المحكمة الفرنسية «محكمة السين التجارية»، ولجنة تحكيمها برئاسة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث أصدرت حكمًا بدفع الحكومة المصرية مبلغ 84 مليون فرنك فرنسي مقابل إلغاء نظام السخرة في حفر القناة واسترداد جزء من الأراضي الممنوحة مجانًا للشركة، وهو مبلغ يوازي 3360000 مليون جنيه مصري وقتها، وهو مبلغ ضخم للغاية بمقاييس ذلك الوقت.

حتى إن الكاتب والمحلل الاقتصادي فيدور أرونوفيتش روتشتن في كتابه «Egypt’s Ruin, a Financial and Administrative Record» وصف هذا الحكم قائلًا: «إن هذا الحكم لم يكن غير سرقة من سرقات عدة أذعنت فيها مصر لأوروبا المستنيرة الفاضلة». كما صرح قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في مصر آنذاك – وكان قاضيًا بالمحاكم المختلطة أيضًا- بأن هذا الحكم قد أدهش جميع رجال القانون في أوروبا ولولا أنه اتسم بالجدية لعُدَّ «تحفة قضائية » على حد تعبيره.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحكومة المصرية – وبضغط من الباب العالي- لم تنتظر صدور حكم الإمبراطور الفرنسي بإلغاء السخرة في حفر قناة السويس، وأوقفت إرسال عمال السخرة إلى ساحات الحفر اعتبارًا من أول يونيو (حزيران) 1864، وسرعان ما أخطرت الشركة وزير خارجية فرنسا بموافقتها على مبدأ الإلغاء في مقابل تعويض قدرته بمبلغ 57 مليون فرنك فرنسي – أقل من المبلغ المقرر سلفًا- وهو تحول لم يكن مفاجئًا في ظل رغبة الشركة في الاستفادة من ارتفاع أسعار القطن المصري بسبب زيادة الطلب عليه أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، فكان القطن المصري حينها يعد الذهب الأبيض الذي كانت له بورصة للقطن بالإسكندرية.

وخلال سنوات السُخرة، نقل العمال المصريون جبلًا يرتفع 19 مترًا عن سطح البحر ويمتد مسافة 14 كيلومترًا، ثم شقوا مجرى للقناة الملاحية مكانه، وكل ذلك باستخدام القفف والفئوس فقط لا غير، يضاف إلى ذلك عمليات متعددة قام بها العمال المصريون لتعمير منطقة القناة من بناء المدن الجديدة مثل مدينة بورسعيد ومدينة الإسماعيلية، وكذلك إقامة المنشآت والمبانى المختلفة لأجهزة الشركة الإدارية المتنوعة.

وحتى بعد إلغاء العمل في نظام السخرة اقترن هذا الإلغاء باستفادة كبيرة للشركة الفرنسية التي تحصلت على التعويضات المالية الضخمة التي قررها لها حكم الإمبراطور الفرنسي من الحكومة المصرية، وكانت مبالغ التعويضات هذه مجتمعة تقترب من نصف رأس مال الشركة الأساسي فاستطاعت الشركة بعد ذلك أن تستمر في الحفر بالوسائل الميكانيكية والحفارات التي استوردتها من أوروبا، بعد أن ذلل عمال السخرة كل الصعاب في سنوات الحفر الأربعة الأولى!

ديليسبس الذي لا نعرفه.. أيقونة «تنزيه الاستعمار» وحاكم مصر الفعلي!

تمثال دي لسبس بمدخل القناة أثناء إزالته من قبل أهالي بورسعيد بعد تأميم قناة السويس، ويكيبيديا

فيما تقدم تعرفنا خلال رحلة قصيرة إلى أهم المحطات الرئيسة في عملية حفر قناة السويس، وما تخلله من معاناة ومعاملة غير آدمية للعمال المصريين وتدمير اقتصاد البلاد وإغراقها في حلقة مفرغة من الديون التي لا تنتهي.

قناة السويس ذلك المشروع الذي كان رائده الأول وراعيه الفرنسي فرديناند دي لسبس، والذي لم يكن متخصصًا في الهندسة بالفعل أو حتى على دراية بها، لكن علاقته بذوي النفوذ وأصحاب السلطة خاصة الخديو سعيد؛ مكنته من أن يكون «الرجل الأول» في مصر، حتى وإن لم يكن ظاهرًا في الصورة، وإن ظلت مسألة إعادة تمثاله إلى مكانه تثير الكثير من الجدل والتساؤلات عن حقيقة الرجل ودوره في تسخير آلاف المصريين وقتلهم.

عن مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمتابعة مستقبل العالم و الأحداث الخطرة و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم في العالم على الكلمة وترابطها بالتي قبلها وبعدها للمجامع والمراكز العلمية و الجامعات والعلماء في العالم.

شاهد أيضاً

يونسکو ترفض : طلب مصر إجراء تعديل لتقليص حدود القاهرة التاريخية المدرجة لديها

 شفقنا : يونسکو : مصر طلبت إجراء تعديل علی حدود القاهرة التاريخية أکدت لجنة التراث …