الخليج الجديد :
حتى في أعظم أحلامه، ربما لم يكن رئيس الوزراء المؤسس للكيان الإسرائيلي “ديفيد بن جوريون” ليتخيل أبدا أن يجتمع وزراء الخارجية العرب من مصر والبحرين والمغرب والإمارات بالقرب من قبره لعقد قمة حول توسيع التعاون الإقليمي مع إسرائيل.
ولم يكن اختيار المكان من قبيل الصدفة، وكما أشار الكاتب اللبناني “إلياس خوري”، فإن “إسرائيل تصر على استخدام مثل هذه الرمزية مع تدمير أي رموز للفلسطينيين.. هذه قمة الإذلال حيث تجلب إسرائيل حكاما عربا لتقديم فروض الولاء أمام من كان السبب في النكبة الفلسطينية”.
وتعد “قمة النقب” تاريخية بكل المقاييس، وربما تمثل نقطة تحول في صعود إسرائيل الإقليمي، حتى لو قللت إسرائيل من مثل هذه الطموحات.
وبينما جاء التجمع في سياق الرد على التهديد النووي الإيراني وفي أعقاب هجمات الحوثيين الأخيرة على منشآت النفط السعودية، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي “يائير لابيد” أن القمة ستصبح حدثا سنويا.
وقال “لابيد” إن القمة أرست الأسس لـ “هيكل إقليمي جديد” يتمثل اهتمامه الرئيسي في ردع إيران ووكلائها. ومن الناحية الرمزية، يمكن قراءة المعنى الأوسع في صورة جماعية تم تداولها على نطاق واسع، حيث وقف وزيرا الخارجية الإسرائيلي والأمريكي في الوسط محاطين بالوزراء العرب، وجميعهم يتصافحون معا.
وكانت الرسالة جريئة وواضحة، وهي أن إسرائيل على قمة النظام الأمني الإقليمي الناشئ.
- الدفع من أجل التطبيع
وترتبط محاولة إسرائيل الهادئة للقيادة الإقليمية ارتباطا وثيقا بحملة التطبيع عبر ما يعرف بـ “اتفاقيات إبراهيم”، التي شملت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب. وفي كل حالة من هذه الحالات، رأت الحكومات الإقليمية أن إسرائيل البوابة الأقرب إلى الولايات المتحدة وأنها لا تستطيع تحقيق مكاسب استراتيجية كبيرة إلا من خلال تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وأرادت الإمارات والبحرين التحالف مع الدولة التي تمتلك أحدث التقنيات والاستخبارات في المنطقة، والتي يمكنها أن تقف في وجه إيران. وأرادت أبوظبي شراء طائرات مقاتلة أمريكية من طراز “إف-35″، حيث كانت موافقة إسرائيل الضمنية شرطا أساسيا.
وفي السودان، كانت حكومة ما بعد الرئيس المخلوع “عمر البشير”، المضطربة، تطمح لرفع اسم البلاد من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وكان الطريق المختصر لهذا هو طرق باب إسرائيل.
أما المغرب، فقد أراد تحقيق نقلة نوعية في النزاع المستعصي مع الجزائر بشأن الصحراء الغربية. ووجد الباب الإسرائيلي أقصر الطرق لإجراء تحول جذري في موقف الولايات المتحدة تجاه هذه القضية، في مقابل التطبيع.
وحاليا، تقف السعودية على الباب الإسرائيلي، في انتظار اللحظة المناسبة للدخول وطلب المساعدة والحماية. وفي مقابلة حديثة مع مجلة “ذي أتلانتيك”، وصف ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” إسرائيل بأنها “حليف محتمل” وليس “عدو”؛ لذا فإن التطبيع السعودي مع إسرائيل هو مسألة توقيت فقط.
وحاليا، تتكثف القنوات الرسمية وغير الرسمية بين الطرفين يوما بعد يوم، وهو سر معترف به ولا يخفى على أحد.
وربما كان السعوديون هم الحاضرون غير المرئيين في “قمة النقب”، وبعد ساعات قليلة من الاجتماع، اتصل وزير الخارجية الأمريكي بنظيره السعودي لإطلاعه على التطورات.
- لامبالاة في الأعلى وغليان في الأسفل
لقد جمعت إسرائيل بالفعل رأس مال سياسي ضخم وما يلزم من الهيمنة للقيادة الإقليمية، مستغلة في ذلك “التهديد الإيراني” و”اتفاقيات إبراهيم”.
وقد غاب الفلسطينيون عن القمة، كما غابت إرادة الشعوب العربية بما فيها شعوب تلك البلدان التي حضر قادتها هذه الاجتماعات، فلا تعبر “اتفاقيات التطبيع” وما تلاها عن إرادة الشعوب التي لا يمكن قياسها إلا من خلال عملية ديمقراطية حرة ونزيهة.
ومع استسلام المزيد من المستبدين العرب لقيادة إسرائيل غير المعلنة، يتنامى شعور عميق بالإحباط والغضب والخيانة في جميع أنحاء المنطقة. ويعد مثل هذا الإحباط أعمق بين الفلسطينيين، كما يتجلى في الهجمات الأخيرة التي نفذها شباب لا ينتمي لأي من التنظيمات المعروفة.
وظاهريا، تسود لا مبالاة شبيهة بالحالة الإقليمية التي كانت سائدة في العقد الذي سبق الربيع العربي عام 2011، حين كان هناك غليان تحت السطح لا يلاحظه أحد إلى حد كبير.
وبالنظر إلى الوضع الحالي الذي تلعب فيه إسرائيل دورا قياديا فوق الدول العربية، فإنه يبث جرعة كبيرة من الإذلال في النفسية العربية الجماعية الجريحة بالفعل.
وبغض النظر عن الكلمات الطيبة التي قالها وزراء الخارجية المبتسمون، فإن الحقيقة هي أن إسرائيل خطت خطوة جريئة نحو قيادة المنطقة العربية، سواء تم الإعلان عن هذا الهدف علانية أم لا. فماذا سيعني هذا في المستقبل القريب، وما هي العواقب التي ستترتب عليه بين الجمهور العربي؟ يبقى هذا سؤالا مفتوحا ينتظر الإجابة.