محمد سيدمو
في ظرف وجيز، تحوّلت بصمة الجزائر العاصمة، في أعين زائريها، من مقام الشهيد، ذلك الصرح ثلاثي الأبعاد الذي شيد في سنوات الثمانينات تخليدا للوطنية الجزائرية، إلى جامع الجزائر، ذلك المبنى الفخم الذي ينتصب قبالة البحر المتوسط، ويمثل بكل تفاصيله المرجعية الدينية الجزائرية التي يراد لها أن تعود لتأخذ مكانها المتسيد في زمن تلاطم الأفكار الدينية وتصارعها على من يحتل عقل وقلب الجزائري المتدين بالفطرة. وليس الانجذاب لجامع الجزائر، كما هي تسميته الرسمية، غريبا، فقد صُمّم لا ليكون مكانا لاحتضان الصلوات فحسب، بل مركزا متكاملا يتيح لزائره متعة روحية وبصرية، عبر زخرفاته البديعة وحدائقه الفسيحة وإطلالاته الأخاذة على خليج العاصمة من علو مئذنة هي الأكثر ارتفاعا في العالم.
ويستمد تصميم المسجد الذي فاز قبل سنة بالجائزة السنوية لمتحف «شيكاغو أثينيوم» للهندسة المعمارية، عناصره من المعمار الإسلامي بشكله الهندسي الذي يظهر في خطوطه المستقيمة وزواياه القائمة، وهو يمثل وفق بعض المعماريين، امتدادا بلمسات عصرية للبناية الأندلسية. ويضم هذا الصرح الممتد على 300 ألف متر مربع، وفق ما تشير بطاقته الفنية، 12 بناية متواصلة ومتكاملة، منها قاعة صلاة تتسع لأكثر من 120 ألف مصل بها محراب نحت من الخشب الفاخر وزين بزخارف من التراث الجزائري، تعلوها قبة مزخرفة بخطوط هندسية ودوائر تأخذ اللون الذهبي. أما أبدعُ ما في المسجد، فمئذنته التي يفوق علوها 265 مترا وتتشكل من 43 طابقا، منها 15 طابقا تحتضن متحفا حول تاريخ الجزائر وطوابق أخرى تحتضن مركزا للبحوث والدراسات الإسلامية، بينما يوجد في القمة منظار يشد الأبصار نحو خليج العاصمة ومعمارها.
ويصف عبد العالي زواغي الكاتب المهتم بالتراث والفلسفة، المسجد في حديث مع «القدس العربي» بأنه «معمار إسلامي مدهش وجالب للمتعة البصرية، فهو منشأة فائقة الجمال وشديدة الضخامة، كسر بصورته وتصميمه الحديث، نمط البناء المسجدي السائد عندنا، فغدا تحفة هندسية تبعث على الفخر والاعتزاز بانتمائنا الحضاري الحقيقي ومكانة الجزائر الإسلامية والعالمية، فهو أكبر مسجد في أفريقيا والثالث في العالم بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، ومئذنته الأكبر في العالم علاوة على كونها منارة للسفن، إضافة إلى الهياكل العلمية والثقافية العديدة التي يحتويها والمتفردة في حجمها وقدراتها الاستيعابية، ما يجعله مزارا دينيا سياحيا لا يمكن مقاومة وهجه وجماله بالنسبة لمن يزور الجزائر العاصمة، سواء من الجزائريين أو الأجانب».
الجامع ورمزية المكان
وأمام الرغبة الجارفة في الاطلاع على مكنونات هذا الصرح، رخّصت إدارة المسجد بالزيارة في أوقات محددة باليوم، كون الجامع لم يفتح أبوابه بعد للمصلين، وهو ينتظر إشارة السلطات الرسمية التي يفترض أن تكون في بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، تزامنا مع ذكرى اندلاع الثورة التحريرية وتوافقا مع تاريخ انعقاد القمة العربية. ومنذ فترة، أصبح الجامع يؤدي دورا دبلوماسيا، فأغلب الوفود الأجنبية التي تحل بالجزائر يخصص لها وقت للزيارة. وينتظر أن يكون الجامع محطة زيارة رئيسية للحكام العرب الذين سيزورون الجزائر بمناسبة القمة العربية، وقد أوحت بذلك زيارة الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط للمسجد قبل أشهر وتعبيره عن إعجابه الشديد بما رآه. وفي الأسابيع الأخيرة، كان من أبرز الزوار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي طاف بأرجاء المسجد ثم دخل قاعة الصلاة وتأمل طويلا في زخارفها. واسترعت تلك الزيارة بشكل خاص الاهتمام، لأن الرمزية كانت بالغة، فالأمر يتعلق برئيس دولة استعمرت الجزائر قرنا و32 سنة، وسعت بكل الطرق لتنصير شعبها وسلخه عن هويته، والمكان الذي وقف فيه ماكرون شاهدٌ على ذلك، فقد اتخذه أحد عتاة المنصرين لافيجري، مقرا لكنيسته في فترة الاستعمار، بينما يزوره الرئيس الفرنسي اليوم وقد تحول في الجزائر المستقلة لثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين.
ولعل من أهم عناصر قوة المسجد، وفق عبد العالي زواغي، هو المكان الذي انغرس فيه، «فهو يمتد على طول خليج الواجهة البحرية للجزائر، التي كانت على مر التاريخ نقطة المواجهة ضد الحملات الصليبية لغزو البلاد» كما أن المكان الذي بني فيه يحمل -حسبه- رمزية كبيرة جدا، على اعتبار أن «المحمدية (مدينة أخذت هذا الاسم بعد الاستقلال في الضاحية الشرقية للعاصمة) كانت بؤرة تنصيرية استغلها الكاردينال الفرنسي لافيجري في التأسيس لمدرسة تكوين الرهبان والراهبات بغرض تنصير الجزائريين مقابل مقايضتهم برغيف الخبز، وكذا بعث الإرساليات نحو أفريقيا لنفس الغرض، لهذا يكتسب مسجد الجزائر قوة ورمزية إيحائية كبيرة جدا لا يمكن القفز فوقها عند الحديث عن المكان».
ولم يأت شحن المسجد بكل هذه الرمزية اعتباطا، في تقدير عدة فلاحي المستشار السابق بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف الذي يعود في تصريحه لـ«القدس العربي» إلى فكرة البناء وخلفياتها. ويقول إن التفكير في تشييد هذه المؤسسة يعود إلى عهد الرئيس الراحل هواري بومدين مع وزيره المقرب مولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان يشغل منصب وزير الشؤون الدينية والتعليم الأصلي، ففي حديث جرى بينهما، وفق ما يروي فلاحي، قال بومدين وهو خريج الأزهر، لتونس الزيتونة وللمغرب القرويين ولمصر الأزهر وماذا للجزائر؟ فنتج عن هذا القلق الديني والحضاري، جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة التي تأسست في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد ولكنها تعثرت بسبب دوامة الإرهاب والعنف الذي زحف على الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي. ثم جاء الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وقرر بناء جامع الجزائر في منطقة كانت تحمل اسم المبشر بالمسيحية خلال الاستعمار الفرنسي لافيجري، ولهذا الفعل، حسب المتحدث، دلالة ورسالة لا يغفلها عاقل.
ويعتقد النائب السابق، أن تجسيد جامع الجزائر على أرض الواقع هو امتداد لفكرة بومدين، «من أجل ترسيم مفهوم المرجعية الدينية الوطنية التي حوربت وضربت في الصميم من تيارات ومذاهب ومدارس أجنبية لا علاقة لها بتراثنا الديني والحضاري بل تسببت في كثير من الفتن والصدامات التي هددت الأمن والانسجام الاجتماعي والوحدة الوطنية». ويستغرب فلاحي، وجود أطراف حاربت بناء المسجد في الماضي، بحجج متعددة تحت غطاء أيديولوجي، مشيرا إلى أن «هناك بيننا من لا يستوعب فلسفة الهوية وأهميتها في تاريخ الشعوب والأمم». وضرب مثالا بما حدث في فرنسا التي تعد قلعة العلمانية، ومع ذلك لم يخف رئيسها دموعه عندما احترقت كاتدرائية نوتردام بباريس ووعد ببنائها وترميمها لإعادتها كما كانت في الأصل، لأنها تمثل «جزءا من تراث فرنسا وهويتها».
رهان المرجعية
وظلت المرجعية الدينية الرسمية في الجزائر، ثابتة على مدى قرون، على المذهب المالكي مع الاعتزاز بالتراث الصوفي الذي لا تزال الجزائر إحدى أبرز عواصمه في العالم باحتضانها لمراكز روحية يتبعها الملايين في العالم مثل الزاوية التيجانية. وقد يفسر ذلك، اختيار الشيخ محمد مأمون القاسمي الحسيني ليكون عميدا للمسجد مع ترفيعه لرتبة وزير، وهو عالم متوصف نشأ وتربى في الزوايا الدينية التي هي إحدى أهم مراكز تحفيظ القرآن الكريم وتعليم الفقه وأصوله على مذهب الإمام مالك. ولاقى تعيين الشيخ القاسمي، اعتراضا من تيارات سلفية على خصومة مع الصوفية، عرف حضورها مدا كبيرا في السنوات الأخيرة، وهي تتبع مراجع دينية في الخارج، ويعتبر المدافعون عن المرجعية الوطنية أفكارها دخيلة على المجتمع الجزائري. ويغوص الباحث في علم الاجتماع، نوري دريس، أكثر في الأبعاد التي دفعت لبناء المسجد بهذه التكلفة التي ناهزت المليار دولار. ويوضح في حديثه مع «القدس العربي» أن الرعاية الرسمية للجامع تندرج ضمن محاولة استعادة الدولة لهيمنتها على المجال الديني بشكل عام والذي فلت منها خلال الثمانينات والتسعينات ودفعت الجزائر ثمن ذلك غاليا. ويبرز أن «استعادة الهيمنة على المجال الديني يحتاج إلى رمزية وطنية قوية والجامع الأعظم أحد هذه الأدوات، فهو يرمز إلى دولة الاستقلال التي تحترم الإسلام عكس ما يتهمها به الإسلاميون المتطرفون، فهي ليست عميلة الاستعمار ولا امتدادا له مثلما هو حاصل في بعض البلدان المستقلة حديثا، لأنها تعمل على محو الرمزية الاستعمارية التي مثلها الكاردينال لافيجري وغرس مكانه رمزية إسلامية وطنية».
ويشير دريس إلى أن المجتمع لكي يستعيد ثقته في الدولة ويتوقف عن النظر إليها على أنها «طاغوت» (تعبير أطلقه عليها الإسلاميون المتطرفون خلال الثمانينات والتسعينات) كان يجب عليها القيام بشيء ضخم وغير مسبوق، فتجسد هذا في بناء أحد أكبر المساجد في العالم. ويلفت هنا إلى أن جزائر ما بعد العشرية السوداء تريد سد جميع المنافذ التي يمكن ان يتسرب منها خطاب تكفير الدولة، فخصصت حسبه، ميزانية ضخمة لذلك، لا يمكن أن تكون تبذيرا للمال العام، بل هي مندرجة ضمن مسعى استعادة المجال الديني من المتطرفين. من جانب آخر، فإن الاختراق الديني وصناعة الطوائف، حسب الباحث، بات يمثل إحدى أدوات التفتيت الحالية، وصناعة هوية دينية وطنية (مرجعية دينية جزائرية) يقودها جامع الجزائر الأعظم، يمكن مواجهة هذه المؤامرات.
ويخلص دريس في تحليله إلى أن الاختزالات التي تقول بأن السلطة تستغل الإسلام سياسيا، غير معقولة قياسا إلى تجربة التسعينات التي أدى فيها ترك المساجد في يد المتطرفين إلى مأساة العشرية السوداء. ويضيف: «بالطبع لا يمكن للدولة أن تكون في تناقض مع دين الجزائريين، وأن يستغل الدين من طرف الدولة من خلال احتكار الفتوى واحتكار صياغة المقررات التعليمية في المدرسة والزوايا والمدارس القرآنية أفضل من تركه للاستغلال والتجاذب من طرف الأحزاب والتيارات الايديولوجية، بل إن هذه مهمة الدولة أساسا ولا يمكن ان تتركها لغيرها».
والمأمول من جامع الجزائر، وفق عبد العالي زواغي، أن يكون بزخم روحي إسلامي وفكري يليق بالأمة الجزائرية وبحجمها وبقيمتها العقدية والرسالية المتعالية، ليبرز جيدا مرجعيتها الدينية وموروثها الثقافي والتاريخي المتميز، وأن يساهم في ضخ القيم الإسلامية الصحيحة التي تعكس روح الإسلام الوسطي الخالي من أي تشدد، وترسيخ الهوية والشخصية الجزائرية التي نافح عنها العلامة ابن باديس والشيخ الابراهيمي وغيرهما من علماء الجزائر الأجلاء قديما وحديثا، من خلال قيام هذا المسجد بأدواره الدينية والمجتمعية والتربوية والإصلاحية الكاملة. ويؤكد المتحدث أن المسجد في الجزائر «كان دائما مدرسة ومشفى روحيا ومنبرا فكريا دينيا، ومكانا لتكوين العلماء والقادة والمؤثرين الإيجابيين داخل المجتمع الإسلامي، فهو الفضاء حيث يُبنى الإنسان المسلم الحقيقي المنخرط في الحركية التاريخية والحضارية التي يشهدها العالم».