خاص شفقنا- مدرسة النجف، نظرة من الخارج٬ بقلم الدکتور ابوالفضل فاتح (خريج جامعة اكسفورد وباحث في الشؤون الدینة والإعلامیة)
بسم الله الرحمن الرحیم
ملحوظة: إن هذا النص، هو مقدمة لنص مسهب وتجربة تأتت من عدة رحلات للعتبات المقدسة، على أن ينشر بصورة مستقلة باذن الله. وقد وضع هذا النص في سياق “دراسة حالة” وينطوي على إنطباعات الكاتب في إطار يشبه الرواية، ولا يندرج بالضرورة في فئة الكتابات الرسمية. وموضوع الدراسة، هو الحوزة العلمية بالنجف الأشرف فحسب، لذلك لم يسلط الضوء على الحوزات العلمية الأخرى لاسيما قم المقدسة التي تعد إحدى الدعائم الأخرى للحوزة العلمية الشيعية.
تم تنظیم هذا المقال في ثلاثة اقسام. في القسم الأول یتداول الكاتب التحولات التاریخیة في النجف الأشرف وتراثها العریق وایضا السلوك والمراتب والدرجات العلمية في حوزة النجف علی أساس مقابلات عمیقة وأقوال من کبار علماء حوزة النجف الأشرف تحت زعامة اية الله السيستاني. علی هذا الأساس یمکن أن نعد الخصائص الرئیسیة في حوزة النجف الأشرف کالتالي:
- الإيمان بالنزعة المعنوية في تحقيق النجاحات لاسيما الزعامة والمرجعية؛
- تقدم البعد النظري والتركيز على الفقه والأصول؛
- الإعتدال في الفتوى والتوازن في النهج؛
- الإيمان بالإبداع العلمي والحرية في الإجتهاد بجانب التمسك بالتقاليد والخلفية العلمية والإهتمام بالمدارس الاخرى والفقه المقارن؛
- الأساليب المدنية والديمقراطية على طريق إدارة مؤسسة العلم (الحوزة)؛
- التركيز على التلميذ مع حفظ كرامة وشأن الأستاذ؛
- المتانة والحيوية العلميتين وفي الوقت ذاته التسامح وقبول تنوع الآراء والأفكار في الحوزة وخارجها؛
- التمسك بتقاليد السلوك الإجتماعي والمتصلة بالشخصية بما في ذلك البساطة في العيش وأدب الحوار والتعايش مع الجماهير والنخبة؛
- غياب التنافس ذي الطابع الفردي وغير الأخلاقي لاسيما على مستوى الزعامة والمرجعية؛
- النظرة إلى الداخل وتقديم الحفاظ على الحوزة؛
- حظر العمل التنفيذي وتولي المسؤوليات والمناصب بالنسبة لعلماء الدين؛
- التدخل بحده الأدنى والثانوي في السياسة مع التأكيد على الضرورة والمصلحة + تعقيد تدخل السياسة في الحوزة؛
- الإستقلال الإقتصادي عن الحكومات والسلطة؛
- الإبتعاد عن النزعة الحزبية؛
- التحلي بفوق الوطنية؛
- الإستيعاب والتقبل الواسعين واتساع أفق التفكير؛
- إحترام الكرامة وحقوق الانسان واعتماد عنصر الفكر والحرية؛
- التمتع بتجربة العيش كأقلية مظلومة دأبت على توسيع نطاق روح التضامن والتكاتف والنظرة إلى حقوق الأقليات؛
- الحياة الإجتماعية بمنزلة مؤسسة مدنية في الحد الفاصل بين الجماهير ونظام الحكم؛
- إجادة اللغة العربية كلغة لفهم القرآن الكريم والروايات.
في القسم الثاني من المقال یتطرق الكاتب الی التحديات التي تمر بها النجف اليوم منها مستقبل الإستقلال السياسي والاقتصادي للحوزة، ضرورة التبيان النظري وتوثيق الأفكار والآراء، النتاجات العلمية والإصدارات الحوزوية، التعرف على المبادئ الفكرية والفلسفية للعالم الجديد، الفقه السياسي والفقه الاجتماعي وتساؤلات الساعة وفقه المتواجدين في الغرب، نقص مصادر الدراسات الدينية للشيعة القاطنين في أماكن بعيدة، ضعف معايير القبول في وسط طلبة العلوم الدينية، المراجع المُنصّبون ذاتيا، الدعاة قليلو التعليم، التواصل بين المذاهب / بین الدیانات، الضعف الإعلامي، العطل والإجازات الحوزویة، تحديث الحوزة، المساءلة وتحمل المسؤولية، وبعض خصائص عالم التشیع وعقيدة التشیع.
في القسم الثالث والأخیر من هذا المقال یتطرق الكاتب الی مستقبل حوزة النجف الأشرف. یذکر الكاتب بأن حوزة النجف الأشرف أختارت عقيدة الاسلام غير المتدخل في السیاسة أو الذي يقف على مسافة من السلطة السياسية وذلك بالرغم من كون التدخل في السلطة السياسية ما بعد سقوط صدام أمرا طبيعيا. وأسباب هذا التوجه هي:
- الأدلة الفقهية والفكرية لمراجع النجف الاشرف لاسيما زعميها السيد اية الله السيستاني؛
- ثقل ووزن العقيدة الفقهية والتقليدية للزعماء السابقين والمتمثلة في الإبتعاد عن التدخل السياسي غير الضروري (إن الزعماء الحاليين للحوزة، هم تلامذة مدرسة الزعماء السابقين وأوفياء لهم)؛
- تنوع جنسيات أعاظم الحوزة وتوسع نطاق العالمية والأممية؛
- المفعول القوي للنفوذ المعنوي والمكانة المميزة للحوزة العلمية للنجف الاشرف من خلال الإبتعاد عن السلطة الرسمية السياسية وغياب الثقة والضمان من أن التدخل في السلطة السياسية سيحقق نتائج إيجابية، بل قد يترك آثارا ونتائج سلبية على حوزة النجف؛
- الأدلة التاريخية السلبية المتراكمة جراء تعاقب السلطة وعمليات القمع والإضطهاد القاسية؛
- الوضع العرقي لاسيما ثقل مجتمع أهل السنة في العراق؛
- حالة الإحتلال والإضطرابات الداخلية وتدخل الأجانب وإحتمال إذكاء الصراعات الطائفية؛
- تجارب الجيران والدول الاسلامية الاخرى؛
- تجربة السنوات التي تلت سقوط صدام والتي تفضل منافع التدخل غير المباشر في السياسة على منافع التدخل المباشر، بالنسبة لعلماء الدين الشيعة.
وینهي الكاتب المقال بذكری من رحلاته الی النجف ویقولفي لقاء، سألت حكيما عن أهم خصيصة وصفة مميزة لنجف اليوم؟ فقال: الحرية العلمية والفردية والنفوذ المعنوي والسياسي، وسألته ثانية ما هو أهم هاجس للنجف؟ فقال: النفوذ والحرية ذاتهما!
وإلیكم المقال بأکمله:
ولحوزة النجف تاريخ عريق، وتعد واحدا من أكثر المؤسسات أصالة في إنتاج العلم في عالم التشيع. وعلى مرّ عدة قرون مضت، استطاعت هذه المؤسسة وبسبب الظروف التاريخية، حماية بنيتها العلمية وأساليبها وخصائصها الخاصة بها. وخلال القرن أو القرنين الأخيرين، حيث شهد العديد من المؤسسات العلمية الدينية وغير الدينية – أكانت الجامعات من الطراز الأول في العالم أو الكنائس وحتى الحوزات العلمية في ايران – تطورا أساسيا في ظل صلتها المستمرة بتشكيل الحكومات الحديثة، فان الظروف تقررت بشكل اخر بالنسبة لحوزة النجف. إن قيام الحكومات المستبدة في العراق والتي كانت في تحد أو صراع مع مجمل المدرسة الشيعية وعلماء الدين الشيعة، دفع بالحوزة للنأي بالنفس عن السياسة بنسبة قصوى، باستثناء ما تعاطت به مع نظام الحكم في حده الأدنى حسبما أملته الظروف غير القابلة للإجتناب. فالهوة الشاسعة لم تكن بين الحكومة والحوزة فحسب، بل أن المجتمع الشيعي العراقي كان قد هُمش بالكامل بسبب الهيكلية السياسية للنظام السابق، وبالأحرى، أصيب بنوع من العزلة غير المرجوة على غرار الحقب التاريخية الاخرى التي مر بها العراق القديم. وهكذا عزلة، إنطوت بحد ذاتها على مزاياها وتهديداتها الخاصة بها. لكن وبعد سقوط صدام، تغيرت الظروف بصورة جذرية. فانخراط المجتمع الشيعي العراقي في السياسة بابعاده الواسعة، وانفتاح الحوزة العلمية على العالم الخارج وتصاعد التوترات الجيوسياسية، أخرج الحوزة من عزلتها التاريخية غير المطلوبة.
وقد مرّت حوزة النجف، بفترات مختلفة من الركود النسبي. فقد تراجعت الحركة العلمية لقرون، بسبب رحيل عالم كبير مثل الشيخ الطوسي تارة، وتأثرت بسبب إنتعاش وإزدهار حوزة كربلاء الأكثر قدما خلال السنوات المختلفة تارة أخرى، أو مع بزوغ نجم عالم كبير مثل إبن ادريس الحلي الناقد الشهير لآراء وأفكار الشيخ الطوسي في القرن السادس للهجرة في حوزة الحلة أحيانا، أو أن سيطرة العثمانيين على العراق والصراع مع الصفويين والذي أفضى إلى معاهدة “ذهاب” (القرن 11 للهجرة)، ضيق الخناق على هذه الحوزة في أحيان أخرى. وبالتزامن، أصيبت بالسكتة المبدئية بسبب إتساع نفوذ حركة الاخبارية متأثرة بافكار أمين استرابادي، وتراجعت بالقدر ذاته. وفي الوقت نفسه جربت هذه الحوزة فترات لامعة من إنتاج العلم والحركة العلمية. لاسيما منذ القرن العاشر للهجرة مع طلوع شخصية مُجددة مثل المقدس الأردبيلي، إذ أن النجف سطع نجمها مرة أخرى بعد الشيخ الطوسي، ونهضت بالرغم من الضائقة والصعاب التي أتينا على ذكرها، مع ظهور الشيخ الأنصاري ووجوه مثل صاحب الجواهر والأخوند الخراساني وشخصيات تاريخية أخرى … وواصلت إنتاج العلم وحققت تقدما باهرا وبرهنت مركزيتها العلمية. لكن ومع كل هذه التقلبات والتغيرات، ربما لا نغالي إن قلنا بان العنصر الرئيسي الذي يميز النجف اليوم عن ماضيها، ليس العنصر العلمي، لان هذا العنصر كانت تحوزه وإن صعودا ونزولا، بل أن نقطة التمايز اليوم، هي عنصر جديد إسمه الحرية.
إن حوزة النجف ولأسباب هيكلية وتاريخية، كانت ومازالت بعيدة عن حوزة الدولة في العراق، بالاضافة إلى أنه لا يوجد اليوم أثر عن الدولة المستبدة التي حاصرت الحوزة وفرضت قيودا عليها. وهذان العاملان وبجانب رحابة صدر وتدبير مراجع الدين والعلماء، أديا إلى أن تتذوق حوزة النجف الحرية بمعناها الجديد. وهذه الحرية وبجانب توسع التواصل الداخلي والدولي ودخول تكنولوجيا الإتصال الحديثة، جعل حوزة النجف تمر بفرص جديدة، والمؤمل أن تثمر في العقود المقبلة وتستحدث تطورا جديدا في مجال الفكر الاسلامي لتلبية إحتياجات العصر الحديث. إن هذه الحرية والتطورات المتلاحقة والتحديات والفرص الناشئة عنها، حوّلت العصر الحاضر إلى أحد المنعطفات التاريخية لهذه الحوزة، بشكل يمكن فيه القول أن تاريخ حوزة النجف ينقسم من الان فصاعدا ومن ناحية ما، إلى حقبتين، قبل وبعد سقوط صدام. وإن كانت الجذور الرئيسية لمدرسة النجف قد تشكلت على امتداد الأزمنة المديدة التي سبقت سقوط صدام، فان أسسا وتاريخا ومواصفات جديدة هي في طور التشكل في هذه المدرسة في الحقبة الحديثة، في الزمن الذي يمكن للإنخراط الواعي والإرادي في العصر الحديث، أن يحول العديد من التحديات إلى فرص ويمهد للنهوض بهذه المؤسسة منقطعة النظير لعالم التشيع، لكن تجاهل هذا المنعطف التاريخي قد ينطوي على خسائر فادحة.
حوزه النجف الأشرف العلمیة
وقد سنحت فرصة في شهر شعبان المعظم الماضي لزيارة العتبات المقدسة ثانية ولقاء كبار علماء الدين. وكنت قد وفقت لزيارة العتبات المقدسة بعد عدة أشهر من سقوط صدام عام 2003، والان وبعد مضي 14 عاما، نلت هذا التوفيق للمرة الخامسة. وبعد الزيارة، فان ما لفت إنتباهي أكثر لم يكن التغيرات الظاهرة والتنمية وما شابههما، لان سنوات من الحرب الداخلية وحجم الخراب والدمار الذي حل بعد ظهور وسقوط المجموعات المتطرفة المعادية للاسلام بما فيها داعش، لم يكن تثير مثل هذا التوقع لدى المرء. وبالنسبة لي كان المهم هو:
- إلى أين تتجه النجف بعد 14 عاما من الحرية؟
وقد نجحت الحوزة العلمية بالنجف الأشرف في الحفاظ على نفسها في مقابل أعتى نوع من الإستبداد. ومع سقوط صدام والإنفتاح الذي حصل بعده، دخلت مجال السياسة من باب الإمتناع والإستغناء. وصمدت في مواجهة سرطان داعش، ودخلت الساحة في خاتمة المطاف كعنصر دفاعي وممهِّد وبنّاء. إن إيلاء الأهمية لهكذا عوامل، يثير تساؤلات لدى المرء، بما فيها:
- ما سر دوام وبقاء هذه الحوزة في المجتمع العراقي متعدد الأطياف والمكونات، ومن أي عوامل داخلية وخارجية تنبع؟
- ما هي التحديات التي تواجهها هذه الحوزة؟
وسأأتي لاحقا على ذكر بعض النقاط والموضوعات التي حصلت خلال هذه اللقاءات والحوارات مع علماء النجف، والتي اكتسبت أهمية أكبر من وجهة نظر الكاتب وتشكل حاجة مسبقة للرد على الأسئلة الواردة أعلاه. والمهم: إني بوصفي كمراقب ليس من رجال الدين، ومع الحفاظ على المسافة، أن ألقي نظرة على حوزة النجف، ومن هذا المنطلق قد يكون إنطباع وإستنباط الكاتب مختلفا بعض الشئ لكنه يستحق التأمل في بعض الحالات.
مدرسة النجف على مرّ التاریخ
إن المرقد الطاهر للإمام علي بن ابي طالب (ع) يمثل بلا جدل ونقاش، مركز النجف الأشرف. إن الكوفة والنجف، يعتبران بشكل ما، بداية التاريخ بالنسبة للشيعة. وقد حدث هناك الجزء الأعظم من سنة النبي الأكرم (ص) وتفسير المفاهيم الرئيسية والأولية للإسلام في إطار الحكم القصير أما الخالد للإمام علي (ع)، ويمثل التراث الرئيسي للاسلام والتشيع من حيث النظرية والتطبيق، وفي الوقت ذاته فإن الإمام علي (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع)، جربوا أقسى أصناف الغدر والخيانة وأكثرهما مرارة في هذه الديار.
ومنذ عام 448 للهجرة، حيث هاجر الشيخ الطوسي قسرا من بغداد التي كانت تعد في تلك الفترة، مركز الحوزة الشيعية، وأتخاذه من النجف الأشرف ملاذا ومأمنا له من هجوم السلجوقيين الذين كانوا يدعون التسنن، وقتلهم للشيعة وإحراقهم للكتب، واتخاذها أيضا كقاعدة لمدرسته الفقهية المستقلة، فان الحوزة العلمية بالنجف الأشرف، تتخطى عتبة الألف عام. وبلا شك فان أكثر الأسباب رئيسية لتأسيس ودوام هذه الحوزة، يكمن في إقامة علماء كبار بجوار العظمة المعنوية والتاريخية والثقافية للضريح الطاهر لأمير المؤمنين (ع) والتعامل مع كربلاء المقدسة. ومن نقاط الجذب الاخرى للكوفة والنجف، هو تاريخهما الزاخر بالحركات العلمية والثقافية لهذه البلاد، ووجود وادي السلام واحتضانه لشخصيات رفيعه، وكذلك الموقع التجاري المهم، بالرغم من أنها لا تشكل الدليل الرئيسي لتشكل هذه الحوزة العلمية الشيعية. وعلى مرّ السنين، توسعت وانتشرت تدريجيا مراكز ومجاميع علمية ومدارس هذه الحوزة بدء من مكتب الشيخ الطوسي ومسجد الشيخ الأنصاري ومدرسة الصحن الشريف وصولا إلى مسجد عمران ومسجد الخضراء ومدرسة الاخوند اليزدي ومسجد الهندي وكذلك مكاتب ومدارس كبار مراجع الدين الشيعة وكبار العلماء حول الضريح الشريف وفي الشوارع المحيطة به بما فيها شارع الرسول (ص) وشارع الشيخ الطوسي وشارع الصادق (ع) وشارع زين العابدين (ع) و…، بحيث أن مدافن العديد من الأعاظم والعلماء تقع في حدود هذه المنطقة، بدء بمقبرة العلامة الحلي والمقدس الأردبيلي والشيخ الأنصاري والشيخ الطوسي والاخوند الخراساني والسيد الخوئي في أروقة الضريح وكذلك هذه الشوارع المحيطة حيث مدفن صاحب الجواهر والعلامة الأميني والآيات العظام محسن الحكيم وكاشف الغطاء و… وصولا إلى وادي السلام الذي يرقد بجوار مراقد مطهرة لأنبياء الله مثل آدم ونوح وهود وصالح. وكلما أقتربنا من الضريح، يشاهد عدد أكبر من طلبة العلوم الدينية وعلماء الدين. وبالرغم من أن عدد طبلة العلوم الدينية قد تناقص في عهد صدام القمعي والإضطهادي إلى حده الأدنى، لكن هناك اليوم 14 إلى 15 ألف من الطلبة والمعممين ممن يقطنون هذه المدينة لتلقي علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام.
عزلة مدينة النجف والترابط بين التقليد والحداثة
إن العزلة غير المطلوبة للشيعة في العراق والتمييز الديني والسياسي، تسببا بعدم تسجيل مدينة النجف الأشرف تقدما يذكر في مجال التخطيط والبناء الحضري، بالرغم من وجود المرقد الطاهر لأمير المؤمنين علي (ع) والأثر البالغ لحوزتها العلمية في إنتاج العلم وتنمية الفقه الشيعي والتجاور مع وادي السلام. وخلال السنوات التي تلت سقوط صدام، لم يشاهد أيضا حدث مهم على صعيد التخطيط الحضري والإمكانات الهائلة وبما يتناسب مع قطب للزيارة وغير متناغم طبعا مع التخطيط الحضري الحديث ماعدا بعض الإنشاءات وشق الشوارع. وحتى أن ضريح الإمام علي (ع)، لم يتوسع بما يتناسب مع ملايين الزوار الذين يؤمنون هذا المرقد المعنوي والمفعم بالحيوية للزيارة. ومع ذلك، فان المدينة هي مزيج من بنية ونسيج التقاليد وطبعا نزعات نحو الحداثة والعصرنة: إن البناء والنسيج التقليدي الكائن في معظم شوارعها، هو محلات، تبرز بعمارة أو مظهر عصري حديث. وأهالي النجف كذلك أيضا، ومزجوا عناصر من التقليد والحداثة معا. وطلبة العلوم الدينية بالنجف كذلك أيضا: فهم يحيون حياة بسيطة ويحلقون رؤوسهم، ويتحاشون ارتداء الساعة اليدوية، وفي الوقت ذاتهم يقتنون أحدث الهواتف النقالة والتبليت، ويوجد في بيوتهم ومكاتبهم البسيطة – لاسيما الاساتذة والطلبة الأكثر رفاهية – أنواع التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإتصال الجديدة. ويمكن مشاهدة هذا كذلك في الخصائص والقواعد الإجتماعية لحياة الطلبة.
مؤسسة العلم:
محوریة الفقه والأصول والقبول والتنوع
إن الحوزة العلمية للنجف الأشرف هي مؤسسة علمية في الدرجة الأولى، وأن ما يميز المؤسسات العلمية عن إحداها الاخرى هو هدف وتوجهات هذه المؤسسات في مضمار العلم. على سبيل المثال، فان الجامعات تمثل على وجه العموم، مراكز لتنشئة الأشخاص في العلوم النظرية وكذلك العلوم التطبيقية. وفي الوقت نفسه، فان البعض يميل بشكل أكبر إلى العلوم البحتة والنظرية والبعض الاخر إلى العلوم التطبيقية. إن جامعتي كامبريدج واكسفورد تعدان من المؤسسات العلمية المعتبرة للغاية وطبعا التخصصية في العالم وبماض يصل إلى عدة مئات من السنين. إن القاء نظرة على المدرسة العلمية لهاتين الجامعتين، يظهر أن كامبريدج لها توجه وقدرات نظرية في الكثير من المجالات، بينما اكسفورد تحظى بتوجهات وقدرات تطبيقية بشكل أكبر. إن كلا من هاتين الجامعتين، تحتفظ بتقاليدها أيضا. التقاليد القديمة المتمثلة بارتداء الرداء الطويل والقبعة وربطة العنق الخاصة أو نوع إقامة مراسم تخرج الطلبة ونوع الفن المعماري للكثير من المباني التي بقيت على امتداد القرون المتمادية، بينما يتواصل التيار العلمي لهاتين الجامعتين ويمضي قدما بقوة، ولم تكن تلك التقاليد الظاهرية في تعارض مع النشاطات العلمية إطلاقا. فقد استطاعت كلتا الجامعتين وبما يتناسب مع هدف مؤسسة علمية حقيقية، تربية وتنشئة قوى علمية فاعلة وصاحبة كفاءة ومن الطراز الاول على مستوى العالم. ويوجد هذا الإصرار على أن يتمتع خريجو هاتين الجامعتين بقوة علمية وقوة تطبيقية جادة. إن مؤسسة علمية لا تستطيع تنمية وتنشئة كلا الأمرين أو واحد منهما، لا يمكن اعتبارها مؤسسة علمية.
إن النظام التعليمي لحوزة النجف العلمية، هو بمنزلة مؤسسة حقيقية لإنتاج العلم بواسطة نظام تخصصي قائم على الخبرات التي تمتد لمئات السنين في الفقه والتدريس لكبار العلماء مصحوبة بتقاليدها الخاصة بها. ومع أن الفقه والأصول، يشكلان أكثر نقاط التمركز والجهد العلمي لحوزة النجف الأشرف محورية، إلا أن مدارس تنامت خلال عدة عقود مضت بجانب إحداها الاخرى من دون تزاحم وإحراج، وقدمت مندوبين بارزين لعالم التشيع. إن قبول التنوع والسعة والرحابة في تقبل هذا التنوع، يعد من خصائص النجف الأشرف. إن إلقاء نظرة على المدارس السائدة في النجف الأشرف خلال نصف القرن الاخير، يؤكد ذلك. وحسب تصنيف أساتذة النجف، فان مدرسة اية الله الخوئي وكما يُروى عن دروسه في الفقه والأصول، تعد إمتدادا لمدرسة المحقق النائيني. واعتبرت مدرسة الإمام الخميني مزيجا من الفقه والأصول والفلسفة، كما أن الشهيد الصدر كان امتدادا لمدرسة المحقق العراقي، ومدرسة اية الله السيد محمد الروحاني هي امتداد لمدرسة المحقق الإصفهاني (كمباني). وفضلا عن ذلك، أعتمدت أساليب تدريس ومدارس أخرى، كان لها حضور وأثر ملفتين في حوزة النجف الاشرف، وعاشت كلها طبعا بجانب إحداها الاخرى في قالب جامعة قيمية واحدة يجب تسميتها بمدرسة النجف وذلك بسبب مواصفاتها الخاصة وبرحابة صدرها البالغة.
الإصرار على الفقه و الأصول
إن الحوزة العلمية للنجف الأشرف كانت على الدوام منطلقا ومنشأ لفقهاء من الطراز الاول لعالم التشيع، وأرست الكيان العلمي للتشيع. إن التمركز العام قائم على الفقه، وكان يتم خلال نصف القرن الأخير وبشكل رسمي تحاشي العلوم الاخرى. وربما لهذا السبب تراجع شيئا فشيئا تدريس العلوم العقلية بدء من الفلسفة والكلام والعرفان وصولا إلى التاريخ والجغرافيا والتي كانت سائدة في فترة من الفترات، بحيث أن الأستاذ العلامة الطباطبائي هو من خريحي هذه الحوزة. وهناك يجب على المرء أن يكون فقيها بداية، ومن ثم استاذا في أي علم اخر. لكن ومنذ أن حظر اية الله السيد ابوالحسن اصفهاني، الفلسفة، خرجت الفلسفة عن التداول. وحتى أن السيد الخوئي الذي كان قد تعلم الفلسفة على يد السید حسين البادكوبي، وكان يتحدث عن الفلسفة أو السيد هادي الميلاني، لم يتطرقا بعد ذلك إلى الفلسفة. وكانت طبعا دراسات بصورة فردية للأساتذة الذين كان لهم ضلع في هذه العلوم، وبعضهم ممحضون، لكن وفي ظل الظروف الحالية، فان الغلبة لهذه الرؤية التي تقول أن الفلسفة والعرفان، إما أنهما ليسا علما أو ليسا علما نافعا في وضعهما الحالي، ويمكن أن يستغلا لبناء مدارس إنحرافية أو تفسيرات إنتقائية. لذلك فان هذه العلوم لا تعد علوما رئيسية بالنسبة للحوزة، ولا طائل من ورائها لكي تنفق عليها الأموال الشرعية. بحيث أن اية الله السيستاني يقول حول العرفان الفصوصي: “إني وفيما يخص المعارف العقائدية، أؤمن بأسلوب كبار علماء الإمامية (قدس الله أسرارهم) والمتطابقة مع آيات القرآن الكريم وروايات أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ولا اؤيد الطريقة آنفة الذكر”. أو أن اية الله فياض يقول “إن العرفان بمعنى كشف الحقيقة وإزالة اللثام عن الجهل عنه والعلم بالغيب، هو وهم ليس إلا ولا حقيقة له”. وقدم إبن عربي على أنه اقترب من كونه زنديقا.
ويقولون حول الفلسفة: “إن نزعة البعض إلى علم الفلسفة، وتوسيع ومتابعه قضاياها والإستناد إليها وإنفاق الوقت على قضاياها غير المهمة والمتداولة أصولا في علم أصول الفقه، هي غير صحيحة وبمنزلة إهدار للعمر، وقد تكون هيكلية فكرية مضرة”. وبناء على ذلك، فانه لا ينصح في الظروف الحالية وبصورة عامة العمل الرسمي بهذه العلوم، وهي غير رائجة، بالرغم من أنه لا يتم منعها. لذلك فان تنوع وانتشار العلوم في حوزة النجف الأشرف أقل من وجهة النظر هذه، ويذهب البعض إلى الإعتقاد بانها قد تؤدي إلى بروز ضعف في ظل التطورات الجديدة للعالم لاسيما ضرورة الحوار العلمي مع العالم الغربي. وإضافة إلى ذلك فان هذه القضية كانت محط إنتباه دائما ألا وهي أن التركيز الزائد والإنغماس في البحوث الأصولية البحتة وغير التطبيقية، قد لا ينطوي على قيمة مضافة في مجال الفقه، وعلى العكس قد يحول دون تحقيق الحداثة والإبداع.
الإعتدال في الفتوى والتوازن في النهج
إن الإعتدال في الفتوى والتوازن في النهج، يعد من الخصائص والميزات الاخرى للنجف. ويرى أعاظم النجف أن الشيعة هي مدرسة الإعتدال، ويؤمنون بان الكتاب والسنة هما الأساس، وأن الفقه يدور حولهما، وعلى الفقيه أن تكون لديه أدلة محكمة في الكتاب والسنة من أجل إصدار الفتوى. وهذا النهج أسهم في أن يتحول تجنب الإفراط والتفريط إلى نهج مقبول في السلوك الفتوائي والإجتماعي وأن تلقى الفتاوى الشاذة أو المحببة لدى الأعوام قبولا أقل. إن التكفيروالردة هما عملة غير متداولة كما أن الإنحراف والتمسك بالخرافة والرجم بالغيب يعد في هذه الحوزة، بضاعة كاسدة تعد في هذه الحوزة، وإن ظهرت في موقع ما، فانها مهجورة ضمن التيار الرئيسي للحوزة.
وهذا الإعتدال يؤدي إلى عدم إثارة الحساسيات إزاء التواصل مع سائر المذاهب والفقه المقارن والحوار بين الأديان. فالإنحراف ممنوع في الحوزة، لكن لا تشاهد ردة فعل عنيفة تجاه الفرق المنحرفة خارج الحوزة بالرغم من نبذها ورفضها، وبالأحرى فانه لا يتم التضييق على أحد. ويوجد في النجف التنوع والحداثة في الفتوى، مثلما أن فتوى اية الله الحكيم حول طهارة أهل الكتاب، جاءت على النقيض من المشهور في ذلك الزمن، على غرار فتوى اية الله فياض في السماح للمرأة في القضاء والمرجعية وتولي المسؤولية أو فتاوى اية الله السيستاني في فقه من يقطنون الغرب وهي على النقيض من المشهور. ومع ذلك، فان لا أحد يتطاول أو يتعرض بطريقة غير علمية، وإن حصل ذلك، فان لا أثر له. ويوجد في النجف إنفتاح تجاه قضايا الساعة، وأي سؤال من المقلدين في مجال الاقتصاد والتكنولوجيات الحديثة وعلوم الطب والموضوعات الجديدة، يرد عليه بسرعة. لكن ثمة تحفظا قويا تجاه الموضوعات المتصلة بتاريخ الاسلام وتاريخ التشيع والقضايا المتعلقة بتفاصيل المنقول في المنابر تأسيسا على المقاتل وأساليب وتقاليد العزاء الحسيني ودخول السينما في الدين لاسيما في موضوع أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يتم الترحيب بهذه الموضوعات في العلن على أقل تقدير.
وفي النجف، فان صاحب الفتوى لا يرغم أحدا على تطبيق فتواه. على سبيل المثال، بالرغم من أن فتاوى المعاملات والحدود والقضاء والفن والموسيقى وما شابه ذلك، واضحة، لكن وكلاء المرجعية أو المراجع أنفسهم لا يتدخلون أو يمارسون ضغطا في طريقة وكيفية تطبيق الفتوى إجتماعيا. وموضوع ضرب الرأس بالسيوف في عاشوراء يندرج في هذا الإطار. وقد لا يتفق معه بعض الفقهاء الرئيسيين في النجف الأشرف، لكنهم لا يتدخلون لتنفيذ فتواهم قسرا.
إن الحريات الاجتماعية والإعلامية في العراق، لا يتم تنظيمها مع رؤية المرجعية، ولا يضع المرجع قيودا فحسب بل يشجع الحرية. وعندما لا تبدي شخصية مثل اية الله السيستاني ردة فعل أو حساسية سلبية تجاه الأشياء التي يتناقلها الاخرون، فان ذلك يؤثر تلقائيا بشكل إيجابي على مناخ الحرية في العراق. وقد تكون هذه المسألة متأثرة برؤية حوزة النجف تجاه الانسان وحقوق الانسان وعلاقة الدين بالعالم العصري الحديث والعلاقة بين الفقه ونظام الحكم.
الدرجات والمراتب العلمیة
وفي النجف، فان لا دافع مفيدا ونافعا سوى أن يتحول المرء إلى عالم دين مثقف ومتعلم. إن غاية الدرس والتعلم في حوزة النجف، هي الأستاذية والمرجعية، لا أي منصب سواهما. وقد لا تتخذ حوزة ما، من تنشئة وإعداد المراجع، هدفا وغاية لها، وترى أن الأهم هو إعداد علماء دين يمارسون مهامهم في ميادين أخرى، وأن تنظر بنظرة تطبيقية – سياسية – اجتماعية إلى تنشئة وإعداد علماء الدين. فمثلا تريد إعداد قضاة أو برلمانيين وغير ذلك. لكن النجف لا تملك هكذا رؤية ونظرة. إن النجف تقوم بتنشئة وإعداد المرجع والفقيه، وهذا يعد واحدا من التقاليد المفتاحية لهذه الحوزة. وأحد الأدلة، يكمن في النظرة السائدة تجاه فلسفة الفقه في هذه الحوزة، فضلا عن المناخ السياسي والاجتماعي والتاريخي لتكوين النجف والذي أدى إلى أن تملك الحوزة نظرة إنطوائية، وبتبعها توجها نظريا. ففي عهد صدام، على سبيل المثال، لم تكن الغاية السياسية أمرا ممكنا، والحد الأقصى من الإمكانية التي كانت متوافرة للحوزة هي الدراسة والبحث السائد من دون التدخل في السياسة، باستثناء الحالات التي سنأتي على ذكرها لاحقا. وفي العهد الجديد، حيث اضطلعت الحوزة بدور كلي في مجال الإشراف والمشورة في المجال السياسي، لم يطرا تغير جوهري بالرغم من بعض التغيرات الحاصلة، وذلك يعود إلى ثقل فلسفة الفقه ومدرسة الزعماء والفقهاء المتقدمين، ومازالت المسافة مع نظام الحكم باقية. إن بوصلة الطلبة مازالت ثابتة نحو الاستاذية والمرجعية عن طريق اكتساب العلم والتقوى – لا اكتساب المناصب السياسية -.
وبما أن العلم والتقوى لا المال والسلطة، هما معيار النمو، فان الشعبوية تفقد مغزاها ومعناها وتكتسي معنى سلبيا. ولا يمكن لأحد أن يصبح مرجع دين بواسطة السلطة والقوة والمغالطة والمداهنة، وإن إدعى المرجعية، فان أحدا لن يتبعه ولن يقلده. ويجب اكتساب الإجتهاد من خلال جهد دؤوب ومنافسة علمية سليمة. وإضافة إلى ذلك، فان التركيز في النجف الحالية على أن العلم ليس تقليدا وعلى العالم ألا يقلد أحدا. وكانت النجف تسير ذات يوم على خطى ونهج الشيخ الطوسي متأثرة بارائه وأفكاره وقلما إنتقلت إليها الحداثة. لكن وفي الحقبة الأخيرة، وحسبما يقول الأستاذ الجواهري “إن العالم النجفي يمتلك مبادئ وأسس مبدئية ولا يتبع الشيخ الطوسي والشيخ الأنصاري، بل أن العالم يجب أن يتحول إلى شيخ أنصاري وشيخ طوسي”. وهل حقيقة تكررت قمم رفيعة مثل الشيخ الأنصاري والشيخ الطوسي في ظل الإمكانات والمعطيات المتاحة حاليا، هو سؤال بوسع أهل الفقه الرد عليه. إلا أن أساس هذا التوجه الذي يطالب العالم بانتاج العلم الإجتهادي وغير التقليدي، والبحث عن هكذا عالم، هي من خصائص ومواصفات مؤسسات علمية متقدمة وتخصصية تسهم في ترسيخ القوة العلمية والإستدلالية.
إن سلوك المراتب والدرجات العلمية في هذه الحوزة، له مسار طبيعي ومدني، وتحول على مدى عدة قرون إلى تقليد جوهري. وعلى طالب العلوم الدينية أن يتلقى في فترة تتراوح بين 9 إلى 10 أعوام السطوح ومن ثم يحضر إلى درس خارج الأصول والفقه. وبالرغم من أن الطلبة قادرون خلال تحصيل السطوح، تدريس الدروس التي تلقوها، لكن المقام الحقيقي للاستاذية يتحقق بعد الحضور في درس خارج الأصول والفقه وتجاوز هذه المرحلة. ومن هذه المرحلة، يستطيع الطالب أن يصبح أستاذا ومن ثم وبعد حصوله على الإذن، أن يصبح مجتهدا فاضلا ومؤلفا ومربيا للتلامذة، لكي يكون في مستوى شخصيات جديرة أن تصبح مرجعا دينيا. وجليّ طبعا بان مجرد التواجد في النجف والإفادة من مدرستها، لا يجعل أحدا مجتهدا مميزا، وأي مجتهد لا يكون بناء وصاحب حلول. إن سنوات من المجاهدة العلمية والورع الأخلاقي في مدرسة النجف مصحوبا بالإبداع والشهامة والشجاعة في الإجتهاد والقدرة على التعقل والذكاء الاستراتيجي والروح الإنسانية السامية، والأهم من ذلك التوفيق الإلهي، الذي يجعل شخصا ما، مصدر أثر وخدمة. ويمكن في مثال بسيط، القول بان الكل في النجف لا يصبحون السيد الحكيم والسيد الخوئي والسيد الخميني والسيد الصدر والسيد السيستاني، لأن شخصية هؤلاء العظماء فريدة من مختلف الاوجه والأبعاد، وإن لم يحضر هؤلاء مدرسة النجف، ربما لما استطاعوا تحقيق هكذا موفقية ونجاح والله أعلم.
إن الإعلان عن المرجعية التي تعد أرفع وأعلى مقام علمي في الحوزة، هي عملية تحصل بعد سنوات من التحصيل العلمي والبحث والدراسة والتدريس والزهد والورع. إن تحقق المرجعية وشرعيتها، يتحقق من خلال تعامل طويل بين الأساتذة والفضلاء وطلبة العلوم الدينية في الحوزة. إن الإعلان عن المرجعية يحصل بواسطة طلب تلامذة استاذ ما ورجوع الجماهير، لكن قلما شوهد أن تلامذة مرجع كبير على قيد الحياة، يعلنون المرجعية ويصدرون رسالة، وإن كانوا فضلاء. ورافقت الإعلان عن المرجعية قضايا هامشية في بعض الأحيان.
إن تعدد المراجع يعد أمرار عاديا من باب وجود أساتذة ومدارس مختلفة، مثلما حدث وأن السيد عبد الهادي الشيرازي والسيد ابوالقاسم الخوئي والسيد روح الله الخميني و ميرزا باقر الزنجاني والميرزا حسن البجنوردي والشيخ حسين الحلي والشهيد الصدر كانوا كلهم متواجدين في الساحة إبان عهد السيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي. ويرى البعض أن تنوع المراجع في التشيع يشكل مكمن ضعف وسببا للفرقة والتشرذم في الشيعة وتفرع وتشتت الإمكانات. لكن النقطة الإيجابية للتنوع، تكمن في إنفتاح المناخ الفكري وتنوع الآراء والفتاوى والحرية والمزيد من الحركة في المجتمع الشيعي، إذ يكون بامكان الشيعة أن يختاروا بحرية أكبر الخبير في مذهبهم. وعليه، فانه في حالة حصول تهديد وضرر وضغط، فان تنوع المراجع، يجعل من الصعب تهديدهم وتقييدهم، ويضفي مرونة أكبر على التشيع بوصفه أقلية.
وبالرغم من تنوع المراجع، فان من هو صاحب فضل أكبر يربى وينشئ تلامذة أكثر، وبالتالي يكون له مقلدين أكثر، ويُعرف من خلال مسار تدريجي بأنه المرجع الأعلى. مثلما حصل مع المغفور له اية الله السيد محمود الشاهرودي الكبير والمغفور له اية الله السيد محسن الحكيم، اللذان كانا من أعاظم النجف الاشرف، لكن اية الله السيد محسن الحكيم، اكتسب مقام المرجعية العليا بعد رحيل اية الله البروجردي. ولا بأس من التذكير بان المرجع الذي ينال في هذا المسار الطبيعي والمدني، مقام المرجعية العليا ويحظى بعمر طويل نسبيا، ويستطيع من خلال اقامة دورات مختلفة لدرس خارج الفقه، تربية وتنشئة تلامذة كثر، فانه سيبقى المرجع الأعلى لعدة أجيال بسبب هذه الشبكة الواسعة من المجتهدين، وأن عدة مراجع كبار سيكونون فرعا من تلامذته، على غرار ما حصل مع اية الله العظمى الخوئي.
إن المرجع الأعلى في النجف، هو زعيم الحوزة، وتكون المرجعية العليا للشيعة عادة له. وبعد الثورة الاسلامية وقيادة الإمام الخميني، شهدنا نوعا من توزيع المسؤوليات في المرجعية العليا للشيعة، لانه تزامن وجود تيارين وشخصيتين من الطراز الأول للشيعة وهما الإمام الخميني واية الله الخوئي، وتم في الحقيقة تقديم تيارين كبيرين وسلوك خاص في ايران والعراق للساحة السياسية. لذلك توزع التيار الرئيسي للمقلدين الشيعة بين هاتين الشخصيتين العظيمتين، ويتأرجح في الوقت الحاضر، مقلدو عالم التشيع بين المراجع الرئيسيين لهذين التيارين وإن ليس بكثافة وشدة عهد الامام الخميني.
إن النجف تفضل تلامذتها وأتباع مدرستها في تقديم المرجع، وفي الوقت ذاته، فان التواضع العلمي في الحوزة العلمية للنجف، هو بشكل إن كان هناك أعلى مقام علمي خارج حوزة النجف، مثل عهد اية الله البروجردي واية الله كلبايكاني، فانه يوصى بالرجوع إليه، أو أن يتم الإحالة إلى مرجع في الصف التالي، فيما يخص الفتاوى التي تتسم بالإحتياط، ولا دور للموقع الجغرافي للمرجع في هذه المسالة.
كما أنه يمكن تلمس أثر الهيكلية المدنية للحوزة على إنتخاب زعيم الحوزة العلمية بالنجف الأشرف. وهذه الهيكلية تختلف عن البيروقراطية الجديدة السائدة والواقعة في شكل هرمي والتي تحتفظ بالمسافة المتزايدة بين نخبة مؤسسة ما، وعموم جسم تلك المؤسسة. إن هيكلية حوزة النجف، تفتقد إلى الكثير من التعقيدات غير الضرورية للمؤسسات العصرية، والبيروقراطية المزعجة وأنظمة المراقبة الرسمية، بل أن الأمور فيها قائمة على المعرفة والثقة. وكما أسلفنا، فان جميع هذه المسارات تنبع من داخل الحوزة.
إن زعيم الحوزة، هو أعلى وأرفع مقام لإتخاذ القرار والرمز العلمي والتوجيهي والحمائي لهذه الحوزة. إن قرارات الزعيم، ليست بأوامر، لكن وبما أن الزعيم هو أرفع مقام فقهي، ويتخذ قرارا ما، بعد التشاور مع كبار الفقهاء الاخرين ودراسة المصالح العليا للمذهب والحوزة أو الشعوب الاسلامية، لذلك فان هذا القرار يصبح ملزما عرفا. ويتم تعيين الزعيم بصورة عامة من خلال اتفاق عرفي بين الأساتذة من الطراز الأول وبمنأى عن تدخل السياسة. إن الأكثر زعامة هناك من هو الأكثر فقها والأكثر تجذرا. كما أن إشارة وتصديق الزعيم السابق، يضطلعان بدور عادة. مثلما أن اية الله الخوئي عيّن اية الله السيستاني ليحل محله في الصلاة بمسجد الخضراء، وهذه النقطة كانت تنطوي على اشارة مهمة للغاية، حيث ذاع اسم اية الله السيستاني تزامنا مع عبد الاعلی السبزواري. إن التنافس العادي في المجالات الاخرى، لا دور يذكر له في هذه الحوزة.
ومن المعايير والمواصفات المهمة للغاية لتولي الزعامة هي كون الانسان عالما مثقفا ومتعلما، ويحظى بالقيادة، ونشأ وترعرع في مدرسة النجف، ويتحلى بالتقوى والعيش النزيه وتشخيص المصلحة. ولا تضطلع الجنسية بدور في موضوع الزعامة. والان يتولى المرجع الديني الكبير للتشيع اية الله السيستاني زعامة الحوزة العلمية بالنجف الأشرف وهو يتحدر من أصل ايراني، كما ان اية الله السيد محمد سعيد الحكيم هو عراقي الاصل واية الله فياض من اصل افغاني واية الله الشيخ بشير النجفي من أصل باكستاني، ويعتبرون مراجع الدين الكبار الاربعة للحوزة العلمية بالنجف الأشرف. واساتذة الحوزة يتحدرون أيضا من أصول وجنسيات مختلفة، ولا بأس أن نذكر هنا، بان هذا التنوع في الجنسية لكبار شخصيات حوزة النجف الاشرف، حوّل نظرتهم من التمركز البحت على العراق إلى النظر إلى عالم التشيع برمته، وجعلهم يتمتعون بالعالمية نوعا ما. وفي الحقبة المعاصرة، إن استثنينا اية الله السيستاني الذي يتولى اساسا القيادة الدينية والمعنوية لعراق اليوم بصورة مستمرة وعرفا، في الماضي جاء التركيز على قضايا العراق من علماء عراقيين بالحوزة العلمية للنجف الأشرف بمن فيهم اية الله السيد محسن الحكيم أو الشهيد الصدر أو الشهيد السيد محمد باقر الحكيم. بالرغم من أننا نشاهد أمثلة بما فيها فتوى الجهاد التي اصدرها الميرزا محمد تقي الشيرازي ضد الإحتلال البريطاني للعراق إبان الحرب العالمية، والتي صدرت عن حوزة كربلاء المقدسة.
لكن معظم المشاركات السياسية التي جاءت من قبل العلماء في موضوعات خاصة ومهمة، تركزت عموما على البلد الذي ينتمون إليه، وطبعا كلمتهم مسموعة في تلك البلدان، مثل فتوى تحريم التنباك للميرزا الشيرازي والتي صدرت من سامراء، أو الإجراءات المضادة للإستبداد للاخوند الخراساني والملا عبدالله المازندراني والميرزا حسين خليلي طهراني من حوزة النجف خلال الحركة الدستورية (المشروطة في ايران) أو رسالة إنذار من اية الله الخوئي إلى شاه ايران عام 1963 حول الثورة البيضاء وجمعيات الولايات وتوقيع رسالة دعم للإمام الخميني بعد القبض عليه من قبل نظام الشاه. ونلاحظ في مثال بارز بان الإمام الخميني وخلال فترة تواجده في العراق، وجه إهتماما بشكل اكبر لقضايا ايران ودارت نضالاته بشكل أكبر حول مكافحة النظام الملكي وقيادة الثورة الاسلامية في ايران. وجدير ذكره ان ظروف العراق في الماضي لم تكن تتطلب أن يتدخل علماء الطراز الاول.
ولا تضطلع المؤسسات السياسية والأمنية والأحزاب ونظام الحكم بدور في تعيين الزعيم، ولا يولي أحد أهمية لها. مثلما أن الحكومة حاولت في الماضي عدة مرات، إيجاد زعيم للحوزة، لكن جهودها باءت بالفشل. وطبعا في أواخر عمر السيد الخوئي وبسبب عدم مواكبته لمطالب النظام البعثي غير العادلة، أصبح نظام صدام بصدد تعيين مرجعة عربية – عراقية في صدارة الحوزة العلمية للنجف والعراق باسره. لذلك فقد أصرت حكومة صدام على مرجعية السيد محمد الصدر والد السيد مقتدى الصدر، وأتاحت له مجالا كبيرا بما في ذلك إقامة صلوات الجمعة في الكثير من المدن العراقية. إن السيد محمد الصدر الذي وجه في الخطب الاولى للصلاة انتقادات لحوزة النجف الأشرف، نحا تدريجيا منحى إنتقاديا وأتخذ في اخر خطبه مواقف ضد صدام ما أفضى إلى اغتياله على يد نظام صدام. واعتبر أصدقاؤه بان قبول المرجعية من قبل السيد محمد الصدر، جاء بهدف تعزيز الحوزات العلمية ورعاية الفقراء.
وتتسم مسألة النيابة بالأهمية، وهي طبعا في المؤسسات العلمية الحديثة في العالم، لا تتم داخل الأسرة الواحدة وذلك بسبب الأساليب البيروقراطية، لكن ثمة إعتماد للتوارث في المؤسسات التقليدية. وفي النجف الأشرف ومع التحلي بالوعي واليقظة تجاه هذه القضية، فان الزعامة والمرجعية ليست توريثية ودعائية أو مفروضة. إن أي مؤسسة رسمية خارج الحوزة وحتى داخل الحوزة لا تعلن مرجعية أحد ما، ولا تنتزع المرجعية من أحد أيضا. إن القضايا تنجز عادة في مسار طبيعي عرفي وتأسيسا على التقاليد المتجذرة التي تمت تجربتها. إن كاريزما العلم والتقوى وقبول جسم الحوزة، يمنحان المرجعية للأشخاص. وإن كان أحد في الأسرة بهذا المستوى، فانه يحظى بالقبول، وإن لم يكن فان المرجعية تخرج من تلك العائلة. فمثلا في الظروف الحالية، فان السيد الحكيم، مرجع من آل السيد محسن الحكيم، وليس هناك مرجع من آل السيد الخوئي. إن حق الإستفادة واستثمار إمكانات ومكاتب المراجع السابقين، لا تكتسب مشروعية بعد رحيلهم من دون إذن المرجع الديني الأعلى الحالي، وعلى الأبناء ومسؤول المكتب وضع جميع حسابات المرجع تحت إشراف المرجع الأعلى أو أحد المراجع اللاحقين.
كما أن الإتصالات المستمرة للمراجع مع عامة الناس، تعد خصيصة فريدة من نوعها. فمكاتب مراجع الدين بسيطة وهي بمستوى أبسط الجماهير، وبعيدة كل البعد عن العجب والغرور. فالكل سواسية ويجلسون في مستوى واحد. وقد يقبل مقلد، يد مرجع ما تكريما واحتراما له، لكن لا أحد يظهر أمامه الذل والهوان. ولا يتم إذلال أحد هناك. ولحسن الحظ فان التدابير الامنية لم تتسبب بايجاد مسافة ذات مغزى بين المراجع والمقلدين، وان اللقاء مع المراجع والاساتذة من الطراز الاول هي لقاءات تتسم بالبساطة ومن دون رسميات وتكلف، ويمكن التحدث الى المرجع من اقرب مسافة ومن دون أي تكلف وتلقي جوابا جديرا. وهناك قيود فرضت بشان التصوير والتسجيل في هذه اللقاءات فحسب. وبعض الاساتذة مثل السيد الايرواني الذي يعد فصله في درس الخارج بالنجف من أكثر الفصول الدراسية اكتظاظا أو السيد الجواهري والسيد سند وباقي أكابر الحوزة، ياتون خلال اللقاءات هم استقبالا للضيف ويفتحون الباب برحابة صدر وابتسامة ويصاحبون ضيفهم من دون خدم وحشم. وخلال السنوات الاخيرة فقط اصبح اللقاء مع السيد اية الله السيستاني الى حد ما، بحاجة الى المزيد من التنسيق بسبب الكم الهائل من المراجعين والمقتضيات التي يمكن تفهمها. لكن الامر مازال كذلك عندما كان قبل 14 عاما من حيث صفاء وبساطة مكتبه والحضور في محضره. إن أي لقاء عادة من اية الله السيستاني وسائر مراجع النجف الأشرف يحمل في طياته ذكريات معنوية خالدة وتثقيفية لأولي الألباب ورسالة جلية للشيعة لاسيما وان سماحته وفضلا عن تحليه بالفقه والمعنوية والاخلاق والتدقيق في قضايا الشيعة، يتحدث إلى ضيوفه بدراسة معمقة عن أحوال واوضاع سائر الشعوب والتطورات التاريخية الكبيرة والثورات والنهضات خلال السنوات المائة الاخيرة وعبرها، وليس مستبعدا أن يكون قد قرأ قبل الزائر احدث تاليف للمؤلف الفلاني الشهير في اوروبا او امريكا الجنوبية. ولقد القيت أنا وبفضل الله في حياتي مع الكثير من الشخصيات الدينية والسياسية الرفيعة واستفدت من كل منهم. ومع ذلك فان حلاوة درك الحضور والتحدث إلى المراجع الكبار، والعلماء الأفاضل وطلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف، يعد من أحلى التجارب وأفضل ما تعلمته في حياتي.
وتستخدم حوزة النجف وسائل الإعلام خاصة القنوات الفضائية الإخبارية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف لتلقي المعلومات. وهناك وقت محدد لتواصل المراجع مع الناس يوميا، ومراجع النجف هم عادة مستمعون جيدون ولا يحكمون مسبقا على الأشخاص ويعتبرون الناس مصدرا جيدا للتعرف على إحتياجات المجتمع وتقييم وضع الشيعة والتطورات في العالم. والمرجع عادة لا يلقي كلمات وقلما يتحدث، وعندما يتحدث، فانه لا يعتمد ادبيات تتسم بالأمر والنهي أو كلام صادر من الأعلى إلى الأدنى ويتحدث بهدوء وطمأنينة وبلغة واضحة جدا، ولا يدخل على خط الخلافات، ويحظى بدور إرشادي وتربوي ويبتعد عن الأضواء والإعلام. وأحد أسباب ذلك ربما أنه يعتبر هذا المجال، مجالا محفوفا بالعثرات إضافة إلى كونه يشكل عقبة وحائلا أمام التركيز على التحصيل العلمي والدراسة. بعلاوة فان المراجع والأساتذة ليسوا بصدد الترويج والدعاية لأنفسهم ولا يبذلون جهدا لتقديم وتعريف أنفسهم عن طريق وسائل الإعلام. والوسيلة الاعلامية الرئيسية للحوزة هم تلامذة الاساتذة وتأليفاتهم وتقريراتهم. وبالرغم من أنه يتم استقبال الصفحيين والمراسلين في النجف الأشرف، لكن ما يتم تبيانه ليس للنشر والترويج.
تقاليد طلب العلوم الدينية
إن العلاقة بين التلميذ والأستاذ في حوزة النجف، هي علاقة تقليدية ومبنية على الاحترام والرعاية. وفي النجف، يتوقع من الطالب أن ينهض قبل أذان الفجر، وأن يحضر درس الأستاذ بعد صلاة الفجر. وتستمر الدروس إلى حوالي الساعة العاشرة صباحا، ومن الأفضل لطالب ما ولو في سطح الخارج، ألا يكتفي بدرس واحد. وينطوي نظام التلميذ – الأستاذ على خصائص فريدة خاصة به. إن مقام الأستاذ هو من أرفع المقامات وفي غاية الإحترام، لكن التلميذ يختار الأستاذ حسب تشخيصه، كما أن الاستاذ يعلن الأستاذية تأسيسا على أهلياته. وفي الحقيقة فإن الأستاذ هو المحور كما أن التلميذ يعد محورا. ولا يتدخل أحد في هذا الخصوص، ولا يمارس ضغطا أو إملاءات لحذف وتأييد الاستاذ أو التلميذ. ومتى ما شعر التلميذ بان درس أستاذ اخر هو الاكثر مناسبة، فانه يحضر درس الاستاذ الجديد. وهناك يجب إجتذاب التلامذة في ضوء القوة العلمية والبلاغة والفصاحة في تقديم الدروس. ولا يملك أحد منصبا، ولا تضطلع الدعاية دورا جادا في إجتذاب الطلبة. ويحصل الدرس والبحث في النجف، بمستوى عالٍ من الحرية، وأن الإستشكال على الاستاذ وانتقاده، يعد مزية علمية. لذلك فان المستشكلين على دروس المراجع والاساتذة يحظون دائما بمصداقية خاصة في هذه الحوزة. ويعتبرون أن اية الله مصطفى اشرفي الشاهرودي كان مستشكلا على درس الإمام واية الله مصطفى الخميني كان مستشكلا على درس اية الله المحقق الداماد. ويدخل الطلبة عادة في نقاش وبحث على الأقل مرة واحدة مع طالب أقوى منهم ومع طالب اخر أدنى منهم، ليتم هضم الدروس بشكل جيد. والعلاقة بين الاستاذ والتلميد هي علاقة بين الأب والإبن، وأن الاستاذ يرعى حال التلميذ، وحتى أنه يساعدة في الشؤون الشخصية. والتقليد جارٍ بان يقبل التلميذ يد الاستاذ أمام الملأ، وحتى أن التلميذ يستطيع أن يرفع صوته أثناء البحث العلمي، لكنه من غير المقبول رفع الصوت بغير البحث العلمي، ويعد نوعا من قلة الأدب. وأوقات فراغ الطلبة، ممتزجة أيضا بالبحث العلمي، رغم أنه مع دخول الهواتف الجوالة الساحة والوصول الدائم إلى مواقع التواصل الاجتماعي زاد من البحوث الهامشية والخبرية، والقى بشكل ما بظلاله على نشاطاتهم الرئيسية. وكل يوم وبعد تناول الغداء وأخذ قسط من الراحة، يبدأ وقت حضور الطلبة في البحوث العلمية. ويمر الليل عادة في جلسات شخصية لدى كبار الشخصيات أو أصدقاء الطلبة. وجزء يحتوي على الأخبار وجزء اخر المسائل الدينية وجزء اخر يمر في النقاش حول الروتين اليومي.
إن هذه الأجواء المريحة وباقل قدر ممكن من البيروقراطية وفي الوقت ذاته الجذابية التي تنطوي عليها، يمكن أن تتبعها آفات أيضا. وربما قبل عقود وعندما كان عدد الحوزويين محدودا، لم تكن هناك مشكلة تذكر في هذه البيئة التعليمية. لكن اليوم وبسبب السهولة المتزايدة في التنقل، وعدم وجود حكومة معادية للشيعة والإتصالات المستمرة، فان عدد الحوزويين آخذ بالإزدياد. وهناك في الوقت الحاضر ما بين 14 إلى 15 الف من طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف، وهذا العدد مرشح للتزايد. لكن هذا العدد من الطلبة ولمؤسسة توجهها نحو الداخل، وتضع الإجتهاد والفقه نصبه عينيها، يتطلب التساؤل حول البرامج التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار لهذا الكم الكبير من الطلبة. وهل تكفي العلاقات التقليدية بين التلميذ والاستاذ للإشراف على شؤون الطلبة؟ إن الضعف الرئيسي هو الإشراف على نسبة الجهد العلمي للطلبة. وبغض النظر عن كبار مراجع الدين، وعدة عشرات من كبار المجتهدين والأساتذة، فان السؤال الجاد الذي يطرح نفسه يتمثل في مصير الوف الطلبة. وإن أراد أحد، فانه يدرس ويصبح فاضلا، وإن لم يُرد، فانه لا توجد إمكانية عملية ونظام تقييمي يرغمه على ممارسة التحصيل العلمي. نعم إن الكثير من الطلبة يعودون إلى بلدانهم من أجل الدعوة والترويج وتبيان أحكام الدين، وما تعلموه يكفي لهم لتأدية واجبهم في بلدانهم، لكن الذين يبقون ويتلقون مرتبا شهريا حتى اخر العمر، فان دورهم المفيد بالنسبة للحوزة العلمية، يصبح موضع تساؤل، وهذا الغموض يعد من ثغرات الحوزة. وما العدد اللازم للحوزة، ربما لا يوجد جواب دقيق له، ولا يوجد نظام تقييمي له أيضا. ونظام القبول الحالي في الحوزة، لا يوفر عمليا إمكانية مراقبة كيفية دخول الطلبة الجدد، وقد يصبح موضع تأمل الإكتفاء بعدة عشرات من القمم العلمية من بين الألوف المؤلفة من الطلبة. أن يعتبر اليوم تنشئة القمم العلمية ضرورة أكبر أم تزايد عدد الطلبة، هو بحد ذاته سؤال يطرح نفسه. خاصة وأنه يمكن نقل البحوث والدراسات ذات النوعية الجيدة إلى أقاصي المناطق وبسرعة وبدون وسيط في ظل توسع نطاق وسائل الاعلام.
وهذه القضية تبدو أكثر أهمية عندما نأخذ في الإعتبار أيضا طريقة تأمين الطلبة سبل عيشهم ورزقهم. وعلى الطالب في النجف أن يعيش عيشا بسيطا وزهيدا. إنه مرتبط بالمرتب الشهري الذي يتقاضاه من الأساتذة لتوفير رزقه، ولمزيد من تحقيق العوائد والرزق فإما عليه أن ينخرط في المشروعات البحثية المتعلقة بالحوزة أو أن يقوم بتشكيل فصول دراسية للقرآن والحديث، أو أن يؤدي الصلاة والصيام الإستئجاريين، أو أن يحج نيابة عن الاخرين إن كان ذلك في المتناول، أو أن يتلقى مساعدة من أسرة ما، أو أن يكون لديه إرثا وميراثا. والطالب النجفي لا يمكن له أن يتبنى عملا ومهنة لنفسه. ولا تتوفر إمكانية مهنية ملفتة بالنسبة لزوجته. والدعوة والترويج للدين، ليس أمرا شائعا إلى حد كبير، ولا يغطي عددا كبيرا، وإن كان متوافرا، فان فرصه ضئيلة جدا بالنسبة للطلبة غير العراقيين.
إن إلقاء نظرة على المرتب الشهري الذي يتقاضاه الطلبة في النجف في الظروف الحالية، يوضح وضعهم المعيشي أكثر فاكثر. وحسب المعطيات، فان الحد الأقصى لما يتقاضاه طالب في درس الخارج والمتزوج كمرتب شهري هو بنحو 600 ألف إلى 630 الف دينار عراقي، أي نحو 500 دولار. وهذا الرقم بالنسبة للطالب في السطوح الأدنى وحسب كونه متزوجا أم لا، يتراوح بين 300 الف إلى 600 ألف دينار. وأكبر قدر من المدفوعات يأتي من اية الله السيستاني بمبلغ يتراوح بين 200 ألف إلى 220 الف دينار ومن ثم أية الله الخامنئي بنحو 185 ألف دينار واية الله الحكيم بين 90 ألف إلى 110 الاف دينار. واية الله فياض 30 ألف دينار للطلبة الخاصين و 10 ألاف دينار لباقي الطلبة، واية الله الشيخ بشير النجفي 50 ألف دينار لبعض الأساتذة و 25 ألف دينار للطلبة الخاصين و10 الاف دينار لسائر الطلبة، واية الله مكارم شيرازي 60 ألف دينار واية الله وحيد خراساني 30 ألف دينار واية الله سيد صادق الشيرازي 30 ألف دينار. وهذا المقدار من الراتب الشهري، ونظرا إلى أن مدينة النجف الأشرف شهدت خلال السنوات الاخيرة موجة من الغلاء، يجعل طلبة العلوم الدينية يعيشون حياة متوسطة فما دون.
ويوصى الطالب النجفي، بعدم تولي الأعمال التنفيذية، وألا يتولى مسؤوليات حكومية. إنه لا يُربى ليكون نائبا أو يتولى مناصب سياسية. إنه يجب أن يصبح فقيها وكما أسلفنا، فانه لا يمكن أن يكون لديه دافع غير صفة طالب العلم، وأي شئ في الحوزة، لا يجب أن يلقي بظلاله على هذا الهدف المهم. أكان علما أو سياسة أو منصبا أو مسؤولية اجتماعية.
الآداب والحضور الإجتماعي في الحياة
إن علماء الدين يشكلون صنفا متمايزا في نوعه وحساس تجاه حرمته ومصداقيته. أن يكون علماء الدين موضع إحترام، يعد من مستلزمات أثرهم في المجتمع، لذلك فانهم يتقيدون كثيرا في حفظ شأنهم واعتبارهم. إن طريقة عيشهم وحضورهم الاجتماعي، يتبع أسلوبا وخصائص معينة. إنهم يجلسون في موقع خاص عادة في المحافل والمجالس العامة ويراعون حرمة أحدهم الاخر، ويُعطى عادة مكان أفضل لمن يملك فضلا أكثر أو أنه من السادات أو أكثر عمرا، إحتراما وتكريما له. وذكرنا سابقا، بان طالب العلوم الدينية يجب أن يتحاشى زخارف الحياة وأن يتسم بالحشمة والوقار في السلوك الاجتماعي. إن التواضع في المشي والتكلم بهدوء وروية والتحلي بحسن المعاملة المالية ودفع ما يستحق عليه من ديون في أوانه، يعد من متطلبات وضرويات هذه الفئة من المجتمع.
ومن غير المقبول من هذه الفئة إرتداء ساعة يدوية وإطالة شعر الرأس وارتداء ملابس باهظة الثمن وقيادة الدراجة النارية وقيادة الأساتذة للسيارة والنقاش والجدل في الشوارع والتجول في الأسواق وأكل الطعام في الشوارع وارتياد المقاهي وما شابه لذلك، بالرغم من أن طلبة بعض البلدان قد لا يلتزمون بكل هذا.
وفي الزواج، فان لقاء الفتى والفتاة قبل عقد القران، يعد أمرا مذموما. وطلب يد الفتاة يتم عن طريق النساء اللواتي يجب أن يُعجبن ويقبلن بالفتاة. وقد ترى الفتاة، الشاب من بُعد ومن دون علمه. لكن اللقاء وجها لوجه، قبل عقد القران، ليس محبذا ولا سائدا. ومن غير المستساغ لطالب العلوم الدينية أن يذهب الى السوق مع أسرته للتبضع أو التجول في المتنزهات العامة. إن زوجة الطالب النجفي ترتدي النقاب الذي يغطي وجهها (البوشية) دائما حتى وإن خرجت الى الشارع بمفردها، وإن ذهبت مع زوجها إلى خارج البيت حسب الضرورة، فانها تمشي خلف زوجها قليلا. ولا يرى وجهها سوى محارمها. ولا يوجد إختلاط مع غير المحارم في المجالس العائلية، وتقام المائدة والمجالس عادة بشكل منفصل للرجال والنساء. والطلاق أمر نادر للغاية، وليس مستساغا ومحبذا. إن الزواج من إمراة ثانية لاسيما بالنسبة للأساتذة، عمل غير محبذ، إلا إذا كانت الزوجة الاولى مصابة بمرض خاص ولديها عذر مقبول.
وتقام مراسم إرتداء العمامة في محضر الأساتذة أو المراجع بعد تلقي دورة السطح. وحجم وقياس العمامة يجب أن يكون متناسبا مع السطح العلمي. ويتوقع في عامة الأماكن والمواقع الإجتماعية أن يحضر طالب العلوم الدينية وهو يرتدي العمامة وزي علماء الدين. ويتم مناداة المراجع والاساتذة بالسيد، مثل السيد الخوئي والسيد الخميني والسيد السيستاني. وفي المراسلات الرسمية يتم التقيد بالعناوين وتستخدم عبارة “حجة الاسلام والمسلمين” بالنسبة للاساتذة والمجتهدين، واية الله للمقامات الرفيعة جدا للحوزة.
قنوات الإشراف والهيكل التنظيمي
وللحد من المفاسد المحتملة في النجف الاشرف، أعتمدت اساليب بصورة تقليدية. وطبعا فان منطق مدرسة النجف يختلف بشكل بنيوي عن منطق التداول الاقتصادي للعصر الحديث والقائم على البيروقراطية. ومن الناحية الاقتصادية، فان بيوت العلماء تتوخى الدقة، ويتم تسجيل جميع المداخل والمخارج. وتم وضع نظام متشدد للنفقات المالية، ومعظم النفقات، بحاجة إلى إذن وختم المرجع نفسه أو مكتبه، ويتراجع بالتالي إحتمال الفساد إلى الحد الأدنى. والنفقات تغطي بشكل عام الراتب الشهري للطلبة والاساتذة ومن ثم إصدار الكتب وبناء المدارس العلمية وتطوير المكاتب والمؤسسات في العالم والترويج والدعوة للتشيع. إن موضوع كيفية النفقات وعما إذا كانت الإستثمارات دقيقة وهادفة في كل مكان وتعطي نتائجها المرجوة، وهل تتم بنفس الدقة التي يتوخاها المراجع، هو نقطة يجب مناقشتها في موقع اخر. إن بيوت مراجع النجف صغيرة في العادة، ولا يختلف المكتب بشكل يذكر عن البيت. ومن هذا المنطلق، فان القيود التي يضعها مراجع النجف، أدت إلى أن يكون من غير الممكن توسيع البيت ودخول موظفين بصورة عريضة وطويلة. إن مبنى وملامح المكتب يجب أن تكون متناغمة مع مبادئ البساطة في العيش. إن مكتب المراجع هو مبنى بسيط للغاية، وبطابق واحد، وقديمي إلى حد كبير، وغير مستحكم، وجدران مبنية من الجص، ومن دون الواجهات والتجميل السائدين في الداخل والخارج، ومن دون أرضيات ملفتة، ويتم فرشه عادة بالموكيت أو السجاد زهيد الثمن. وإمكانات المبنى متواضعة للغاية أيضا، وعادية أكثر مما ينتظر ويتوقع. إن مكاتب المراجع الأربعة الرئيسيين ومعظم الأساتذة والتي شاهدتها عن كثب، هي هكذا. إن موقع مكتب اية الله السيستاني والمباني العالية المطلة عليه، هي بشكل يمكن القول بلا تردد، بان هذا المرجع الديني الأعلى للشيعة، قد أدرك النهار لسنوات لكنه لم يشاهد الشمس بشكل مباشر. ويتقيدون أيما تقيد في النفقات الشخصية. وكل ما يصل من الأموال الشرعية والنذور والهدايا، يذهب عادة إلى الشؤون المتعلقة بالمذهب، ولا نبالغ إن قلنا أن اية الله السيستاني لا يملك أي شئ لنفسه. وقصة بيته المستأجر معروفة. إن البساطة والتواضع في عيش وحياة اية الله الحكيم واية الله فياض واية الله بشير النجفي، هو امتداد لتلك القصة للمدى الذي شاهدته واعرفه.
وفضلا عن ذلك، فان كون الإنسان من أبناء المراجع، لا يؤدي إلى تمتعه بالإمكانات أو الإمتيازات الخاصة، ولا يمكن لأحد أن يحظى بسبب هذا الموقع، بإمكانات خاصة. وفي النجف الاشرف فان أحد الأبناء أو الصهر أو أحد التلامذة من ذوي الخبرة، يتولى عادة مهمة المساعد أو مسؤول مكتب المراجع الكبار والأساتذة. لكن هذه المهمة، لا تتحقق لمجرد القرابة البحتة، بل أن هذا الشخص يجب أن يكون معروفا بالصدق والأمانة ونظافة اليد والتقوى والورع والبساطة في العيش. إن المروءة والشهامة والإعراض عن إغراءات الدنيا، والكياسة والتقيد بعدم الإختلاط الأكثر من اللازم مع الاشخاص والتحلي بالأدب لحفظ حريم المرجعية، يعد ضروريا. ولم أسمع أن أبناء المراجع والاساتذة الرئيسيين استفادوا من امكانات خاصة، وأن ينخرطوا في المجال الاقتصادي. وإن أراد مسؤول المكتب القيام بعمل ما خارج نطاق مسؤوليته، يجب أن يبدي خبرة من نفسه. وفي الكثير من الحالات، فان مسؤول المكتب أو أبناء المرجع، يتمتعون أنفسهم بقوة علمية وفقهية كبيرة، وبالتالي فان فصولهم الدراسية تعد من الدروس ذي الشعبية في النجف الاشرف، وهذا لم يتحصل طبعا بسبب القرابة، بل نابع من الشخص ذاته، مثلما أن السيد مصطفى الخميني كان يعرف في السابق بالوزانة العلمية، وأن دروس السيد محمد رضا السيستاني تحظى بشعبية كبيرة. وإضافة إلى ذلك، يبدو في النجف الأشرف، بان تربية وتنشئة الأبناء والتدقيق في طريقة حياتهم وارتباطاتهم الشخصية، يعد جزء لا يتجزأ من حياة طلبة العلوم الدينية في هذه الحوزة، وليس مقبولا أن يترك أحد أبناءه ليتصرفوا كيفما يشاؤون أو أن يسمح للإستفادة من اعتبار المرجعية أو تدريس استاذ ما، لاكتساب الإمتيازات الخاصة. إن إلقاء نظرة على شخصية أبناء المراجع العظام، والاساتذة في الوقت الحاضر والماضي، يؤكد ذلك إلى حد كبير.
والبعد الاخر للهيكل التنظيمي لمؤسسة المرجعية، هم وكلاء المراجع. إن هؤلاء هم الأكثر وثوقا والأكثر قربا من المراجع، وينتخبون عادة من بين الأصهار والتلامذة والمعتمدين الموثوق بهم. إن هؤلاء يعدون سفراء المراجع ومثالا لنظرة المراجع إلى المجتمعات الشيعية. ومن ميزات وكلاء مراجع النجف، هي قدراتهم الهائلة في التواصل مع الأطياف الحوزوية والاجتماعية والثقافية المختلفة والسياسة إن اقتضت الحاجة لذلك، وهذا بحاجة إلى البراعة والمهارة والدقة في السلوك والمراقبة في التصرفات.
ويتوقع من هؤلاء ايضا حسن العشرة والإعتدال في الشخصية وحسن النظرة والإدارة والقدرة على التأسيس والتأليف والمعرفة الصائبة لاحتياجات المتلقين لتوسيع التواصل بين المرجعية والمجتمعات. إن وكلاء المراجع يتجنبون عادة التدخل في السياسة، وهم ينقلون في تصريحاتهم الرسمية، وجهات نظر ورؤى المرجعية، وهو ما يحصل مع الشيخ مهدي الكربلائي والسيد أحمد الصافي. إن وكلاء المرجعية في خارج العراق، لم ينتخبوا لمجرد تنظيم الأموال الشرعية وحماية طلبة بلد الوجهة. إن معرفة الإحتياجات الدينية لشعب البلد أو البلدان التي يختارون فيها كوكلاء وتنظيم العلاقات مع التيارات الشيعية ومن المذاهب الاخرى والديانات الاخرى، وكذلك النخبة الثقافية والعلمية وشخصيات البلاد، يكتسي أهمية بالغة. إن النظرة طويلة الأمد لاحتياجات المذهب والتوجه التأسيسي، يحظى بمنزلة استراتيجية. وأي قاعدة ومؤسسة دينية، يتم تأسيسها في العالم، إن كانت مبنية على التقييم الصحيح للمتطلبات والقرار الصائب، ستكون بمنزلة شجرة باقية تعطي ثمارها لقرون. إن أحد النماذج الشهيرة والموفقة للمرجعية من مكتب النجف المعتدل، هو حجة الاسلام السيد جواد الشهرستاني، والذي سمعت الإشادة به من الكثير من كبار الشخصيات، وجربت الأمر شخصيا. إنه سيكون من النماذج الخالدة في جهاز المرجعية لفترات وحقب طويلة.
إن مجمل هيكلية المرجعية والزعامة والمكتب ووكلاء المرجعية الشيعية، صممت بشكل بسيط ومتواضع للغاية، وأن أداءها يتوقف بشكل مباشر على الذكاء والنظرة الثاقبة والخصائص الشخصية للزعيم والمرجع والمكتب والوكلاء والتلامذة. إن هذه البساطة، تجعل من السهل صنع القرار وستكون النتيجة باهرة ولامعة خاصة وإن كان المرجع صاحب فكرة حسنة ويملك جهازا مبدعا، ومن جهة اخرى، فان برز ضعف في أي موقع من هذه السلسلة لاسيما إبان الضغوطات والأزمات، فانه سيظهر للعيان سريعا. إن الهيكليات الرسمية للمؤسسات الدينية هي أقرب في المسيحية إلى نموذج الحكومة ولدى أهل السنة إلى نموذج الوزارة، وحتى أنها أظهرت عدم فاعلية وحتى مفاسد كبيرة. وإن لم تكن الهيكليات العصرية، مصحوبة بالشفافية وتحمل المسؤولية والمحاسبة، فان مآلها سيكون الفساد والتآكل. إن الهيكلية الحالية للزعامة والمرجعية الشيعية هي أفضل وأنشط من النماذج المماثلة في سائر الديانات، وأكثرها هدفا، وطبعا هي بحاجة إلى التحسين والتطوير خاصة في مجال معرفة التطورات الدولية ومعرفة اثار فتاوى واجراءات المرجعية على المجتمع الشيعي والتواصل مع سائر الاديان وكذلك تقييم الاحتياجات وتحمل المسؤولية والإشراف والمراقبة.
كيفية البت في المخالفات
إن الطالب يجب أن يتصف بالأخلاق والتواضع والتدين، وقلما سمع بان الطالب النجفي، ذاع صيته بسبب مخالفة. إن حب الدنيا والترف والبذخ والكسل، هو أمر مذموم ومستهجن. لكن إن حصلت مخالفة، فانه يتم الإهتمام بمخالفات الطلبة بطريقة أخلاقية ومرحلية. فان اقترف طالب ما جريمة، فانه يمثل أمام محاكم، يمثل أمامها أيضا سائر افراد المجتمع. وإن لم تكن القضية بمستوى الجريمة، مثلا أن يعرف طالب ما بعدم الإلتزام بمبادئ وأعراف طالب العلوم الدينية، فان الأستاذ يوجه إليه عادة إنذارا، وإن استمر الأمر، فانه سيبعده، وهكذا طالب سيتعرض للسؤال والمساءلة أيضا إن أراد الحضور في درس سائر الأساتذة. فإما أن يصوب نفسه أو أن يكون مشهورا بسوء الخلق والعزلة. والحوزة لن تتدخل بطريقة أخرى، ولا يوجد شئ إسمه خلع الزي في حوزة النجف الأشرف.
أسلوب التعامل و الإنفتاح على سائر الحوزات العلمیة
وحتى قبل أن يستولي صدام على السلطة، والضغوط التي مورست في عهده، كان الطلبة الذين يدرسون في الحوزات الاخرى، يختارون النجف بسبب حضور العدد الغفير من علماء كبار ومن الطراز الاول والمبرزين في العلوم الفقهية فيها، وذلك من أجل سلوك مراحل أعلى في الدراسة، وقلما شوهد أن الطالب الذي جاء الى النجف، ينتقل إلى حوزة أخرى لمواصلة التحصيل العلمي، إلا إذا كان منفيا، أو أن تكون ضرورة لا يمكن الرجوع عنها. إن حوزة النجف فتحت ذراعيها دائما على الأساتذة والطلبة الذين أمضوا السطوح المختلفة في الحوزات الاخرى، رغم أنه وحتى قبل العهد الجديد، كان الطلبة الايرانيون ومن ثم العرب من بلدان منطقة الخليج الفارسي ولبنان، يعيشون ظروفا أفضل من الطلبة الباكستانيين والافغان والهنود، بحيث أن الراتب الشهري للطلبة الايرانيين والعرب، كان في حقبة ما أعلى من الطلبة الافغان والباكستانيين والهنود.
ومن ناحية التنوع في الجنسية، كان نحو 7 الاف طالب يدرسون في النجف الاشرف حتى قبل عهد صدام، سبعون بالمائة منهم كانوا أجانب (إيرانيون وباكستانيون وهنود وافغان والعرب من سائر البلدان) ونحو 30 بالمائة من العراقيين. وإبان حكم صدام والحرب مع ايران، وصلت الهجرة إلى العراق إلى حدها الأدنى بسبب الضغوط الرهيبة التي كانت تمارس ضد الحوزة ونفي الكثير من الطلبة الايرانيين واعتقال الطلبة العراقيين، وانخفض هذا العدد إلى حوالي الف طالب. وبعد سقوط صدام، انتعشت حوزة النجف الاشرف لتستعيد مجدها التليد من خلال إحتضانها اليوم قرابة 15 ألف طالب. وفي الظروف الحالية، فان زهاء 70 بالمائة من طلبة هذه الحوزة، هم عراقيون و 30 بالمائة غير عراقيين ومعظمهم من بلدان منطقة الخليج الفارسي وباكستان وافغانستان والهند وعدد من البلدان الغربية. وفي أهم تطور، تقلص عدد الطلبة الايرانيين إلى أدنى مستوى له. وبما أن الطلبة الايرانيين كانوا يشكلون واحدا من الأقطاب العلمية للنجف الاشرف، فان هذا الموضوع وتبعاته المحتملة، هو محط اهتمام وتأمل، بالرغم من أن العدد الضئيل من الطلبة الايرانيين يعود إلى إتساع نطاق وازدهار الحوزة العلمية في قم وكذلك التدقيق والتشدد في قبول الطلبة الايرانيين لتجنب انتقال الهوامش السياسية السائدة في ايران إلى النجف الأشرف.
ومن حيث التنوع الثقافي، فقد واكبت حوزة النجف وبشكل جيد، التنوع الثقافي لطلبتها المهاجرين، وأن غلبة الدرس والبحث، جعلت التمييز الثقافي يفقد بريقه بشدة، بل أن ينسى. وبالتالي، فان ثمة إنفتاحا ومرونة تجاه أنماط ثقافات الشعوب المسلمة. كما أن غلبة فلسفة الزيارة في ضريح الإمام علي (ع)، جسدت التنوع والتعددية الثقافية بصورة جيدة. وترى في ضريح الإمام علي (ع) أن أي شخص يزور بطريقته الخاصة، وقد حضر إلى هذه الموقع المقدس أبناء الشيعة والسنة وأصحاب الإنتماءات العلوية والزيدية والصوفية وربما المذاهب والأديان الاخرى للتشرف بالزيارة، وهو الضريح الوحيد الذي لا يغلق من أجل صاحب منصب وسياسي وحتى مرجع ديني.
التوجهات السياسية واستقلال مؤسسة الحوزة
إن الموضوع المهم الاخر يكمن في الإكتفاء الذاتي واستقلال مؤسسة العلم، وكيفية تمويلها. إن حوزة النجف الاشرف تبدي حساسية بالغة إزاء استقلالها في الاقتصاد والنظام التعليمي والسياسة، ولا تقبل أي تدخل من جانب الحكومة أو غير الحكومة في شؤونها. ومن الناحية المالية، فانها ومن خلال رفض قبول المساعدة من الحكومة، تكون قد قبلت بالتقشف، وهي تدار فقط من خلال المساعدات والأموال الشرعية للناس، ولم تعتمد طرقا وقنوات أخرى لتحقيق العوائد. بمعنى أن حوزة النجف الاشرف لا تمارس التجارة. إن الحساسية تجاه استقلال الحوزة هي بدرجة أن اية الله السيستاني لا يقبل أي مساعدة من أي دولة، وقال اية الله فياض “إن علماءنا يقبلون الشهادة، لكنهم لا يقبلون مساعدات الحكومة”. وهذا النموذج في عدم التبعية للحكومات والدول أو التيارات، منح قوة فريدة لهذه الحوزة، ولذلك استطاعت الصمود والبقاء خلال الحكومات المختلفة التي بلغ بعضها إلى حد قمع واضطهاد الطلبة. وأقصى اتصال تقيمه الحوزة مع الحكومة يتمثل في إصدار تراخيص إقامة الطلبة الأجانب من قبل الحكومة وذلك بعد التأييد الصادر عن المجلس المنتخب للحوزة. وهذا المجلس هو منتخب من قبل الحوزة، ولا دور للحكومة فيه. إن الإستغناء الاقتصادي للحوزة العلمية بالنجف الاشرف هو بدرجة أن اية الله السيستاني لا يقبل المساعدات الحكومية فحسب بل أرجع للناس أنفسهم إنفاق الأموال الشرعية في العراق. وهذا الإستغناء ترك بالتأكيد آثارا معنوية وحقيقية كبيرة في حفظ كرامة الحوزة وعلماء الدين، وعمّق من الإعتداد بالذات وجهود الحوزة في شؤون الدين.
ومع الاستقلال وتحاشي التدخلات السياسية الصاخبة، فان للحوزة العلمية بالنجف الاشرف رؤية سياسية متنوعة. إن حصيلة الرؤية التي تحملها حوزة النجف حول الحكومة في الإسلام هي بحث فقهي، يجب أن يتناوله أصحاب الخبرة والمؤهلون، لكن ومن وجهة نظر مراقب من الخارج، يمكن القول بان النجف ليست صريحة في هذا الخصوص من الناحية النظرية وكأنها تعتمد إجتهادا متواصلا في هذا المقولة. لكن الانتفاضة الأولية لتشکیل الحکومة ليست القاعدة العامة. ومن نظرة التقليص بمستوى التدخل في الشؤون الحسبية٬ الی نظرة التدخل أثناء الضرورة وقدر الإستطاعة عندما یکون ذلك ضروریا والتي تری شرعیة الحکومة تعتمد علی تأیید المرجعیة مثلما آمن بها اية الله الخوئي إلى النظرة القصوى للولاية المطلقة التي یؤمن بها الإمام الخميني وإلى النظرة البينية للدولة المدنية والتي ينظر إليها لدى اية الله السيستاني، قد طرحت كلها ومازالت تطرح في هذه الحوزة.
ويُفهم لدى الجيل اللاحق هكذا بان اية الله الايرواني والعديد من الاساتذة الاخرين هم قريبون من النظرة الكائنة بين اية الله الخوئي واية الله السيستاني أي التدخل في السياسة في حدود “الضرورة والمصلحة” كما أن عددا اخر من العلماء بمن فيهم اية الله الجواهري أقرب إلى رؤية اية الله الخميني أي الولاية مطلقة اليد. ولاية الله السند رؤيته الخاصة بعنوان الدولة العالمية في نظام المعصوم (ع)، ويرى أن للعلماء والنخبة والمؤمنين دورا خاصا في هذا المجال. المشترك الوحید في هذه النظریات هي أن شرعیة الحکومة تعتمد علی توقیع المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة. ويمكن اليوم القول إجمالا أن النظرة السائدة تحت زعامة اية السيستاني تتمثل في عدم إعطاء الأولوية للتدخل الإبتدائي في السياسة إلا من باب “الضرورة والمصلحة”. وبعبارة أخرى فقد استطاعت التحكم بقيدي “الضرورة والمصلحة” في مجالي السياسة والسلطة، ولا تعتبر السياسة شغلها الشاغل مثلما أنها لم تعتبر ذلك في يوم من الأيام. ویمکن القول بأن غياب ولاية الفقيه أو المرجعية في الدستور العراقي يعود إلى نظرة تحاشي السياسة إلا في حدود “الضرورة والمصلحة٬” الرؤى المتنوعة في هذا الإطار بالإضافة الی النسيج الإجتماعي والعرقي والديني المختلف في العراق. إن الحوزة العلمية بالنجف الاشرف لديها تجربة ايران، وتحترم هذه التجربة وتأتي على ذكر الإمام الخمیني بعزة وتواضع، ولديها في الوقت ذاته إنطباعاتها بشأن النقاط الإيجابية والسلبية لهذه التجربة. وإن عقدنا مقارنة مع السنوات الخمس الماضية، فان موضوع الاخذ بعين الإعتبار المصلحة بجانب الضرورة أصبح يسمع بشكل أكثر في أدبيات الاساتذة، إذ يبدو أن ذلك نابع من التجارب المختزنة والمتحصلة جراء تطورات سنوات ما بعد سقوط صدام ودور علماء الدين الشيعة فيها.
وحتى قبل سقوط صدام، كان الحفاظ على مسافة مع الحكومة في العراق مبدأ بصورة عامة. فإن لم تكن الدولة في صراع مع الدين أو لا تتطاول على حريم الحوزة، فان التيار الرئيسي للحوزة لم يكن يفكر بالتدخل في الأمور. لكن إن تم الشعور بوجود مفسدة، كان يتم تنبيه الشيعة، مثلما أنه لم يكن من الجائز في فترة ما، الذهاب للمدارس الحكومية، وعندما شُعر، بان الأحزاب غير الدينية استطاعت الحصول على أعضاء لها من بين الأسر، في ظل الفراغ الناجم عن عدم وجود الشباب الشيعي المؤمن في المدارس، فانه أجيز ذلك مجددا.
وكانت الحكومة قد مارست ضغطا في فترة من الفترات وطلبت من الحوزة أن تتعاون، لكنها وبسبب عدم مواكبة الحوزة لها، تمادت فمارست التهجير والنفي وصولا إلى سجن كبار العلماء وسفك دمهم بمن فيهم الشهيد الصدر والمرتبطين ببيوت المراجع مثل آل الحكيم وتلامذة ونجل اية الله الخوئي وباقي كبار الشخصيات وكذلك العمل على شطب زعامة اية الله الخوئي. وعندما لم يبق سبيل سوى التدخل في السياسة، فان الحوزة تدخلت وتركت أثرها السياسي، الأمر الذي أشرنا إلى حالات منه. ونشاهد هذا التدخل المحدود والمؤثر في الإنتفاضة الشعبانية أيضا من قبل اية الله الخوئي. وكلما تعرض كيان الدين والوطن إلى خطر، فان الحوزة أصدرت حكم الجهاد، مثلما أصدر اية الله السيستاني حكما ضد داعش. وطبعا فان تدخل سماحته في السياسة بما في ذلك الإصرار على تماسك العراق ووحدة أراضيه، والتدخل لصياغة الدستور وتعيين رئيس وزراء شيعي أو التدخل في أزمة النجف بعد محاصرة القوات الامريكية للمرقد الطاهر، يعد كله من نوع التدخل الثانوي وفي حده الأدنى، ومن نوع التواجد في المنعطفات الخطيرة للذود عن الأمة وفك العقد العصيبة.
ويمكن القول إجمالا إنه بغض النظر عن المدى الواسع لتنوع الرؤى حول ولاية الفقيه وتدخل الفقهاء بحده الأدنى في السياسة، فان النشاطات السياسية أو الحزبية ليست سارية في البعد العملي وبالمفهوم السائد في هذه الحوزة. واليوم وبالرغم من أن الحكومة لا تناصب الدين العداء، فان توصية زعامة الحوزة قائمة على ألا يتدخل الاستاذ أو طلبة حوزة النجف في السياسة بصورة روتينية. إن مراجع الدين العظام لاسيما زعيم الحوزة، يتحاشون بشكل عام استقبال السياسيين. إن زعيم حوزة النجف لا يصدر بيانا يوميا، ولا ينخرط في تفاصيل السياسة ولا يتدخل في الانتخابات. وطبعا هذا الموضوع، لا يتسم بطابع تحكمي، بل يكتسي حالة توصية في الأغلب، وأن تنوع وحرية الرؤى في النجف، قد تدفع البعض إلى التدخل في الانتخابات لكن هذا الموضوع ليس عاما، ولا يمكن تعميمه في جميع المجالات.
وفي النجف الأشرف تعتبر الحكومات في العالم اليوم، ليست بالحكومات المرجوة، ومع ذلك هناك نظرة إيجابية تجاه العلاقة السلمية مع دول العالم لاسيما الدول الاسلامية، وقلما تسمع من هذه الحوزة أدبيات وسياسة هجومية. إن السفر إلى البلدان الاخرى والتحصيل العلمي والتجارة، لا يتسبب بمساءلات وقضية ما، أكانت تلك الدولة ايران أو السعودية، امريكا أو بريطانيا. والتوصية متمركزة على حفظ ما أحله الله وحرمه والإلتزام بالحدود. وحتى توجد نظرة إيجابية إزاء تسنم منصب سياسي أو إجتماعي في الدول الغربية إن كان الامر يصب في مصلحة المسلمين. كما أن ثمة إنفتاحا تجاه إحتمال الاديان والمذاهب أكانت توحيدية أو غير توحيدية.
وتأسيسا على ما ذكر، فان أبرز الخصائص التي عملت حوزة النجف الأشرف في الظروف الحالية على مأسستها أو تسعى لتعزيزها، يمكن إختصارها كالتالي:
- الإيمان بالنزعة المعنوية في تحقيق النجاحات لاسيما الزعامة والمرجعية؛
- تقدم البعد النظري والتركيز على الفقه والأصول؛
- الإعتدال في الفتوى والتوازن في النهج؛
- الإيمان بالإبداع العلمي والحرية في الإجتهاد بجانب التمسك بالتقاليد والخلفية العلمية والإهتمام بالمدارس الاخرى والفقه المقارن؛
- الأساليب المدنية والديمقراطية على طريق إدارة مؤسسة العلم (الحوزة)؛
- التركيز على التلميذ مع حفظ كرامة وشأن الأستاذ؛
- المتانة والحيوية العلميتين وفي الوقت ذاته التسامح وقبول تنوع الآراء والأفكار في الحوزة وخارجها؛
- التمسك بتقاليد السلوك الإجتماعي والمتصلة بالشخصية بما في ذلك البساطة في العيش وأدب الحوار والتعايش مع الجماهير والنخبة؛
- غياب التنافس ذي الطابع الفردي وغير الأخلاقي لاسيما على مستوى الزعامة والمرجعية؛
- النظرة إلى الداخل وتقديم الحفاظ على الحوزة؛
- حظر العمل التنفيذي وتولي المسؤوليات والمناصب بالنسبة لعلماء الدين؛
- التدخل بحده الأدنى والثانوي في السياسة مع التأكيد على الضرورة والمصلحة + تعقيد تدخل السياسة في الحوزة؛
- الإستقلال الإقتصادي عن الحكومات والسلطة؛
- الإبتعاد عن النزعة الحزبية؛
- التحلي بفوق الوطنية؛
- الإستيعاب والتقبل الواسعين واتساع أفق التفكير؛
- إحترام الكرامة وحقوق الانسان واعتماد عنصر الفكر والحرية؛
- التمتع بتجربة العيش كأقلية مظلومة دأبت على توسيع نطاق روح التضامن والتكاتف والنظرة إلى حقوق الأقليات؛
- الحياة الإجتماعية بمنزلة مؤسسة مدنية في الحد الفاصل بين الجماهير ونظام الحكم؛
- إجادة اللغة العربية كلغة لفهم القرآن الكريم والروايات.
التحديات التي تمر بها النجف اليوم
إن حوزة النجف، تمر بتطور أساسي. إن سقوط صدام وانفتاح المجال السياسي في العراق، أديا إلى تزايد التوقعات من الحوزة وأن يكون دور الرقابة للحوزة على السياسة أكثر جدية. إن الإنفتاح على العالم أسهم في إقامة المزيد من التواصل مع المؤسسات العلمية والدينية في العالم، كما أن التطورات الاقليمية جعلت الحوزة وبصورة مستمرة أمام مواقع جادة لاتخاذ القرار والموقف. وفضلا عن ذلك، فان للعولمة قضاياها الخاصة التي تظهر يوما بعد يوم.
إن عدد الشيعة في مختلف بلدان العالم آخذ بالتزايد، كما أن الإحتياجات الفقهية والدينية للجيل الشاب، تشهد تطورا يوما بعد يوم. إن هذا الموضوع يمثل التحديات الاساسية للمستقبل والتي تتطلب التوقف الجاد عندها. ومع التكريم والتواضع الكامل أمام هذه الحوزة العلمية الفاخرة والوازنة ومنقطعة النظير والتي تعتبر بجانب قم المقدسة، محط آمال الشيعة في العالم، وتقديم الإحترام لسائر الحوزات العلمية الشيعية من خراسان الی لبنان و وفي ظل وضع حصيلة عن خبرات سائر المؤسسات العلمية في العالم، فان القضايا التي تطرح حول الحوزات العلمية والإنتظارات العامة من هذه المؤسسة العلمية مع عقد الأمل على كونها مفيدة . نورد تأسيسا على ذلك فيما يلي بعض التحديات التي تتبادر إلى الذهن من خلال النظرة من الخارج، وقد تكون ثمة أدلة وتبريرات منطقية لكل منها:
مستقبل الإستقلال السياسي والاقتصادي للحوزة
إن الإستقلال الاقتصادي يعد من ميزات الحوزة، وبتبعه الاستقلال السياسي. إن افتقار الحكومات لاسيما في العراق إلى الكفاءة والجدارة، يؤدي إلى أن توجه الجماهير توقعاتها نحو الحوزة ومراجع الدين، وتنتظر أن يقوم المراجع والحوزة بعملية النقد وحتى التدخل في السياسة، والعمل من أجل الحد من الفساد وتعزيز الفاعلية والكفاءة. وفي هكذا مناخ، فان عدم التدخل يفسر بشكل ما ودخول الحوزة والمراجع سيكون له تبعات واثار اخرى، وقد يؤدي تدريجيا إلى الإبتعاد عن فكرة الدولة المدنية. ونظرا إلى هذا التحديات المحتملة، فما هي الإجراءات التي يمكن تصورها من أجل حماية الاستقلال السياسي والاقتصادي للحوزة في المستقبل؟
كما أن التطورات الاجتماعية والسياسة والإحتياجات المتزايدة يمكن أن تلحق شيئا فشيئا ضررا بالبعد الاقتصادي للحوزة. إن السؤال المتمثل في: إلى متى تستطيع الحوزة الحفاظ على استقلالها على أساس الاموال الشرعية التي يتلقاها العلماء والمساعدات الجماهيرية، هو سؤال جاد. وإضافة إلى ذلك، فان متطلبات طلبة العلوم الدينية والحوزة والواجبات الاجتماعية للحوزة، آخذة بالتغير. إن الحوزة تقوم في الوقت الحاضر بتغيير واجباتها ومهامها الاجتماعية والعلمية في الكثير من المجالات بدء من تأسيس الجمعيات الخيرية وإنشاء المستشفيات ووسائل الاعلام والمساعدة في الأزمات البيئية بما فيها الزلازل وصولا إلى تأسيس واقامة مؤسسات خارج الحدود. وفضلا عن ذلك، فان توفير حياة متوسطة تحفظ حرمة وعزة الطلبة، يصبح في ضوء المبالغ الطفيفة الحالية، صعبا تدريجيا، لاسيما وأن توجه الحوزة، هو نظري بشكل رئيسي ويؤدي إلى أن تبقى القدرات المهنية للكثير من الطلبة، محدودة. إن هذه الموضوعات والإنفتاح على السياسة والعالم خارج الحوزة، قد يفتح تدريجيا طريق المصادر الحكومية والاقتصادية على الحوزة وأن تكون له تداعيات لا يمكن تعويضها.
وإضافة إلى ما ذكرنا، فانه يبدو أن تحديا سيظهر تدريجيا بين هيكلية كسب الرزق والعائد وازدياد عدد الطلبة وبين الهدف الفريد لحوزة النجف والمتمثل في تربية الفقيه ومن أن الطالب لا يجب أن يمارس مهنة اخرى، ويجب التفكير بايجاد حل. إن الاستقلال الاقتصادي للحوزة عن الحكومة، يشكل أمرا حيويا بالنسبة لمستقبل علماء الدين الشيعة، وفي الوقت نفسه، فان التبعية للاموال الشرعية والراتب الشهري في ظل تزايد عدد الطلبة يمكن أن يسفر عن أعراض مثل خطر توجه الحوزة نحو العوام أو التبعية للأثرياء أو فقر الحوزة. وإن اراد الطالب أن يعمل لجني العائد، فان الحالات المتعلقة بالنشاطات الفكرية والحوزوية لا تدر عليه عائدا يذكر، وسيكون مرغما إما أن ينخرط في الأعمال الحكومية أو مهنة غير حوزوية. وماذا يكمن أن يكون عليه التوجه الاقتصادي للحوزة على الأمد الطويل؟ وهل أن منع الطلبة من ممارسة مهن اخرى، مازال يحظى بالفاعلية السابقة؟ وهل يمكن العودة إلى عهد، لا يكون فيه الدين مصدرا لكسب رزق وعائد الطلبة؟ وهل من الضروري ان يتقاضى الطالب الراتب الشهري حتى آخر العمر وأليس من الأفضل، إن كان مقررا دفع المرتب الشهري، أن يقتصر على الفترة الرسمية للتحصيل العلمي والدراسة، وبعدها يجب أن يكون الطالب مسؤولا عن عائداته. وإجمالا، فان هذا الموضوع الناجم عن تطور المناخ الاجتماعي والسياسي لحوزة النجف، وتواجهه سائر الحوزات العلمية أيضا، بحاجة إلى تفكير واستشراف المستقبل، وأن اتخاذ أي اجراء يتطلب تقييم وقياس دقيق وشامل، ولا يجب تجاهل محاسنه بسبب مشاكل النظام الحالي، واتخاذ قرار جديد فجأة ومن دون تروٍ ودراسة، لانه قد يسفر عن أخطار جمة لحوزة النجف.
ضرورة التبيان النظري وتوثيق الأفكار والآراء
إن النجف تلمع وتتلألأ على تاج كياسة ودراسة وفطنة زعيمها ومراجعها المتميزين. وفي نفس الوقت بحاجة إلى تعريف أوضح حول منزلتها في المستقبل. إن النجف، ليست الحوزة العلمية المتعلقة بالعراق وحده، بل هي بجانب قم المقدسة، تعد واحدا من الجناحين العلميين الرئيسيين لعالم التشيع. وفي هذا الخصوص، فان السلوك المتباين للنجف لاسيما في مجال السياسة، بحاجة إلى تبيانه نظريا. وبالرغ من أن نظرتي ولاية الفقيه المطلقة والدولة المدنية، تم تبيانهما بصورة كلية، لكن مبادئهما النقلية والعلقية بقيت من دون صياغة. وطالما أن هاتين النظريتين بقيتا في إطار الحوزة العلمية، ولا تقيمان تواصلا مع الحياة العامة للناس، لم تكن ثمة حاجة لتوضيحهما، لكن في الظروف الحالية، بحيث تؤثر كلتا الرؤيتين الرئيسيتين مباشرة على حياة الشيعة وبرنامجهم الاجتماعي، لا يمكن التنصل عن تبيانهما بشكل مستدل، ومطالبة الجماهير في حدود تكليف تقليدي بحت. وإن لم تكن ثمة مصادر جلية لفهم مبادئ ورؤى النجف وقم، عندها يتم تفسير هاتين النظريتين على أساس الظن والحدس، وربما لن يكون ذلك أقرب إلى الصواب. وفضلا عن ذلك، من الضروري أن يتم صياغة ونشر أفكار كبار اساتذة الحوزة والتحديث الجديد على أقل تقدير، باستمرار، حتى وإن كان على شكل تنزيل بحوث الفصول الدراسية وتسجيل الإيضاحات الشفهية، لتبقى تراثا وميراثا للأجيال المستقبلية.
النتاجات العلمية والإصدارات الحوزوية
وتنجز الحوزة العلمية، نتاجات علمية وافرة، لكن هذه النتاجات لم تكتسب بعد النظام والنسق المتوقع فيما يخص المتلقي والتأثير على عالم العلم والمعرفة. إن متلقي هذه النتاجات يقتصرون عادة على داخل حوزة النجف، ولا تؤخذ آفاق أرحب بنظر الاعتبار للكثير من الكتابات والتأليفات، في حين يضع الإنفتاح العالمي على حوزة النجف، متلقين متنوعين أمام الحوزة. وفي العالم الذي يشهد شهريا صدور ألوف المقالات والكتب، يتعين على حوزة النجف التفكير باساليب تعكس الفكر الشيعي في عالم المعرفة. ونظرا إلى الكم المتزايد من الطلبة، يمكن إنتاج نتاجات أكبر وأكثر تنظيما تخاطب متلقين متنوعين.
وإضافة إلى ذلك فان الإصدارات الحوزوية بحاجة إلى تحديد معيار تعتمده دور النشر العلمية. ويقوم اليوم كل شخص باصدار كل ما يراه هو لازما وما يعتبره مفيدا، وهذا عمل جيد طبعا من باب حرية التعبير والفكر، لكن ليس كافيا. ولكي يتمكن الطلبة والناس من تشخيص الكتاب الذي تم تصديقه عن الكتب الاخرى، يجب أن تقوم حوزة النجف الاشرف ومن دون منع اصدار كتب الاشخاص، باتخاذ اسلوب شامل لتاييد وتقديم الكتب المعتمدة. بالرغم من أن بعض الكتب، بما فيها التقريرات، تحظى بتأييد وتصديق الكبار، لكن ذلك غير كاف لحفظ المواصفات والمقاييس اللازمة في سوق الكتب الفقهية والدينية.
ونقطة الضعف الأخرى هي أن وجود دار نشر يمكن تقديمها لعالم خارج الحوزة العلمية وتسهم في التعريف بالتشيع للمراكز العلمية والنخبة في العالم، نادر جدا تقريبا. وعلى حوزة النجف الاشرف أن تفكر بتقديم التشيع للعالم الجديد عن طريق التبادل العلمي مع المراكز العلمية في العالم.
التعرف على المبادئ الفكرية والفلسفية للعالم الجديد
إن البعد التكنولوجي للعالم الجديد، قد اقتحم اليوم أكثر الأسر تقليدية. وقلما نجد أسرة لا تستطيع الوصول إلى تكنولوجيات الإتصال الحديث. وبمحاذاة هذه التكنولوجيات، فان المكاسب الفلسفية الجديدة والفكرية قد وجدت طريقها هي الاخرى، وسيكون لها تحدياتها الفكرية لاسيما بالنسبة للجيل الصاعد. إن الرد على هذه التساؤلات والتحديات الجديدة النابعة من الأسس الفكرية للعالم الجديد بحاجة إلى التعرف على هذه الأفكار. إن عدم معرفة هذه العلوم سيؤدي إلى العجز في تلبية الإحتياجات الفكرية للمجتمعات الاسلامية والأجيال الجديدة والمستقبلية، ولهذا السبب، ربما يبدو ضروريا اعتماد تعليم وتدريب مثل اللغة الانجليزية والاقتصاد والسياسة والفلسفة والعلوم الاجتماعية، لكي يفضي إلى الإنتاجات العلمية والحضور الأكثر أثرا في العالم العلمي والاجتماعي.
الفقه السياسي والفقه الاجتماعي وتساؤلات الساعة وفقه المتواجدين في الغرب
لقد بدأت جهود جيدة في حوزة النجف للرد على التساؤلات الفقهية المعاصرة لاسيما في الموضوعات المتصلة بالتطورات العلمية والتكنولوجية والطبية وحقوق الانسان. كما أخذت بعين الإعتبار وبشكل ذكي الموضوعات المتعلقة بالعالم غير الاسلامي. لكن وفي خضم تحديات العصرنة السريعة للمجتمعات، فان الإنتاجات الحالية للنجف الاشرف، لا تتناغم بالكامل مع تعقيدات العالم العصري وسرعة التطورات ومدى تواصل الشيعة مع العالم غير المسلم. إن تجنب السياسة تسبب هو الاخر بترك الكثير من الأسئلة المتعلقة بمجال تدخل الحكومات أو المؤسسات الحكومية أو حقوق الناس قبال الحكومات من دومن جواب وذلك خوفا من تهمة التسييس، إذ يجب التفكير بحل لذلك. إن النجف لا تريد التدخل في السياسة، لكنها معرضة على أي حال للتساؤلات السياسية والاجتماعية المتزايدة للمجتمعات الشيعية، وبالتالي فهي بحاجة إلى الفقه السياسي والفقه الاجتماعي النابع من إجتهاد شامل النظرة ومنبثق عن مدرسة النجف.
نقص مصادر الدراسات الدينية للشيعة القاطنين في أماكن بعيدة
إن الإصدارات الرئيسية للنجف هي باللغة العربية، واللغات الاخرى هي فقيرة في هذه الحوزة. كما أن اللغة الفارسية أصبحت مزودة بفضل الحوزة العلمية بقم بمصادر جيدة. إن غياب الطلبة واسعي الثقافة والمعرفة بجانب غياب مصادر ثرية وكافية للشيعة لاسيما في الدول الغربية، يعرض شيعة الأجيال المستقبلية لفراغ حقيقي من جهة المعارف وضعف فكري في مواجهة الأفكار الإلحادية والإنحرافية. واليوم يمكن بالكاد العثور على تفسير مناسب للقرآن أو نهج البلاغة باللغة غير العربية وغير الفارسية. وحتى أن معظم المواقع الالكترونية لمراجع الدين العظام، تقدم الأحكام الشرعية باللغتين العربية والفارسية وكحد أقصى بلغة الاردو. وفضلا عن ذلك، فان نقطة الضعف هذه تؤدي إلى بقاء البحوث المتزايدة في مجال الاسلام وباللغات غير العربية غير مستفيدة من المعطيات والبحوث والدراسات المتاحة.
التواصل بين الحوزات
إن ضعف التواصل العلمي بين الحوزات العلمية، هو من نقاط الضعف البارزة. وقد تكون ثمة لقاءات للعلماء مع بعضهم البعض، لكن التبادل العلمي على هيئة تبادل الزيارات الجادة والمنتظمة بين الاساتذة أو إجراء المناظرات والملتقيات العلمية بين الحوزات العلمية لاسيما النجف وقم، طفيف جدا، وربما يطلع العلماء على آراء ورؤى بعضهم البعض عن طريق بعض الكتابات أو تلامذة العلماء. إن أبواب التواصل العلمي في عالم اليوم يجب أن تكون أكثر إنفتاحا.
ضعف معايير القبول في وسط طلبة العلوم الدينية
إن إنضمام الفرد إلى وسط طلبة العلوم الدينية نابع من تشخيص فردي أو عائلي. والتقليد سارٍ في أسر علماء الدين أن ينخرط الأبناء الذكور وعلى الأقل واحد منهم، في صفوف علماء الدين. إن الإنخراط في وسط طلبة العلوم الدينية، هو يتبع في الحقيقة الرغبة والتقليد. لكن الموهبة لا تلعب دورا مهما في هذه المقولة. فان كانت الموهبة وهمة الطالب عادية، فانه ينمو بشكل عادي، ويصبح في النهاية طالبا متوسطا، وإن كان ذا ذكاء خارق، ويملك همة ويحالفه الحظ، فانه سيرتقي بطبيعة الحال إلى سطوح أعلى وإلى مستوى المرجعية. ولم يتم تحديد حد أدنى للقبول في سلك طلبة العلوم الدينية، إلا بقدر المقدرة على القراءة والكتابة، وهذا يعد طبعا من الإشكالات التي تؤدي على المدى الطويل إلى تنشئة عدد كبير من الطلبة العاديين وإنفاق الإمكانات والميزانية حتى آخر العمر على هؤلاء الطلبة الذين من غير الواضح كم سيكونون نافعين للحوزة العلمية والمجتمع وحتى أنفسهم هم.
المراجع المُنصّبون ذاتيا
إن الدعاية والمحاولات الشخصية والإفادة من وسائل الاعلام ودفع أموال لتنصيب مرجع ما، يعد عملا مذموما وغير مستساغ. والإعلان عن المرجعية في الاجواء الديمقراطية، يبرز هذه الثغرة، بان بعض الأفراد الذين لا يملكون مستوى علميا متميزا، وفي ظل مسوغات فردية أو أسرية وموروثة أو محلية ومناطقية أو تدخل التيارات السياسية أو الحكومات أو إنفاق مبالغ والدعاية والإعلام، يسعون لعرض أنفسهم ويخصصون مساحة لأنفسهم أو يستحدثون هوامش. وبالرغم من أن هكذا مراجع، لا يتألقون ويبرزون في النجف، ويبقون في إطار محدود، ولا يستمرون بسبب فقدانهم للفضل الكبير أو التلامذة الفضلاء، لكن من الضروري إيجاد سبيل لا ينطوي على التدخل في العملية التقليدية والديمقراطية للمرجعية ويحد من هذه النقيصة. إن النجف تؤمن بان الله تعالى هو من يُنصّب المرجعية لاسيما المرجع الأعلى، لكن هذه النظرة لا يجب أن تحول دون التدقيق في تذليل الثغرة السارية.
الدعاة قليلو التعليم
إن الدعوة لا تعد من مظاهر الحوزة العلمية للنجف الاشرف، وربما في النظرة التقليدية لحوزة النجف، فان الطالب الذي يذهب للدعوة، يتأخر عن الدراسة إلى حد ما، والأستاذ لا يملك فرصة للدعوة، لذلك فان إعتلاء المنبر لا يعد دعوة محمودة إلى حد ما. وهذا الموضوع يلقي بظلاله على مستويات المنابر، ونظرا إلى المستوى المتزايد للدراسة والتحصيل العلمي ومعرفة عامة الناس ومتلقي المنابر، فانه يبدو أنه يجب التفكير في حل للمنابر. وقد ازداد في الاونة الاخيرة إهتمام الطلبة العراقيين بالدعوة، حيث يعود هؤلاء الطلبة إلى مدنهم في اخر الاسبوع من أجل الدعوة.
والمسألة الاخرى هي أنه لا يتم الإشراف على منابر الخطباء، وأهم معيار هو عدد مستمعي منبر ما، لكن في العصر الذي يتم فيه تقديم الخرافات كسلعة دينية، ويتم يوميا حقن المجتمع بمزاعم لا أساس لها باسم الدين، ما يؤدي إلى تقويض ووهن الدين ويشكل مستمسكا للمعارضين، يجب أن يكون واضحا، مدى مساهمة كل منبر في تعميق رؤية الجماهير وإبعاد الدين عن الخرافات والبدع، أو إلى أي مدى يتم نقل الروايات والتفاسير المستندة إلى الناس. إن الحوزة بحاجة إلى أساليب متقدمة لتعزيز المنابر والإشراف عليها.
إن عدم رواج اللغات الاجنبية خاصة الانجليزية والفرنسية والاسبانية في حوزة النجف الاشرف من جهة، والكم المتزايد من الشيعة في البلدان الغربية من جهة أخرى، أحدث ظروفا، لجأت فيها الحوزة في خطوة صحيحة وتستشرف المستقبل، إلى الطلبة المحليين لإعداد طلبة لهذه البلدان. إن عشرات الشبان المحبين للتشيع يسافرون سنويا إلى النجف، لتحصيل العلوم الدينية، ومن ثم يعودون بعد إرتداء العمامة.
إن موقع القوة لدى هؤلاء الشبان هو حبهم للمذهب ومعرفتهم باللغة المحلية، والثغرة الرئيسية لدى الكثير من هؤلاء الشباب هي عدم تمتعهم بالخبرة والعمق الفقهي المناسب، بينما تساؤلات الشيعة في الغرب تحظى بمزيد من التعقيدات والتنوع، لذلك فان تقديم وعرض مدرسة أهل البيت، في مواجهة التحضيرات والقوى المدربة والقوة الدعائية للمدارس الاخرى، يتطلب كياسة وخبرة أكبر. ويجب التفكير بإيجاد سبيل للإعداد طويل الأمد لعلماء الدين الذين يجيدون اللغة الانجليزية وممحضون حقيقيون في الفقه في الوقت نفسه. ولا ننسى أن أكثر القوى الشيعية في الغرب دراسة وتعليما وأكثرهم ثراء وغنى ونشاطا، أخذة بالتشكل. ولا يجب الغفلة عن هذه الطاقة، والإنتباه لكي لا نشهد في ظل فراغ التيار الرئيسي للتفقه الشيعي في الغرب والبلدان البعيدة، تكوين فرق جديدة ومنحرفة أو إعلان مرجعية أشخاص قليلي الأهلية وآيات الله نشأوا بين عشية وضحاها للشيعة في هذه البلدان.
التواصل بين المذاهب / بین الدیانات
على الرغم من أن النجف الاشرف تملك إنفتاحا تجاه الحوار مع سائر المذاهب الاسلامية وسائر الديانات الالهية، وقد أظهر العراق في النزاعات الاخيرة، إحتماله وتوجهه الإنساني بصورة جديرة، لكن لا تشاهد دبلوماسية فعالة من قبل هذه الحوزة في العالم الاسلامي وفيما يتصل بسائر الديانات، ولم يتم تبيان استراتيجية ورؤية محددة، وإن تمت، لم يتم تحديد وتقديم مكوناتها المناسبة، ولم تبلغ مرحلة النشاط على وجه الخصوص. وفي المقاعد الرئيسية للمناسبات بين المذاهب وبين الديانات في عالم اليوم، فان مقعد ممثل الحوزة العلمية للنجف الاشرف هو شاغر. إن المذاهب وسائر الاديان حريصة على معرفة ماذا تقول النجف بشأن التطورات العقائدية والحركات الفكرية والتساؤلات الفكرية للعالم المعاصر، وما هو نموذج النجف للتبادل الفكري والعيش السلمي أو حشد مواكبة سائر المذاهب والاديان.
الضعف الإعلامي
إن الحوزة العلمية بالنجف الاشرف لا تملك وسيلة إعلامية خاصة بها. ولها حضور ضعيف للغاية وضئيل في الفضاء المجازي، ولا تبدي حرصا على الحضور الإعلامي أيضا.
إن هناك وسائل إعلامية وقنوات تلفزيونية كثيرة تنطق وتعمل باسم المذهب، وتُستخدم حسب الأذواق أو للدعاية لتيار ومجموعة واشخاص خاصين. إن هذا التنوع والتعددية لا مانع فيه في الثقافة الدينية، لكن المشكلة تكمن في عدم وجود وسيلة إعلامية رسمية يستطيع الناس الرجوع اليها في حالات الشبهة والإشكالات التي يمرون بها والبحث عن الحقيقة، ويطمئنون اليها ويثقون بها. في حين أن الجماهير تصغي لوسائل اعلامية تحت مسمى ديني، ضعيفة للغاية من ناحية الجودة، وقد تكون من ناحية التوجهات، على مسافة مع الفكر الإعتدالي والمعمق للشيعة، وتركز في أفضل الحالات على الأحاسيس المذهبية أكثر منها من الأفكار الدينية. ويبدو أن النجف الاشرف وفي مجال تبيان مواقفها وتقديم المعطيات الدينية والاخلاقية بما يتناسب مع عقيدة التشيع في العالم، بحاجة الى مراجعة رؤيتها تجاه الإعلام.
العطل والإجازات الحوزویة
إن العطل الطويلة للحوزة، تعد من النقاط التي يجب التوقف عندها في جميع الحوزات العلمية الشيعية. وربما لا يزيد عدد الأيام الفعالة في الحوزة سنويا عن 120 يوما، ويقتصر التدريس في تلك الايام الفعالة على ساعتين في بعض الأحيان ، وإن لم يشارك طالب في الفصل الدراسي فانه لا توجد آلية لاستدعائه للدرس. إن هذه العطل، تهدر الطاقة والحيوية السائدة في الحوزة، في حين ان تنظيم هذه القوى في إطار المجموعات العلمية والبحثية والإنتاجية يستنزف رأسمالا كبيرا من الحوزة.
تحديث الحوزة
إن التواصل مع المؤسسات العلمية والدينية في سائر بلدان العالم، قد ينطوي على إتخاذ قرارات مبنية على تحديث الحوزة. على سبيل المثال، فانه يتم خلال السنوات الاخيرة بناء مدارس جديدة في النجف الأشرف. وفي الإنفتاح الحالي للنجف، فان تم تصميم مدارس جديدة بهيكلة وبنية قوية، على غرار جامعة طهران التي أسست في المناخ المنفتح لتلك الحقبة العلمية في ايران وتضطلع بدور جوهري في إنتاج الثقافة والأسلوب العلمي، فان المدارس الجديدة ستؤدي دورا في المستقبل بوصفها قوة الدفع والمحرك لتيار طلب العلوم الدينية في حوزة النجف العلمية. إن إدارة هذه المدارس والنمط العلمي والتعليمي والبحثي والسلوك السياسي والاقتصادي وزي طلبة العلوم الدينية فيها، سيكون له بالغ الأثر على مستقبل حوزة النجف. وسيكون لنجف المستقبل، تواصلا ديالكتيكيا خاصا مع هذه المدارس، كما أن خريجي هذه المدارس سيمثلون جزء كبيرا من وكلاء نجف المستقبل وحتى تيار علماء الدين الشيعة. لذلك فان حوزة النجف والإدارة العليا لهذه المدارس، سيتولون مسؤولية مضاعفة تجاه الشتلات التي يتم غرسها اليوم والنمط والسياق الذي تقوم عليه هذه المدارس. وبعض هذه المدارس صممت بصورة حديثة للغاية من حيث الإنشاءات والإمكانات والتسهيلات. وتضم غرفة كل طالب، إمكانات رفاهية بما فيها الكومبيوتر والإتصال بالفضاء المجازي وكذلك تم تجهيز المبنى بمكان للصحة الجسدية مع إمكانات متطورة وحتى الحمام. وطبعا يتم قبول الطلبة بشروط خاصة وبالحد الاقصى من القابليات والقدرات في هذه الحوزات، ويتم بذل قصارى الجهد لحفظ تناغم وتناسق هذه المباني مع سائر الحوزات العلمية في النجف الاشرف. وفي الوقت ذاته ونظرا إلى أن العديد من الطلبة لا يتمتعون بهذه الإمكانات، فانه يجب رؤية ما هي التدابير والإجراءات التي يتخذها مؤسسو هذه المدارس لخفض الآثار المحتملة الناجمة عن الفارق في الإمكانات الرفاهية. وسيتم في هذه المدارس على الأرجح إتباع أساليب جديدة في نظام الإدارة والتعليم وبما يتناسب مع الأنظمة الحديثة. ويجب رؤية ما التناسب الذي سيحصل بين مردود النظام الجديد وتطوير الإمكانات الرفاهية وبين الإنتظارات العلمية والخصائص الاخلاقية المتوقعة من الطلبة. وهذا مثال فحسب. ولابد من ايجاد تغييرات وتطورات جوهرية سريعة في إطار استراتيجية وتصميم كامل بالنسبة لبيئة مثل حوزة النجف، وإلا قد يتبعها عدم تناغم ينطوي على أضرار. إن مصداقية المؤسسات من الطراز الأول في العالم، تكمن في تكاملها الدائم وإنتاج العلم وفي الوقت نفسه القدرة على حفظ وإعادة إنتاج التقاليد والسنن في العالم الجديد. ونشاهد مرارا وتكرارا أن الجامعات من الطراز الاول في العالم، تشيد مبانيها بعمارة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتحافظ على مبانيها وتقاليدها العريقة، وفي الوقت ذاته تستفيد من أكثر الإمكانات تقدما، لتقف في الصف الأول لإنتاج العلم. ويعد الفن المعماري طبعا رمزا لمشاهدة كيف يتم إعادة إنتاج وتجديد التقاليد في العصر الحاضر. إن إيجاد سبل حديثة لتعزيز الإنتاج العلمي وتحديث الحوزة بجانب ضرورة التواصل مع التقاليد الماضية، يساعد على الحفاظ معنويا على حوزة النجف ويقلص إمكانية المخارج الإنحرافية للغاية. إن النجف تعد تراثا ثمينا، ومن الطبيعي أن يبذل الجميع جهودا في ظل التفكير الجاد في هذه المسارات، وتصنيف الأولويات والإنتباه إلى أن تحديث النجف ينبع من داخل النجف ومن خلال التعاطي مع العالم الخارج، لإعتماد أفضل السبل والخيارات، لكي لا تتسبب التنمية أحادية البعد لا قدر الله باقحام عناصر متعددة المكونات من الثقافات المختلفة وبالتالي إنزال الضرر بهذا التراث.
المساءلة وتحمل المسؤولية
إن الحوزة تتحلى بالدقة البالغة في الدفوعات والمستلمات وتبدي حساسية بالغة تجاه الفساد، لكنها تفتقد تقريبا إلى نظام التقييم. وتحري ما مدى جدوى وأثر ما تم أو سيتم إنفاقه والمشاريع التي يتم أو سيتم الإستثمار فيها والكتب التي صدرت أو ستصدر وما شابه ذلك، وهل أن نسبة النفقات والتكاليف متناسقة مع نسبة التأثير الذي تتركه، قائم بشكل بحت على الظن والحدس والتقارير والتقييم الفردي والكمي. على سبيل المثال، ربما يتم إصدار عدد كبير من الكتب، لكن كم منها اشتريت ومن يستفيد منها حقيقة، وهل ما اذا تم استخدام هذه الميزانية في موقع أخر، سيكون أكثر فائدة أم لا، أمر يتم تجاهله والغفلة عنه.
وربما تعد نسبة إستلام الوجهات الشرعية أو عدد المشاركين في مراسم ما، معيارا لمدى أثر الحوزة، لكن ثمة سؤالا حقيقيا يتبادر إلى الذهن ويتمثل في كيفية ومدى تدين الناس وهل هناك استراتيجية أفضل لتقديم وتبيان وترويج الدين أم لا.
عالم التشیع وعقيدة التشیع
على الرغم من أن أعاظم النجف على معرفة ودراية بتطورات العالم، ويرصدونها ويتتبعونها، ولديهم تحليل جاد ورؤى معمقة وناضجة، لكن النجف غائبة عن الكثير من التطورات السياسية لعالم التشيع. إن قسما عظيما من الشيعة في العالم، يقلدون النجف الأشرف، لكنهم لا يعرفون موقف النجف من المآزق المتعددة والأزمات السياسية العامة. إن الإطلاع على موقف النجف، يضفي توجها ومعنى أفضل على التوجهات والتعاضد والوفاق بين الشيعة. إن الوضع هو بشكل بحيث يتوقع اليوم من حوزة النجف التدخل لمعالجة المشكلات السياسية للشيعة في سائر البلدان. إن عدم دخول النجف في السياسات الرائجة في كل من ايران والعراق، أمر يمكن تفهمه، لكن الملايين من الشيعية يقطنون بلدانا اخرى، وهم في الأقلية في الغالب، أو أنهم أغلبية مثل البحرين، لكنهم يعيشون مضطهدين وتحت القمع. إن هذه الأقلية التي تبلغ نحو مائتي مليون نسمة، بحاجة إلى عقيدة واستراتيجية للبقاء والإنسجام والتنظيم والنهوض بنفسها في المستقبل. إن عقيدة التشيع في المضمار الاجتماعي لا تقل أهمية عن عقيدة التشيع في المجال العقائدي. وقال الإمام الصادق عليه السلام ضمن تعليمات استراتيجية، بان الشيعة يجب أن يكونوا زينة أهل البيت عليهم السلام. إن وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ والتحول إلى أن يكونوا زينة في العالم المعاصر المتسم بالتعقيدات، لا يختزل في التعليمات البسيطة وطبعا الفردية التي تعتبر مهمة للغاية. إن الشيعة وفي أي نقطة من العالم، يجب أن يعرفوا ما هو واجبهم الاجتماعي والاقتصادي والعائلي والعلمي تجاه سائر الشيعة والمذاهب والديانات والشعوب. إن فتاوى النجف الاشرف المهمة تجاه الذين يقطنون الغرب، تشكل فتح باب جيد لتنزيه وتوجيه المجتمع الشيعي، لكن الأمر لم يرق بعد إلى مستوى العقيدة الشاملة. وعلى الشيعة أن يعرفوا كيف يعيشون في ظل البلد الذي يقيمون فيه، وباي توجهات يمارسون الدراسة والتحصيل العلمي، وما هو نوعية إستثمارهم واقتصادهم، وكيف يتم تنظيم مشاركتهم الاجتماعية والسياسية وتقاليد وآداب تواصلهم وما هو دور النساء والرجال الشيعة في ظل مصالح باقي الشيعة في الدول الاخرى. إن المجتمع اليهودي لاسيما بعد إبادة النسل وفجائع الحرب العالمية الثانية على يد الالمان النازيين، تعلموا أن عليهم وضع استراتيجيات طويلة الأمد لأنفسهم. إن اليهود ووفقا للتعاليم الدينية يجب أن يغلبوا “نحن” و “ملكنا نحن” على “أنا” و”ملكي أنا”. إن الجاليات اليهودية منظمة جديا بذكاء في البلدان المختلفة التي تعيش فيها كأقلية، بما في ذلك التحصيل العلمي واكتساب الثروة والمال، والقدرات المهنية والإتصاف بحسن الشهرة والصيت، والإتصاف بالمعاملة المالية الحسنة وعدم اللجوء الى النصب والإحتيال والبت في وضع فقراء اليهود وتاسيس المؤسسات العامة والخيرية مثل المستشفيات مع التركيز على إسداء الخدمة للجميع ويسعون من الناحية السياسية أينما كانوا أقلية وتوافرت الظروف هناك مثل امريكا، دعم التيار الذي يحبذونه وفيما عدا ذلك يعتمدون اسلوب العلمانية والتكيف. ويؤكدون كثيرا أينما كانوا أن يدرس تلامذتهم في المدارس الخاصة بهم، ويركزون على هذا الموضوع لدرجة أن المدارس من الطراز الاول اليوم في أوروبا في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة وما فوق، متعلقة باليهود ومخصصة لتعليم أبناء اليهود. وأظهر بحث أنجز عام 2015 على يد مؤسسة “يوغاف” بان الجالية اليهودية في بريطانيا، تعد من أفضل الجاليات وأكثرها تميزا في بريطانيا من حيث الادب ومساعدة الاخرين والصدق والذكاء وكذلك تجنب الإدمان وتحاشي العنف والإعراض عن العلاقات الجنسية المتعددة والإمتناع عن الثمالة، وحسب زعم هذا البحث، فانهم يعتبرون من أكثر الجاليات في هذا البلد شعبية. وهذا نابع حتما من التنظيم والتبادل الفكري واعتناء هذه الاقلية بنفسها في مجتمع تعددي مثل بريطانيا. وكانت الساندي تايمز قد ذكرت قبل عدة أيام أن نتائج إمتحانات عام 2017 على الصعيد الوطني، تشير إلى أن اربع مدارس يهودية (ياونه كالج، وج اف اس، وكينغ ديفيد وهاسمونيان) حازت على أعلى رتبة بين المدارس البريطانية، وتظهر الشواهد أن معظم خريجي هذه المدارس يقبلون في أفضل الفروع الجامعية وافضل الجامعات البريطانية. لكن على سبيل المثال، لا تحصل أي من مدارس المسلمين في بريطانيا على هذا المركز، ونعرف أن عدد المسلمين في بريطانيا هو عشرة أمثال اليهود في هذا البلد، نعم عشرة أمثال!
ويجب التفكير بحل وسبيل لابناء الشيعة في العالم المضطرب اليوم. إن واجب الشيعة لا يختزل في تسديد الوجوهات الشرعية والمشاركة في الاوساط والمجالس الدينية كمستمع جيد. ويجب الإفادة من حريات عالم اليوم وطاقات الشيعة بإتجاه بلورة مجتمع عالمي وناجح للشيعة. إن استثمارات الشيعية يجب أن تكتسب توجها أكثر انسجاما. ويجب إجراء دراسات أكثر دقة لمأسسة الشيعة في البلدان التي يعيشون فيها كاقلية.
وفي هذا الخضم، فانه يجب تحديد أولوية وضرورة تأسيس مسجد أو حسينية أو مكتبة أو مستوصف أو مكاتب المرجعية أو مدرسة أو قناة فضائية ووسائل اعلام اخرى، حسب الاحتياجات طويلة الأمد والآفاق المستقبلية. ويجب مشاهدة متطلبات واحتياجات الجيل الثالث والأجيال التالية للشيعة بصورة أكثر دقة. إن الكثير من المكتبات والكتب الصادرة، تبقى بلا استفادة وجدوى لانها لم تصدر على اساس حسابات مدروسة، في حين أن تاسيس مدرسة أو حتى ثانوية تقنية ومهنية أو وسيلة اعلامية فاعلة ودولية، يشكل خندقا حصينا لتنشئة الأجيال الصاعدة وبقاء تلك المؤسسة في المجتمعات الاخرى. وليس واضحا ما اذا كانت الحرية التي يحظى بها الشيعة في الوقت الحاضر، ستبقى هكذا في المستقبل. وقد لا يسمحون في المستقبل للشيعة بتأسيس مؤسسات مثل التي بنيت في الوقت الحاضر، لكن المؤسسات التي يتم بناؤها اليوم، من الصعوبة بمكان إمحائها، مثلما أن الكثير من الدول الاسلامية لا تسمح ببناء كنيسة أو كنيست جديدين، لكن لا مشكلة من صيانة الكنائس السابقة.
مستقبل حوزة النجف: الإفادة من عنصر الإستقلال والحرية وإعادة انتاج مجد وعظمة الماضي
وكما ذكرنا في مواقع سابقة من هذا النص، فان حوزة النجف الأشرف ، قد أختارت عقيدة الاسلام غير المتدخل أو الذي يقف على مسافة من السلطة السياسية وذلك بالرغم من كون التدخل في السلطة السياسية ما بعد سقوط صدام أمرا طبيعيا. وأسباب هذا التوجه هي:
- الأدلة الفقهية والفكرية لمراجع النجف الاشرف لاسيما زعميها السيد اية الله السيستاني؛
- ثقل ووزن العقيدة الفقهية والتقليدية للزعماء السابقين والمتمثلة في الإبتعاد عن التدخل السياسي غير الضروري (إن الزعماء الحاليين للحوزة، هم تلامذة مدرسة الزعماء السابقين وأوفياء لهم)؛
- تنوع جنسيات أعاظم الحوزة وتوسع نطاق العالمية والأممية؛
- المفعول القوي للنفوذ المعنوي والمكانة المميزة للحوزة العلمية للنجف الاشرف من خلال الإبتعاد عن السلطة الرسمية السياسية وغياب الثقة والضمان من أن التدخل في السلطة السياسية سيحقق نتائج إيجابية، بل قد يترك آثارا ونتائج سلبية على حوزة النجف؛
- الأدلة التاريخية السلبية المتراكمة جراء تعاقب السلطة وعمليات القمع والإضطهاد القاسية؛
- الوضع العرقي لاسيما ثقل مجتمع أهل السنة في العراق؛
- حالة الإحتلال والإضطرابات الداخلية وتدخل الأجانب وإحتمال إذكاء الصراعات الطائفية؛
- تجارب الجيران والدول الاسلامية الاخرى؛
- تجربة السنوات التي تلت سقوط صدام والتي تفضل منافع التدخل غير المباشر في السياسة على منافع التدخل المباشر، بالنسبة لعلماء الدين الشيعة.
وتأسيسا على مجمل ما ذكرنا، فان النجف الاشرف تحقق تقدما وتعمل على إعادة إنتاج مجدها وعظمتها السابقة. إن النجف ومع تركيزها على الفقه والاصول والنأي بنفسها عن المناخات المتفرقة الاخرى، تعمل على تنشئة وإعداد الفقهاء والمراجع، ويبدو أنها تتحرك بمعرفة في هذا الإتجاه. وبناء على ذلك، فان الطالب النجفي يكتسي أخلاقا وفكرا وسلوكا يتناسب مع هذا الهدف. فقد عرفت النجف مهمتها الخاصة وتخطو في هذا الإتجاه. لكن ما يشاهد اليوم في هذه الحوزة أكثر من أي وقت مضى، هو الإفادة من عنصر الحرية والشعور بحرية الفكر والتعبير عن الرأي. وهو الشئ الذي يلمسه الشعب العراقي بلحمه ودمه. إن هذا الشعور بالحرية، يمنحهم حيوية ونشاطا خاصا. وكان الشعب العراقي قد تحول في عهد صدام إلى شعب مسخ، وكان عليه أن يبدي تصرفا وسلوكا مختلفا عما كان يؤمن به، لكنه يظهر اليوم الشئ الذي يكنه في قلبه وضميره. وقد استفادت حوزة النجف من هذه الحرية وأصبحت في غنى عن التقية وإخفاء رؤاها ووجهات نظرها. وقد استفادت حوزة النجف من هذه الحرية لتوطيد وإنضاج النشاط العلمي. فعلماء النجف يتحدثون بحرية ولا يشعر أحد بالتدخل في خصوصيته. ولا أحد قلق من أن يتعرض مكتبه أو منزله للمداهمة من اخرين بسبب تبيان وجهات نظره في المجال الديني أو الاجتماعي. ولا أحد في النجف يطلق الشعارات، ولا يقيم الطلبة تجمعات للتنديد أو دعم هذا وذاك وليس شائعا إصدار البيانات. ولا أحد يتحدث همسا، لان لا أحد قلق من التدخل الخفي للاخرين. إنهم يتحدثون حول كل شئ، لكنهم لا يتدخلون رسميا. وتتقارن رؤية النجف في المجالات المختلفة بدء من علاقة الحكومة/الشعب ووصولا إلى دور العلماء في السياسة وإلى حق الجماهير في الإنتخاب وإلى مدى تطبيق الشرع على صعيد الحكم والمجتمع، مع مبدأ الحرية هذه. إن اية الله السيستاني وباقي مراجع النجف الاشرف لا يعيقون حرية أحد ولا يصدرون فتاوى تكفيرية. لكن النجف حساسة تجاه ماضيها، وتعتز به. وتحتمل النقد لكنها لا تطيق إتهامها، وإن اختارت الصمت في الرد، فانها لا تنسى. لذلك فان الذين وجهوا في الماضي تهما ضد النجف، فهم لا يتمتعون بشعبية هناك حتى وإن تبوأوا مراكز علمية متقدمة. إن النجف كانت تفكر بعظمة حتى عندما كانت تتعرض للإضطهاد إبان حكم صدام. إن أفكار اية الله الخوئي والامام الخميني والشهيد الصدر واية الله السيستاني في الحقبة الاخيرة هي من هذا القبيل. وبرغم كل التباينات، فان الجميع عظماء وكبارا، ويحظون بموقعهم الخاص بهم. والان حيث عصر الحرية، قد تصدر افكار أكبر وأكثر عالمية. وعندما تتحدث إلى واحد واحد من كبار علماء النجف، بدء من اية الله السيستاني والحكيم وفياض والشيخ بشير النجفي وصولا إلى الايرواني وآل راضي والجواهري والسند والحائري، تشهد لدى هذه الشخصيات، نوعا من النشاط والمتانة الفكرية وعالمية تستحق التقدير والإشادة. إن هذه النظرة العالمية، تكتسي تميزا خاصا لدى اية الله السيستاني ورؤيته بشأن الدولة المدنية، والذي يعتبر صناديق الإقتراع أكثر السبل إتاحة في الوقت الحاضر للعيش السلمي بين الناس وتشكيل الحكومة، ونموذج على الفكر الانساني والعصري الشيعي في حقبة الحرية واستثمارها. إن حوزة النجف الاشرف تبلورت من خلال إحتماء الشيخ الطوسي بجوار الإمام علي (ع) من بطش وتعسف السلجوقيين، وجربت فترات متكررة من القبض والبسط السياسي بدء من القمع والقتل والإضطهاد وحرق الكتب وصولا إلى العزلة والتعرض للتهم وحقب من المجد والعزة والحرية، والملفت أنها بقيت صامدة وثابتة وراسخة في كل دورة، ودفعت بالمعارضين والموالين إلى التواضع في ضوء متانتها العلمية. واليوم تعرف هذه الحوزة بلا شك، بانها أمام اختبار اخر. إن نوعية سلوك ومناعة هذه الحوزة واضطلاعها بدور سياسي واجتماعي وديني في فترة القوة والعزة والحرية، سيعد أمام ناظري النخبة في العالم، تجرية تاريخية ونموذجا ودرسا وعبرة يتحذى بها. إن النجف كانت تملك العديد من مواصفاتها في السابق خاصة قبل صدام، لكنها لم تكن تتمتع بكل هذه الحرية ولم تتلمسها. وإختصارا، فان النجف قد تحررت، كما وفرت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الجديدة وأكثر من أي وقت مضى، لعلماء هذه الحوزة، إمكانية معرفة العالم وتطوراته وإحتياجات البشرية. وربما لديهم الان وأكثر من أي وقت مضى، أدوات تشخيص “الضرورة والمصلحة”، ويجب مشاهدة ما سيعطي تفقه النجف وفهمه ل “الضرورة والمصلحة” من ثمار للعالم الاسلامي في حقبة الحرية. إن النجف تجني فاكهة “الحرية” وهي تعرف ما هو قدر وقيمة الحرية.
وفي لقاء، سألت حكيما عن أهم خصيصة وصفة مميزة لنجف اليوم؟ فقال: الحرية العلمية والفردية والنفوذ المعنوي والسياسي، وسألته ثانية ما هو أهم هاجس للنجف؟ فقال: النفوذ والحرية ذاتهما!
والسلام علیکم ورحمة الله و برکاته
أبوالفضل فاتح
ربیع الاول 1439 ، كانون الأول/ديسمبر 2017
دراسات أخری للکاتب: