المهم هنا ليس موافقة آل سعود على هذا القرار الجائِر والذي يعني نهاية وهْم الحياد الأميركي في التسويات السلامية المُقترَحة، ولكن دلالات الموافقة، والتي تعني إننا أمام استراتيجية سعودية تبدو جديدة ، رغم أن جذورها قديمة في التطبيع مع العدو الصهيوني وفي التعاون إلى حد الرضوخ ، وفي التنازُل بأغلب ما يتعلّق بالمُقدّسات والحقوق العربية والإسلامية في فلسطين كلها وليس القدس فحسب.

 الخطير مستقبلاً هو أن هذا الرضوخ، والتآمر، سيمتد إلى باقي مُقدّسات المسلمين، هكذا يرى المراقبون لخطوات الملك الجديد، القادِم (محمّد بن سلمان) وفي مقدّمها مُقدّسات مكّة والمدينة المنوّرة، أي الحرمين الشريفين، فالرجل لا تشغله ولا تهزّه موقعيّة تلك المُقدّسات العقائدية ولا منزلتها لدى المسلمين، ما يهمّه هو (التجارة) والسمسرة والسلطة الوراثية وادّعاءات العِلم والتكنولوجيا (مدينة نيوم مثالاً) ، تلك الأحلام جميعاً لديه أهم من الكعبة، ورغم أن التحديث الذي يطرحه (بن سلمان)، يُعدّ تحديثاً أعوجاً وخالي الدَسَم (كما يقولون) ، لأنه غير قائم على الحد الأدنى من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، تحديث زائِف، يحمي فقط العرش الذي يسعى إليه الفتى الطائِش سعياً حثيثاً حتى لو داسَ وهو في طريقه إليه على كل المُقدّسات والقِيّم !! .

 إن ما يهمّنا هنا من الموقف السلبي لآل سعود، وفي مقدّمهم وليّ العهد بن سلمان، تجاه (القدس)، هو انعكاس ذلك على الحرمين الشريفين والأماكن المُقدّسة في مكّة والمدينة وهنا نسجّل الآتي من باب التوقّع السياسي:

أولاً: إن الإدارة السعودية الجديدة، والتي سيصبح محمّد بن سلمان ملكها المُتوَّج خلال أيام، تنظر إلى المُقدّسات الإسلامية الحجازية تماماً كما أسلافه وإن كان بأداء أكثر فجاجة، إنها مُقدّسات سعودية ولا تخصّ المسلمين، وإنها بمثابة ملكية خاصة لأسرة آل سعود أكثر منها مُقدّسات تخصّ المليار والستمائة ألف مسلم المنتشرين في العالم (أي ما يزيد على 23% من سكان العالم)، وهم لذلك يتاجرون بها ويصادرون حق المسلمين فيها في موسميّ الحجّ والعُمرة منذ استولى ابن سعود على الحجاز في النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي، إلا أن الأمير محمّد بن سلمان (وليّ العهد والملك القادِم) يتعامل بمنطق أكثر فجاجة وأشدّ رضوخاً؛ حين يُقرّر الملكية المُطلقة للمُقدّسات ويصبغ فيها فكراً ودعوة دينية خاصة به وبأهله، هي ” الدعوة الوهّابية”  وإن عدّل هو في توجّهاتها لتصبح أكثر طاعة له في طموحاته للعرش، إن المُتوقّع مع عقليّة (مثل عقليّة بن سلمان) لم تجد حَرَجاً في التآمُر مع صديقه صهر ترامب (جاريد كوشنر) لنقل سفارة أميركا إلى القدس ، بكل ما يعنيه هذا السلوك من دلالات من بينها تضييع قيمة المُقدّسات الإسلامية والعربية في المدينة؛ أن تمارس ذات السلوك تجاه المُقدّسات الإسلامية في أيّ مكان في العالم وبالقطع في الجزيرة العربية قبل غيرها.

ثانياً: ولكن ماذا في عقل (بن سلمان) تجاه مُقدّسات مكّة والمدينة ؟ بالطبع لن تكون هناك سفارات تُنقَل، أو تهويد يتم، لكن ثمة سياسات هي أقرب للتهويد، منها إلى الإسلام والعروبة الحقّة، حيث سنجد (بن سلمان) بعقليّته القائِمة على التجارة، والعطش الشديد للسلطة، سيستخدم (سلاح المُقدّسات) الحجازية في معاركه المذهبية ضدّ المذاهب الإسلامية المُخالِفة، وتحديداً تجاه الأزهر الشريف القائِم على المذهب الأشعري ، وتجاه الشيعة بكل تنويعتها وبالأخصّ الإثني عشرية؛ وسيزيد من قبضته على المؤسّسات الدينية الوهّابية التي تُهيمن على الحرمين الشريفين، وسيوظّفها لصالح طموحاته وأفكاره التي تغلب عليها العَجَلَة والرغبة في الانفراد بالسلطة وفي التزاوج الكامل مع المصالح الأميركية، سوف تتحوّل مُقدّسات المسلمين إلى أداة في أيدي بن سلمان، وفريقه (هذا إذا كان هناك فريق أصلاً يحُيط به وليس مجرّد أتباع مُطيعين !!)؛ لن تبقى للحرمين حُرمة، وقداسة عُرِفت بها منذ بدء الدعوة المحمّدية وإلى ما قبل مجيء هذه الأسرة الحاكِمة بالدم والنفط والوراثة في جزيرة العرب عام (1932)؛ إن مَن فرّط في القدس (والتفريط بدأ من عبد العزيز آل سعود وصولاً إلى مبادرتي فهد وعبد الله وتطبيع سلمان وابنه) سهلٌ عليه أن يُفرّط في الحرمين الشريفين، فثمة ترابط منطقي، وديني في الأمر كله، إن مَن فرّط في (أولى القبلتين) وثالث الحرمين الشريفين، ما الذي يُعجزِه على أن يُفرّط في ثاني القبلتين وأول وثاني الحرمين !! والتفريط له أشكاله ووظائفه ومستوياته التي يحفل بها تاريخ آل سعود، ونحسب أن محمّد بن سلمان سيتفّوق عليهم فيها، وسيُبدع أشكالاً جديدة في التجارة بالحرمين والتفريط في قداستهما، ورسالتهما، وإسلاميتهما !! .

ثالثاً: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخجل البعض، ويُحرَج حين يدعو مثقّفون وعُلماء ثقاة ذوو شرف وحكمة، إلى ضرورة (التدويل الإسلامي للحرمين والأماكن المُقدّسة ومكّة والمدينة) ، التدويل الإسلامي هنا يعني وبوضوح أن تؤول عملية الإشراف والفتوى والخطابة إلى الأمّة الإسلامية، والتدويل هنا يعني إعادة الأمور إلى نصابها وأصولها المُحمّدية التاريخية لتصبح ملكاً للأمّة كلها وليس لعائلة أو مذهب شاذّ، تكفيري النزعة والتاريخ.

إن التدويل الإسلامي يعني تقديم البديل الصحيح للسعوَدَة والوهبَنة (نسبة إلى الوهّابية كدعوة شاذّة خارجة عن الإسلام الصحيح كما ذهب علماء السنّة والجماعة في مؤتمر الشيشان الشهير العام الماضي)، أسلمَة الأماكن المُقدّسة والدعوة إلى ذلك هما البديل الصحيح والحق لوقف اندفاعات بن سلمان وفريقه في التعامُل مع (الحرمين) مثلما تعامل مع (القدس) ، وإذا لم يدعُ علماء ومثقفي الأمّة إلى ذلك، وبقوّة، وشجاعة، فلا نلم إلا أنفسنا عندما تتحوّل مكّة ذات يوم إلى (قدس) أخرى؛ ضياعاً وشتاتاً !!

الميادين