الصراع بين المذاهب السنية.. دروس مستفادة
البديل
لم يكن الصراع بين المذاهب والفرق الإسلامية حكرًا على السنة والشيعة كما يعتقد كثيرون، فقد شهد التاريخ الإسلامي صراعًا داميًا وحروبًا حامية الوطيس، بين الفرق والمذاهب السنية كذلك، على أساسين مختلفين؛ فقهي وعقدي، كان أولها ما حدث سنة 393 هجرية بين الشافعية والحنفية ببغداد، وكان سببها أن شيخ الشافعية أبا حامد الإسفراييني (ت406ه) الذي استطاع أن يُؤثر في الخليفة العباسي القادر بالله، ويُقنعه بتحويل القضاء من الحنفية إلى الشافعية، فلما فعل ذلك احتج الحنفية ودخلوا في مصادمات مع الشافعية.
والفتنة الثانية حدثت بمدينة مرو ببلاد خُراسان بين الشافعية والحنفية، عندما غيّر الفقيه منصور بن محمد السمعاني المروزي (ت 489ه) مذهبه، فانتقل من المذهب الحنفي الذي اعتنقه طوال ثلاثين سنة إلى الشافعي، وأعلن ذلك بدار الإمارة بمدينة مرو، بحضور أئمة الحنفية والشافعية، فاضطرب البلد لذلك، واضطربت البلد بين الشافعية والحنفية، ودخلوا في قتال شديد، وعمّت الفتنة المنطقة كلها، ما اضطر السمعاني للخروج من مدينة مرو.
وكانت ثالثة الفتن بين الحنابلة والشافعية ببغداد سنة 573 هجرية، وذلك أنه عندما تُوفي خطيب جامع المنصور محمد بن عبد الله الشافعي سنة 537 هجرية، ومنع الحنابلة من دفنه بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل؛ لأنه شافعي وليس حنبليًّا، فحدثت فتنة بين اتباع المذهبين تدخل على إثرها الخليفة العباسي المقتفي وأوقفها، وأفشل محاولة الحنابلة منع دفن المتوفى بمقبرتهم، وأمر بدفنه فيها، فتمّ ذلك.
الفتنة الرابعة الكبرى حدثت بأصفهان ـ ببلاد فارس ـ بين فقهاء أصحاب المذاهب سنة 560 هجرية، وتقدمها عبد اللطيف الخُجنّدي الشافعي، ضد مخالفيه من المذاهب الأخرى، واستمر القتال بين الفريقين لمدة 8 أيام، قُتل منهم خلق كثير، وأُحرقت وخُرّبت منازل كثيرة.
أما الفتنة الخامسة فكانت بأصفهان أيضًا، بين الشافعية والحنفية في سنة 582 هجرية، وقع فيها كثير من القتل والنهب والدمار، وكانت سادس الفتن بين المذاهب الفقهية السنية، ما وقع بين الشافعية والحنفية بمدينة مرو أيضًا، زمن الوزير الخوارزمي مسعود بن علي المُتوفى سنة 596 هجرية، فالوزير كان متعصبًا للشافعية، فبنى لهم جامعًا بمرو مشرفًا على جامع للحنفية، فغضب الحنفية وأحرقوا الجامع الجديد، واندلعت فتنة عنيفة مدمرة بين الطائفتين، حتى ذكر الرحالة ياقوت الحموي (ت 626ه) أن مدينة أصفهان في زمانه عمها الخراب؛ بسبب كثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية، فكانت الحروب بينهما متصلة.
نفس الأمر حكاه ياقوت عن مدينة الري ببلاد فارس، فذكر أن هذه المدينة كان أكثرها خرابًا في زمانه؛ بسبب التعصب للمذاهب، فكانت الحروب بين الشافعية والحنفية قائمة، انتهت بانتصار الشافعية، ولم يبق من الحنفية إلَّا من يُخفي مذهبه. ولم تتوقف الفتن والصراعات بين أبناء المذاهب السنية، كما شهدت البلاد الإسلامية العديد من الصراعات على أساس عقائدي، فقد حملت لنا كتب التاريخ صراعات بين الأشاعرة والحنابلة أوأهل الحديث من جهة أخرى.
أولها فتنة ابن القشيري ببغداد سنة 469 هجرية، وذلك حينما قدم المتكلم أبو نصر بن عبد الكريم القشيري الأشعري (ت514ه) إلى بغداد واستقر بالمدرسة النظامية، وعقد بها مجلسًا للوعظ والتدريس، فتكلم عن مذهب الأشعري ومدحه، وحطّ على الحنابلة ونسبهم إلى اعتقاد التجسيم في صفات الله تعالى.
فلما سمع به شيخ الحنابلة الشريف أبو جعفر (ت 470ه) أنكر عليه فعلته، ودخل الطرفان في مصادمات عنيفة، قُتل فيها نحو عشرين شخصًا من الجانبين، وجُرح آخرون، ثم توقفت الفتنة لما مالت الكفة لصالح الحنابلة، وفي نفس العام وقعت الفتنة الثانية ببغداد، حينما أقدم فقيه أشعري على تكفير الحنابلة، فتصدوا له ورموه بالحجارة، فهرب ولجأ إلى أحد أسواق بغداد واستغاث بأهله، فأغاثوه واندلع قتال بين الطرفين، وعم النهب واشتد القتال، ولم تتوقف المواجهات إلَّا بتدخل الجند، وقُتل فيها نحو عشرين شخصا من الطرفين، ثم نُقل المقتولون إلى دار الخلافة، فرآهم القضاة والشهود، وكتبوا محضرا ضمّنوه ما جرى، وسجله المؤرخين.
واشتعلت الفتنة الثالثة ببغداد سنة 476 هجرية حينما هاجم المتكلم أبي بكر المغربي الأشعري، الحنابلة وذمهم واستخف بهم فاعترضه جماعة حنبلية من آل الفراء، ووقع قتال عنيف.
وحينما أعلن الواعظ الغزنوي ببغداد سنة 495 هجرية، عن مذهبه الأشعري بجامع المنصور اشتعل الصراع داخل المسجد، ورجمه الحنابلة بالحجارة لتكون الفتنة الرابعة، وحينما كفر ابن تومرت بالمغرب الإسلامي، دولة المرابطين السلفية واظهر المذهب الأشعري (ت 524هـ)، واتهمهم بالتشبيه والتجسيم، واستباح دماءهم وأموالهم، ودخل في حروب طاحنة مع المرابطين، وأدخل المغرب الإسلامي في فتنة دامية، وفرض الأشعرية على الرعية، وعندما تُوفي واصل أتباعه دعوته، وارتكبوا مجازر رهيبة في حق المرابطين عندما دخلوا مدينة مراكش سنة 541ه، ويُروى أنهم قتلوا منهم سبعين ألف شخص.
الفتنة السادسة هي الفتنة التي تقدمها أبا الفتوح الإسفراييني الأشعري (ت538هـ). وكان لمصر نصيبها من هذه الفتن التي وقعت بين أهل السنة، بفتنة الشيخ الخبوشاني بمصر، وقصتها أنه لما فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) مصر سنة 567هجرية، أراد شيخه الفقيه الصوفي نجم الدين الخبوشاني الشافعي الأشعري (ت587ه) نبش قبر المقرئ أبي عبد الله بن الكيزاني الشافعي (ت 562هـ) المدفون بقرب ضريح الإمام الشافعي بمدينة مصر، وقال عن ابن الكيزاني: هذا رجل حشوي لا يكون بجانب الشافعي. وفي رواية أخرى إنه قال عنه: لا يكون زنديق بجانب صديق، ثم نبش قبره وأخذ رفاته ودفنها في موضع آخر، فثار عليه الحنابلة وأهل الحديث وتألبوا عليه، وجرت بين الطرفين معارك انتهت بانتصاره عليهم. إن المتأمل في التاريخ المديد للفتن يجد أنه لم يتغير شيء كثير عما نراه اليوم، وكأن الزمن يعيد نفسه، ولكن مع اختلاف المسميات، فالتضليل والتكفير والحروب واستباحة الدماء والأعراض والأموال مازالت قائمة بيننا، ودروس التاريخ تبين لنا أن الخلاف بين الفرق والمذاهب ليس خلافًا يحض عليه الدين بقدر ما يشجعه حب الزعامة والرئاسة، وحب الغلبة على الآخرين، والتعصب لمذهب أو رأي كسمة شخصية، ليستخدم الدين أداة في يد تلك الميول والنزعات المرضية.