شفقنا :
في آخر لحظات الثلاثين من أغسطس عام 2021 غادر آخر جندي أمريكي مطار كرزاي الدولي، وانتهى أطول حرب في تاريخ أمريكا رسميا، وذلك بعد عقدين من الحرب ومقتل ما يزيد على ألفي جندي أمريكي وتهجير ما يزيد على مئة ألف أفغاني، لكن لو رجعنا إلى أغسطس عام 2001 لرأينا ان الصور تروي قصة أخرى، فبعد دخول أول جندي أمريكي سيطرت أمريكا على أفغانستان، سقطت طالبان رسميا، وبعد عقدين من الزمن نشاهد مرة أخرى إعادة أحداث عام 2001، هجوم في الصيف واستعادة الأراضي المفقودة والسيطرة على كابول.
عقدان من عملية بناء الدولة القومية الفاشلة، وخلق مسارات محرفة في العراق أدت بنا ان ننسى بان أمريكا كانت تنوي تحقيق عدة أهداف محدودة النطاق في أفغانستان بعام 2001: مقتل بن لادن والقضاء على طالبان بسبب التعاون من القاعدة، وحتى بعد هروب طالبان؛ فان واشنطن بقيت ملتزمة بهذه المهمة، غير ان الأنظار تركزت على تحقيق هدف أكبر: عدم تحويل أفغانستان إلى جنة الإرهاب.
في تلك الفترة كانت ترى الولايات المتحدة بقيادة بوش في البيت الأبيض بان الحؤول دون انتشار الإرهاب يمر عبر طريق واحد وهو تقوية الحكومة المركزية وبناء الديمقراطية، هدف أقضى عليه بايدن بعد مرور عقدين من الزمن: لا يمكن تصدير الديمقراطية وان الولايات المتحدة والغرب بشكل عام لم يحملوا رسالة تأسيس الحكومة في كل أنحاء العالم.
كما كان يعرف بوش الابن جيدا بأنه في مجتمع قد تأسس على تقاليد وعادات ومعايير محلية، فان المؤسسات الحكومية غائبة أو مختلة منذ وقت طويل، لهذا فان تصور بناء رمز من الحكومة أو وحدة الشعب، في أفغانستان الذي سينهار ما ان يتم الغاء الدعم الدولي، ليس إلا عملا عبثيا. اليوم وبعد سنوات من عرض الديمقراطية في دولة لقبت بمقبرة الإمبراطوريات، فان هذا العمل ناجم عن السذاجة، أكثر من ان يكون ناجما عن البحث عن الطموحات.
إخفاق عنصر دولة القومية أو الدولة الأمة
يفتقد مفهوم الدولة الامة مغزاها من دون الأرض، إذ يرى بعض الخبراء بأنه حتى الأرض تترك تأثيرها المباشر على مفهوم الدولة الامة، ذلك إنهم يرون بان الحدود تعد مؤشرا للهوية وإنها رافقت الإنسان والكائنات الأخرى، بعبارة أخرى ما لم تكن هناك أرضا فلا تتكون الجغرافيا ولا يمكن عقد الأمل على نجاح الأفعال السياسية. هذا وان أفغانستان ليست بمستثنى عن هذه القاعدة، فكل المؤشرات الجغرافية لهذا البلد لم تترك تأثيرا إيجابيا أو سلبيا على الأنشطة الاجتماعية أو الحركات السياسية فحسب، بل تغير إطار التكون الحكومي المؤسس على الدولة الامة. فهناك مناطق قبلية في جنوب أفغانستان، إذ لا يمكن لأي حكومة السيطرة عليها بسبب العلاقات التي تربط السكان.
أضف إلى ما فات عامل عدد السكان ووحدتها إذ يفتقد أفغانستان لهذا العامل، ولما كانت البلاد مقسمة بين القوى الإقليمية فان هذه القضية حالت دون تكوين عملية تاريخية بعنوان الانتماء إلى أفغانستان. إذ تعيش في أفغانستان جماعات قومية وكل منها يعيش في بيئات خاصة بها. فان هذه القضايا تترك تأثيرات مختلفة على السكان تجلت في أسلوب الحياة الاجتماعية والتقاليد القبلية، والمعايير والقيم القبلية، كما إنها تشكل تعارضات بين السكان، والنتيجة فقدان الثقة المتزايد وغياب التعامل مع الأقوام وتعارض القيم الاجتماعية والثقافية بين القبائل. هذا ويجب إضافة الظروف الجغرافية والبنية القبلية والمذهب إلى قائمة أسباب عدم تكوين الدولة الشعب في أفغانستان.
طالبان والإصلاحات
بعد إخفاق مشروع الدولة الامة الأمريكي سيطرت طالبان على كابول مرة ثانية، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن عقد الآمال على القيام بالإصلاحات وإقامة الديمقراطية وتأسيس حكومة شعبية؟ إذ مازال الكثير من الشعب الأفغاني يدافعون عن القيم المحافظة ويرون ان بعض تفاسير طالبان للدين والقيم الإسلامية مقبولة، وعلى هذا لو اختيروا بين طالبان حكومة فاسدة، فإنهم مستعدون ان يقبلوا ببعض العراقيل التي تضعها جماعة طالبان ولو وضعنا الخوف والعنف جانبا، لرأينا ان هذه الازدواجية كانت السبب في عودة طالبان إلى السلطة، مع أنها تتحدث عن الإصلاحات لكنها تتجاهل ابسط حقوق الإنسان.
من جهة أخرى فان أسلوب حكم طالبان يتوقف على مقاومة الشعب بوجه القوانين التي تسنها هذه الجماعة المتطرفة، خاصة ان الشباب الحاملين للأفكار الليبرالية قد زادوا في المجتمع ويرفضون القوانين المتطرفة. كما ان طالبان تواجه تحديا حقيقيا في تعريفها للدولة الامة ويمكن القول بأنه في الظروف الراهنة لا علاقة لها بالأفكار الحديثة أي الدولة الامة ولا الفكرة المستمدة من الإسلام أي الأمة الإمامة. ذلك أنها لا تمنح حق السيادة السياسية للشعب. وفي أفضل الحالات لو يمكن إطلاق مفهوم المواطن في النظام الفكري لطالبان، فانه مواطن المكتب والمذهب، وذلك بقراءتهم المتشددة، فحتى لو لم تعد طالبان إلى أسوأ أساليبها السلوكية والحكومية، فان الشعب وخاصة النساء يدفعون التكاليف الباهظة الناجمة عن إخفاق مشروع دولة القومية أو الدولة الأمة في السنوات والعقود القادمة.
المصدر: موقع شرق