شفقنا :
تحلّ هذا العام الذكرى الثلاثون لمجزرة سربرنيتسا، التي اعترفت بها الأمم المتحدة رسمياً على أنّها إبادة جماعية.
وقعت المجزرة خلال الحرب البوسنية (1992–1995)، التي اندلعت بين فصائل متنازعة من صرب البوسنة، والبوشناق (المسلمين البوسنيين)، والكروات.
30 عاما مرت ولا تزال أرض البوسنة والهرسك تلفظ رفات ضحايا مجزرة سربرنيتسا، التي شهدتها عام 1995، واعتُبرت أسوأ إبادة جماعية عرفتها أوروبا.
قَتلت قوات صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش، في المجزرة، عشرات الآلاف من المسلمين، وتعرضت آلاف النساء المسلمات للاغتصاب على أيدي قوات صرب البوسنة. بعد تفكك يوغوسلافيا السابقة (والبوسنة والهرسك حاليا جزء منها)، التي كانت تضم أعراقا متعددة، منهم الصرب والمسلمون والكروات.
وكانت قوات صرب البوسنة، هي القوات العسكرية التابعة لما يُعرف بـ”جمهورية صربسكا”، وهي كيان أنشأه الصرب في البوسنة خلال حرب البوسنة، بهدف الانفصال عن دولة البوسنة والهرسك وضم أراضيهم إلى صربيا الكبرى.
ومع اندلاع مجازر الصرب بحق مسلمي البوسنة بين عامي 1992-1995، أُعلنت مدينة سربرنيتسا أنها منطقة آمنة بقرار مجلس الأمن الدولي عام 1993، فلجأ إليها المسلمون، وأوكلت الأمم المتحدة مسؤولية حماية المدنيين العزل إلى القوات الهولندية وتحديدا إلى الكتيبة التي كانت تعرف باسم “الخفافيش الهولندية”.
لكن تفاجأ المدنيون بقوات صرب البوسنة تجتاح المدينة في 11 يوليو/تموز 1995، وتقتل آلاف الرجال، واتُهمت القوات الهولندية بتسليم أكثر من 350 من المسلمين إلى القوات الصربية.
ووفق الأهالي، كان أكثر من 25 ألف شخص قد لجأوا إلى قاعدة الأمم المتحدة التي تمركزت في مصنع للبطاريات في بورتوكاري، وبعد أن وافقت الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام على ضرورة نقل اللاجئين، طالبت هولندا بفصل الرجال عن النساء والأطفال، مما سهل عملية قتلهم بدم بارد.
وفي يوليو 2019 قضت المحكمة الهولندية العليا بمسؤولية هولندا بشكل جزئي عن وفاة 350 رجلا وفتى بوسنيًا، وفي ذلك الوقت أسست الحكومة الهولندية لجنة خبراء لتحديد التعويضات التي ستمنح لأقارب الضحايا.
في يوليو/ تموز 1995، عندما ارتكبت قوات جنرال صرب البوسنة راتكو ملاديتش إبادة جماعية بحق مسلمي البوسنة (البوشناق) من جيب سريبرينيتسا ، الذي كان منطقة محمية من قبل الأمم المتحدة آنذاك، انتشرت على الفور تقريبا صور الرعب والفشل الدولي في جميع أنحاء العالم.
صورٌ لآلاف الفارين قليلي الحيلة في القاعدة التابعة للأمم المتحدة في بوتوكاري، وصور فصل النساء والأطفال والرجال عن بعضهم البعض، وصور العقيد الخانع توم كاريمانز، قائد قوة الحماية الهولندية التابعة للأمم المتحدة وهو يشرب نخبا مع راتكو ملاديتش.
الإنكار والتقيل من شأن الجريمة
ومع ذلك فإنه في صربسكا (جمهورية صرب البوسنة)، التي هي جزء من البوسنة والهرسك وتقع فيها سريبرنيتسا، وكذلك في صربيا ، وهما الكيانان المسؤولان عن التخطيط للإبادة الجماعية وتنفيذها، فإن الإنكار والتقليل من شأن الجريمة هما الآن سياسة دولة.
ففي عام 2010 أصدر البرلمان الصربي إعلانا يعتذر فيه عن جريمة سريبرنيتسا، ولكن دون استخدام كلمة إبادة جماعية. وفي هذه الأثناء تراجعت السياسة الصربية في عهد الرئيس ألكسندر فوتشيتش كثيرا حتى عن هذه البادرة. وكان فوتشيتش وزيرا للإعلام في عهد الديكتاتور سلوبودان ميلوسيفيتش في عام 1995، وقال في برلمان بلغراد في 20 يوليو/ تموز 1995 بينما كانت الإبادة الجماعية لا تزال جارية، “مقابل كل صربي يُقتل، يُقتل مائة مسلم (بوسني)”، ولم يعتذر عن ذلك حتى الآن. واليوم ينشر فوتشيتش رواية أن “جميع الأطراف عانت” في الحروب اليوغوسلافية، ولكن الصرب وحدهم فقط لم يُعترف بأنهم ضحايا.
في الأيام التي سبقت الإبادة الجماعية، كانت هناك رسائل يائسة، أرسلها بعض هواة الاتصال اللاسلكي في سريبرينيتسا. وحتى أثناء المذبحة الجماعية كان أول الشهود الناجين من مسيرة الموت يقدمون شهادات عن مطاردة الناس والفظائع، التي ارتكبت في الغابات المحيطة بسريبرينيتسا.
وحتى وإن لم يكن العدد الدقيق لضحايا الجريمة لم يتم تحديده بعد في يوليو/ تموز 1995، إلا أنه كان من الواضح بالفعل أن سريبرنيتسا كانت الذروة الرهيبة لسياسة التطهير العرقي الصربية في البوسنة وأن إحدى أسوأ الجرائم منذ الهولوكوست قد ارتُكبت هناك. جريمة لم تُرتكب بعلم كامل من جانب ممثلي المجتمع الدولي، وإنما بتسامح مريب منهم في وقت كان شعار ثقافة التذكر الأوروبية منذ زمن طويل هو: “لن يتكرر هذا أبدا!”
اعتذار حقيقي واحد فقط
من المجتمع الدولي، لم يكن هناك سوى اعتذار حقيقي واحد فقط عن تقاسم المسؤولية عن سريبرنيتسا. وجاء هذا الاعتذار من جانب الحكومة الهولندية في يوليو/ تموز 2022. فقد طلبت حكومة أمستردام من جميع الضحايا والناجين من الإبادة الجماعية الصفح “لتقصير المجتمع الدولي في تقديم المساعدة الكافية لأهل سريبرينيتسا”.
وعلى الرغم من أنه لم يتم إثبات الأمر بما لا يدع مجالا للشك، إلا أنه من المحتمل جدا أن المجتمع الدولي كان على علم بالخطط الملموسة للتطهير العرقي في شرق البوسنة في صيف عام 1995 وقبلها ضمنيا كثمن لنجاح مفاوضات السلام. ولم يتم الاعتراف بذلك حتى الآن، مع أن أحدًا ربما لم يتوقع الإبادة الجماعية على المستوى الدولي آنذاك.
رئيس الوزراء الهولندي السابق مارك روته في عام 2022 في حفل لم شمل قدامى المحاربين من الجنود الذين حرسوا جيب سريبرنيتسا البوسني في عام 1995رئيس الوزراء الهولندي السابق مارك روته في عام 2022 في حفل لم شمل قدامى المحاربين من الجنود الذين حرسوا جيب سريبرنيتسا البوسني في عام 1995
ليس لها مكان ثابت في ثقافة التذكر الأوروبية
بالنسبة للبوسنيين يُعتبر إحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سريبرنيتشا مكونا أساسيا من مكونات هويتهم الوطنية ولحظة تأسيسية لدولتهم. ومع ذلك فإن وعي العديد من ممثلي الدولة البوسنية لا يتعدى عادة مجرد الحضور الواجب في النصب التذكاري في بوتوكاري في 11 يوليو/ تموز.
ويعيش معظم الناجين من الإبادة الجماعية في ظروف متواضعة، وأحيانا فقيرة جدا ومهمشة. فقط النساء الناجيات اللاتي ليس لديهن أقارب ذكور على قيد الحياة يحصلن على دعم الدولة. ولا يتمتع جميع الآخرين بأي وضع قانوني كناجين، ولم يتلقوا أي مساعدة من الدولة لا مادية ولا نفسية.
ومع ذلك فإن عدم وجود مكان دائم لسريبرنيتسا في ثقافة التذكر الأوروبية، حتى بعد مرور 30 عاما على الإبادة الجماعية وعلى الرغم من قرار الأمم المتحدة لعام 2024، ربما تكون الضربة الأقسى للناجين. ويُعد اليوم الأوروبي لإحياء ذكرى ضحايا جميع الأنظمة الشمولية والاستبدادية مثالا جيدا على ذلك. يُحتفل به في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2009 في 23 أغسطس/ آب وهو اليوم الذي تم فيه توقيع معاهدة هتلر- ستالين في عام 1939 وتنشر المفوضية الأوروبية من بين أمور أخرى إعلانا كل عام ولم تُذكر سريبرينيتسا فيه حتى الآن.
المصدر:وکالات