جامع السلطان قابوس الأكبر.. تحفة فنية تحتضنها عُمان

منذ عام 1970 بدأت سلطنة عُمان تشهد انتعاشاً افتصادياً غير مسبوق، حيث بدأت بتصدير النفط، ليعود عليها بمردود مالي كبير دفعها باتجاه النمو والتطور، وهو العام الذي تولى فيه الراحل السلطان قابوس الحكم بالبلاد.

تلك النهضة شملت العمارة والفنون بمختلف فروعها، بالارتكاز على تاريخ عريق يستند إليه هذا البلد الخليجي، الذي تجسد فيه العمارة والفنون قيمة تاريخية تمتد إلى سنين بعيدة.

كانت المساجد من بين فنون العمارة التي أخذت تنتشر في ربوع البلاد، مستندة بطبيعة الحال إلى تاريخ ثري من الفنون الإسلامية، التي تعتبر بيئة السلطنة وعمارتها إحدى ركائزها.

ومما يسجَّل لسلطان عُمان الراحل، قابوس بن سعيد، اهتمامه الكبير ببناء مساجد تحمل قيمة فنية وجمالية عالية، فبالإضافة إلى المساجد التي تنشئها الجهات الحكومية المختصة، تولى تشييد مساجد حملت اسمه في مختلف ولايات البلاد، ويطلق عليها “المساجد السلطانية”، بلغ عددها 36 مسجداً.

تلك المساجد الـ”36” تتميز بقبابها ومنائرها التي تأخذ شكلاً يتجانس مع طبيعة التراث المعماري الإسلامي، في بعضها تطعيم من عمارة حضارات غير عربية؛ نتيجة تلاقح الحضارات الذي شهدته السلطنة؛ إذ كانت تعدّ مركزاً حيوياً وسوقاً نشطة، بسبب موانئها التي يؤمُّها التجار من مختلف بلدان العالم.

مسجد السلطان قابوس الأكبر

على مقربة من الطريق المؤدي إلى قلب العاصمة مسقط، يبرز جامع السلطان قابوس الأكبر في ولاية بوشر، ويعتبر تحفة معمارية فريدة، وهو الأفضل بين مساجد السلطنة على الإطلاق، من ناحية المساحة والشكل والفن والهندسة المعمارية.

والمسجد من تصميم المهندس المعماري العراقي محمد صالح مكيَّة، الذي فاز تصميمه في مسابقة أقيمت لاختيار أفضل تصميم لهذا المسجد.

استمر بناء الجامع ست سنوات، وتبلغ سعته الإجمالية 20 ألف مُصلٍّ.

بُني الجامع على مساحة تقدَّر بـ416 ألف متر مربع، حيث يتَّسع المصلى الرئيس لـ6500 مُصلٍّ، ويأخذ شكلاً مربعاً بقُبته المركزية التي ترتفع على سطح الفناء بـ50 متراً، وتعطي مع المئذنة الرئيسة الطابع الذي يمتاز به الجامع.

يربط قمة جدران المصلى والصحن الداخلي شريطٌ محفورة عليه الآيات القرآنية بخط الثُّلث، وتملأ الزخارف الهندسية الإسلامية أطر أقواس الأروقة، في حين تحتل أسماء الله الحسنى المحفورة بالخط الديواني واجهات الأروقة.

وتبدو الأروقة كَسورٍ أمين حول عمارة الجامع، لكنها تختتم بالمآذن الخمس التي ترسم حدود الموقع.

وتجتمع المآذن لترمز إلى أركان الإسلام الخمسة، ويصل طول كلٍّ من الرواق الشمالي والرواق الجنوبي إلى 240 متراً، وقُسمت هذه الأروقة إلى ردهات، كل ردهة تحتوي على زخرفة من حضارة إسلامية معينة.

تشكل هذه الأروقة الشمالية والجنوبية الحد الفاصل بين أماكن العبادة ومرافق الجامع الأخرى، وتُسقَّف فضاءات الأروقة بسلسلة من القباب الهندسية.

تكون جدران الرواق الجنوبي ساتراً مرئياً يضم مجموعة من مرافق الجامع، ومنها المكتبة التي تحتوي على 20 ألف مجلد مرجعي في شتى العلوم والثقافة الإسلامية والإنسانية، بالإضافة إلى معهد للعلوم الإسلامية يتلقى فيه الناشئة مختلف العلوم الفقهية، وقاعة للاجتماعات والندوات تتسع لثلاثمئة شخص.

جدران قاعة المصلى الرئيسة مكسوَّة بكاملها من الداخل بالرخام الأبيض والرمادي الغامق، وتحوي جدارياتٍ مشغولة بزخارف مورقة بنمط هندسي، والقاعة مصممة بمخطط مفتوح بأربعة أعمدة رئيسة، حاملةً لهيكل القبة الداخلي.

ويمتد بمحاذاة كل من الجدارين الشمالي والجنوبي رواق ينفتح على قاعة المصلى بأقواس مزيَّنة بزخرفة، والقبة تشكل مثلثات كروية ضمن هيكل من الأضلاع والأعمدة الرخامية الخالصة المتقاطعة بأقواس مدببة، مرصعة بألواح من القيشاني، وتمتد الألواح الخشبية في السقف بطراز ينبثق عن تطوير السقوف العمانية.

ونُقشت على الأبواب زخارف إسلامية تعلوها آيات قرآنية بخط الثلث، ويحتوي بعضها على مشربيات مبطَّنة بألواح الزجاج الملون؛ لتؤكد تواصُل المكان المخصص للصلاة ووحدته.

ويمثل انتقاء الأعمال الفنية في القاعات نماذج تطوُّر أشكال الزخارف المعمارية وتعددها، وثقافتها التي انتشرت بأنماط غنية من الأندلس إلى الصين.

وحُفرت الآيات الكريمة بالنسبة للمناطق الخارجية على حجارة بعمق 2 سم، بحيث تبقى ما بقي الجامع.

كُسيت أرضية بلاط المصلى بقطعة واحدة من السجاد العجمي، التي تغطي مساحة 4200 متر مربع، وهي مؤلفة من 1700 مليون عقدة، وتزن 21 طناً، وقد أُنتجت في أربع سنوات، واستُخدم في نسجها 28 لوناً بدرجات متنوعة، تمت صناعة غالبيتها من الأصباغ النباتية أو الطبيعية. واستغرق إنجازها نحو 27 شهراً.

ويُسمح لغير المسلمين بزيارة المسجد كل يوم عدا الجمعة من الساعة الـ8:30 وحتى الساعة الـ11:00 صباحاً، ويُطلب من الزائرين التزام زيٍّ يلائم أماكن العبادة، ويُطلب من النساء تغطية الشعر.

مساجد عمان.. فنون من العمارة الإسلامية

تعتبر مساجد سلطنة عُمان جزءاً من المساجد الإسلامية التي تحمل بصمات العمارة الإسلامية، بأقواسها ونقوشها المستلهمة من التراث العربي، بالإضافة إلى ما دخل عليها من تراث وثقافات شعوب أخرى.

وبحسب أستاذ مادة التصوير في كلية الفنون الجميلة ببغداد “ميثاق نعيم”، فإن المساجد الإسلامية تمثل أهم ملامح العمارة الإسلامية، التي مرت بكثير من مراحل التطور المعماري والجمالي إلى أن باتت تشكل حالة معماربة جمالية فريدة من نوعها.

ويرى الأكاديمي العراقي أن المساجد تتفرد بعمارتها رغم انتشار كثير من دور العبادة لبقية الديانات في العالم، مثل المسيحية بكنائسها وكاتدرائياتها، ومعابد البوذيين الذهبية في جنوب شرقي آسيا، ومعابد الهندوس، وغيرها من بيوت للعبادة.

وأضاف نعيم، في حديثه لـ”الخليج أونلاين”، أن ظهور الدين الإسلامي في الشرق الأوسط جاء على خلفية حضارية ثقافية عظيمة في وادي الرافدين وشرقي المتوسط ووادي النيل، إلى جانب مجاورة بعض أهم الحضارات في العالم مثل الفرس واليونان والرومان.

وأشار إلى أن هذه الحضارات أدت إلى نشوء لون حضاري جديد يُعرف بالحضارة الإسلامية، التي تجلت بأعظم صورها من خلال الخط العربي والزخرفة والعمارة الإسلاميتين.

وذكر أن هذه الصور “صبَّت جُلَّ عبقريتها في بناء بيوت الله؛ لما كانت تمثله هذه البيوت من أهمية دينية وسياسية، ومن خلال إدارة الدولة التي تطورت فيما بعد لبناء قصور الخلافة، التي تحاكي بناء المساجد إلى حد كبير”.

ولفت النظر إلى أن أهم عناصر الشكل المعماري للمسجد المئذنة، أو ما تُعرف بالمنارة، التي كانت بالإضافة إلى نقلها صوت المؤذن لأبعد مسافة، تمثل هيبة المسجد وعظمته، علاوة على أنها تمثل روحياً حلقة الوصل مع السماء.

أما الجزء الثاني المتجسد بالقبة، التي كانت تمثل الفضاء أو السماء على وجه التشبيه؛ لما تحمله من شكل كروي أو بيضاوي أجوف، فظهر بحالة معمارية جديدة كلياً في منطقة الشرق الأوسط، يقول نعيم.

وأضاف: “هذا من حيث الهيكل المعماري للمسجد.. من جهة أخرى، نجد أن المسلمين قد تطور لديهم شكل الرسم الكتابي أو ما يُعرف بالخط العربي، الذي كان المرآة الحقيقية لإظهار كلام الله، القرآن الكريم، الذي اتخذه المعماريون مادة دسمة لتزيين كل الأبنية الإسلامية ولم تقتصر على المساجد فقط، وذلك إلى جانب الزخرفة الإسلامية التي تطورت بتطور الخط العربي”.

وأشار إلى أن كل هذه الأمور جعلت من المسجد أو من المعمار العربي الإسلامي نموذجاً مبهراً للعمارة، وباتت أغلب الدول الإسلامية تتسابق في إظهار المسجد بأروع حُلَّة، وهو ما يتجسد أيضاً في مساجد سلطنة عُمان.

وأكد أن هذه الخصوصية جذبت عدداً كبيراً من المستشرقين لدراسة هذه الحالة، وتقصّي عظمتها، وجذبت كذلك كثيراً من المهتمين، خصوصاً المصورين الذين جسدوا أروع ملامح المساجد من خلال الصور الفوتوغرافية.