"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

انتخابات الكنيست : الإسرائيليون اختاروا اليهودية وشطبوا “الديموقراطية”

الناصرة- “القدس العربي” :

تواصل أوساط إسرائيلية معدودة على “معسكر التغيير”، برئاسة يائير لبيد، التعبير عن صدمتها من الخسارة، ومن مخاطر توّرط إسرائيل بالمزيد من الفساد والظلامية، خاصة من ناحية اجتماعية: تقليص الحقوق والحريات الشخصية الليبرالية في ظل تحالف اليمين مع اليمين العنصري المتشدد السافر، المتمثل بـ “الصهيونية الدينية” ومع الأحزاب اليهودية الأورثوذوكسية (حزبا “شاس” و”يهودت هتوراة)، وسط انتقادات تحمّل لبيد خسارة الحكم لصالح نتنياهو.

وكان أول من عبّر عن هذه الصدمة محرر الشؤون العربية والشرق أوسطية دكتور تسفي بار إيل، الذي كتب غداة يوم انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين مرثية بعنوان: “إسرائيل تتحوّل ميليشيات سياسية يقودها مجرم”، قال فيها إن النتائج توجع البطن، وإن إسرائيل باتت دولة لشعبين يهوديين.

وتابع بار إيل، في تحليله: “النتائج الانتخابية تبعث على المغص من شدة الخوف. وبالاستناد إليها سيؤلف بنيامين نتنياهو حكومة تنهي عهد “الديمقراطية ” الإسرائيلية كما عرفناها في أكثر من 70 عاماً”. معتبراً أن هذه النتيجة هي نتيجة حكم نتنياهو الطويل والعقيم المليء بالتضليل، والفساد، والتحريض، والعنصرية، وجرى خلاله الاحتفال بحرية واحدة هي حرية المستوطنين كما توقعتها الاستطلاعات المسبقة، ويقول إنها قد ازدادت بلورة، وأصبحت أكثر سمنة وضخامة طوال الأعوام الخمسة عشر الماضية”.

من جهته يدعو وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق يوسي بيلين، أحد مهندسي اتفاق أوسلو، لعدم إنقاذ نتنياهو من حزب “الصهيونية الدينية”، لأنه سيحرجه وسيضطره لإبداء مواقف وسياسات معتدلة أكثر. ويرجح أن نتنياهو سينفذ بسرعة من خلال حكومته مع المتطرفين التغييرات التي يريد عملها في المجال القضائي للنجاة من تهم الفساد، ويحاول بعد ذلك أن يجد بديلاً لـ”الصهيونية الدينية”. معتبراً أن الأمر الأخير الذي يريده نتنياهو هو أن يكون شريكا لهذه الكتلة على مدى أربع سنوات. وسرعان ما يتحفظ بيلين من هذه الاحتمالية: “غير أن الاحتمالية لإقامة حكومة على مرحلتين ليست عالية؛ لأنها تحتاج إلى شريك، ومن الصعب أن نرى في هذه اللحظة هذا الشريك. ستكون حكومة نتنياهو التالية مبنية على عمودين أساسيين: “الليكود” و”الصهيونية الدينية”. وبخلاف تقديرات أخرى يعتقد بيلين أن حكومة يمين ضيقة ستضطر إلى تبني مواقف معتدلة سياسياً أمام ضغط دولي متوقع، ويدلل على ذلك بمقارنات مع تجارب سابقة. ويخلص بيلين للقول في مقاله: “لست ممن يدعون بأن اليمين فقط يمكنه أن يصنع السلام واليسار فقط يمكنه أن يصنع الحرب (توجد لهذا نماذج معاكسة)، لكن الحقيقة هي أنه عندما يعلق اليمين في عزلة في الائتلاف، فإن ملجأه كان طريق السلام. الخطأ الأكبر الذي يمكن للوسط– اليسار أن يرتكبه الآن هو أن ينقذ بيبي من بن غفير“.

إسرائيل تحسم أمرها: نعم للتفوق اليهودي

وترى المحللة الإسرائيلية رافيت هخت، في مقال نشرته صحيفة “هآرتس”، أن إسرائيل تحسم أمرها: «نعم للتفوق اليهودي لا للديمقراطية». وعن معنى هذه النتائج التي فازت فيها قوى يهودية رجعية تعادي حقوق المرأة والمثليين والأقليات، وتتميز بعدائها للشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين، تقول: «إذا كان هناك أمر يمكن استخلاصه من النتائج فهو الاختيار الحازم والقاطع للجمهور اليهودي في إسرائيل بين قيمتين أساسيتين على أساسهما أقيمت دولة إسرائيل. هذا الاختيار غامض من حيث الوضوح: “نعم” لليهودية، أو بدقة أكثر، للتفوق اليهودي، و”لا” للديمقراطية».

يديعوت: حكومة بن غفير

وتعتبر زميلتها المحللة السياسية عيناف شيف، في مقال بعنوان «حكومة بن غفير» أن إسرائيل ستسّدد أثماناً أمنية واقتصادية وأخلاقية جراء نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة تعتمد على “الصهيونية الدينية”. وتقول هي الأخرى إن التصويت لبن غفير هو، من ضمن أمور أخرى، إعراب عن التأييد للعنصرية، تقييد الديمقراطية، وتغيير فوري لقواعد اللعب. وبرأيها، حكومة نتنياهو الجديدة بالتأكيد قادرة أن تعطّل جهاز القضاء، وبالتأكيد أن تحدث خطوات بعيدة الأثر في الضفة الغربية، لكن مثل هذه الحكومة أيضاً ستدفع ثمناً على الاحتلال: أمنياً، سياسياً، اقتصادياً، وبالتأكيد أخلاقياً. وتخلص شيف للتحذير من تبعات استخدام القوة المفرطة المحتملة إنه من اعتقد أن بن غفير “سيعالج” التحديات الهائلة بأساليبه المميزة دون أن يكون لهذا آثار فلينظر إلى حالات مشابهة في أرجاء العالم وسيتبين بأن وهم القوة الذي يسوقه أناس مثله، حتى لو كانوا يؤمنون به (وهذا أيضاً ليس مؤكداً) هو كالمروحة النشطة: “يمكن لهذا أن يكون لطيفاً إلى أن يتسلل الوحل إلى الداخل”.

تظهر النتائج شبه الرسمية المكتملة للانتخابات الإسرائيلية أن الفارق بين المعسكرين المتصارعين في إسرائيل لا يتعدى 5000 صوت، لكن عدم تجاوز عدة أحزاب نسبة الحسم، خاصة “ميرتس” و”التجمع الوطني الديموقراطي”، أدى لأن يكون هناك فارق بعشرة مقاعد بين معسكر نتنياهو (65) وبين المعسكر المعارض له (55).

اللافت والمثير أن حزب “العمل” نجا بأسنانه من السقوط، فهو على حافة نسبة الحسم مع أربعة مقاعد، وهو الحزب الذي أسس إسرائيل غداة النكبة، وكان تحت قيادة إسحق رابين وشيمون بيريز يفوز بأكثر من 50 مقعداً في جولات انتخابية كثيرة. وقد بلغ تدهور حزب “العمل”، برئاسة ميخائيلي، وزيرة المواصلات المنتهية صلاحيتها، إلى درجة أن الحزبيين العربيين (القائمة العربية الوحدة والجبهة/التغيير) قد فازا كل منهما بمقعد واحد أكثر من حزب “العمل”. وهذا ما دفع رئيس بلدية تل أبيب للقول، صباح الخميس، لإذاعة جيش الاحتلال إن حزب “العمل” انتهت صلاحيته، وينبغي أن يزول من الحلبة، ويدخل متحف التاريخ.

بكل الأحوال يبقى تضاعف قوة حزب “الصهيونية الدينية” الفاشي العنصري، بقيادة العنصريين المتطرفين ايتمار بن غفير وباتسلئيل سموطريتش، ثلاثة أضعاف هو العنوان الأبرز للانتخابات الإسرائيلية. طار هذا الحزب على جناح الكراهية للعرب، والتحريض والتضليل والخوف والترهيب من فلسطينيي الداخل، خاصة بعد هبة الكرامة في مايو/ أيار 2021 التي شهدت المدن الساحلية الفلسطينية اشتباكات دموية بين العرب واليهود، دفعت أوساطاً يهودية للقول إن “العرب يتجرأون ويرفعون رؤوسهم”. وسارع النائب العنصري ايتمار بن غفير، المدان عدة مرات بجرائم جنائية وبالإرهاب لاستغلال المد العنصري والتوترات بين العرب واليهود من أجل قيادة حملة انتخابية شعبوية تحت شعار “حان وقت بن غفير”، في إشارة لضرورة وضع العصا الإسرائيلية الغليظة بيد بن غفير لـ “تأديب” العرب، من خلال إشغال حقيبة وزارة الأمن الداخلي. ونجحت “الصهيوينة الدينية” باستقطاب أعداد كبيرة من المصوتين، ليس فقط من مدن الضواحي المسكونة بالأساس باليهود الشرقيين، مثل بات يام وحولون وبئر السبع والقدس، بل أيضاً في المدن المسكونة باليهود الغربيين، مثل تل أبيب ورعنانا وحيفا. ونجح “الصهيونية الدينية” باجتذاب كميات كبيرة من الفئات العمرية الشبابية، بما في ذلك اليهود الشباب الحريديم ممن تمردوا على النخب الإسرائيلية التقليدية، وعلى المؤسسة الحاكمة، وممن يبحثون عن قائد قوي في ظل أحاديث واسعة في الإعلام العبري عن “قلة حكم” في الجليل والنقب، حيث يفعل العرب ما يحلو لهم”.

الاحتلال مفسدة

ويذهب بعض المراقبين لتوجيه انتقادات لمعسكر التغيير برئاسة لبيد، بأنه أهمل ترتيب أوراق أحزاب معسكره، فلم يكترث لتفكك “المشتركة”، ولم يمارس قوته لتوحيد حزبي “العمل” و”ميرتس”، علاوة على أنه لم يطرح ما هو مغاير سياسيا عن المعسكر المنافس، وحتى في التعامل مع فلسطينيي الداخل لم يقدم جديداً وأملاً يدفعهم للمشاركة بأعداد أكبر، لدرجة أنه زار الناصرة قبل أسبوعين في زيارة شبه سرية جاء فيها خالي الوفاض، ودون ما يدفع فعلاً لمساواة مدنية بين اليهود والعرب، ويقف في وجه العنصرية المتصاعدة.

ولكن هناك ما هو أعمق وأكثر أصلانية خلف خروج هذا المارد العنصري من القمقم العنصري الإسرائيلي المدعو “الصهيونية الدينية”، وهو يرتبط بالاحتلال وبلادة إحساس الإسرائيليين، كل الإسرائيليين، وتنميتهم مع السنوات “جلد فيل” بتجاهلهم الاحتلال وجرائمه المختلفة. لم يكن هذا “الحيوان المتوحش”، المتمثل بالصهيونية الدينية، لولا مستنقع الاحتلال وعقلية الغطرسة والاستعلائية اليهودية المؤمنة بأن ما لا يتأتي بالقوة مع الفلسطينيين يتأتي بالمزيد منها، رغم أن تجارب الماضي تدلل على أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم رغم الجراح والطعنات والمؤمرات والخيانات، فجمرة المقاومة لم تخبُ رغم الانقسام الداخلي وتكلّس الفصائل الفلسطينية. وصدق المفكر اليهودي الراحل يشعياهو ليفوفيتش، حينما حذر من مغبة استمرار الاحتلال غداة حرب 1967 بقوله إن الاحتلال مفسدة، وإن القوة المستخدمة ضد الفلسطينيين ستعود كيداً مرتداً على الإسرائيليين أنفسهم الذين سيصبحون أكثر دموية وعنفاً وعدوانية تجاه بعضهم أيضاً. اضمحلال قوة اليسار الصهيوني من قبل وبعد هذه الانتخابات يفيد بأنه لا يوجد في إسرائيل يسار يريد التحدث عن احتلال وجرائم احتلال، وهذه حقيقة ينبغي أن يلتقطها الشعب الفلسطيني على طرفي الخط الأخضر كي يذوّت الفهم بأن تسوية الدولتين لم تعد موجودة، وأن هناك حاجة لمفهوم تحرري جديد، ربما يكون مبنياً على فكرة الدولة الواحدة، شخص واحد، وصوت واحد.

هذه هي دلالة التحولات السياسية في إسرائيل، رغم وجود بعض المراقبين الإسرائيليين ممن يتوقعون أن نتنياهو سيقود سياسة تفاجئ خصومه، وتتناقض مع موروثه السياسي على المستوى الداخلي، وعلى مستوى العلاقات مع الشعب الفلسطيني، وذلك بسبب فوزه الواضح ولقاء القدرة مع الرغبة بالتغيير، كما يقول محلل الشؤون العسكرية في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل.