مجلة النبأ :
الإمام الحسن الزّكيّ العسكري (ع)
بقلم: فائق محمد حسين
(الفقير معنا خير من الغني مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استبصر بنا وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار)(1).
هكذا خاطب (أبو محمد الحسن بن علي الهادي) أصحابه.. الإمام الحسن العسكري (ع) الذي تتوجه إليه قلوب المؤمنين كل خميس لتزوره هاتفة: (السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا حجة الله وخالصته، السلام عليك يا إمام المؤمنين، ووراث المرسلين، وحجة رب العالمين، صلى الله عليك وعلى آل بيتك الطيبين الطاهرين يا مولاي يا أبا محمد الحسن بن علي، أنا مولى لك ولآل بيتك، وهذا يومك وهو يوم الخميس، وأنا ضيفك فيه ومستجير بك فيه، فأحسن ضيافتي وإجارتي بحق آل بيتك الطيبين الطاهرين)..
ولادتـــه…
ولد الإمام الحسن (ع) يوم 8 ربيع الآخرة سنة 232هـ بالمدينة المنورة.. وذكر العلماء: إن يوم ولادته يوم شريف ومبارك، وعظيم البركة ويستحب فيه الصوم.. وقال ابن طاووس باستحباب زيارة الإمام العسكري (ع) في هذا اليوم، كما يستحب القيام بأعمال الخير فيه(2).
كنيتـــه…
كني الحسن العسكري بـ (أبو محمد) (3) وهي أشهر كناه.
والـــدتـــه
أمه (سوسن) أو (سليل) وكانت من المؤمنات الصالحات جليلة القدر معظمة في عصرها، عفيفة في غاية الطهارة والصلاح والتقوى(4).
زوجتـــه…
(نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم) (*).. (كان له من الأزواج واحدة هي السيدة نرجس.. وله من الأولاد ابن واحد هو إمام العصر(عج)) (5).
وكان الإمام الحسن (ع) حريصاً على كتمان سر زواجه، لمعرفته بأن المرأة التي سيقترن بها ستصبح أماً (للمهدي) وستتعرض للمطاردة والاضطهاد من قبل السلطات وستقضي زمناً في السجن…
(تزوج الإمام العسكري (ع) أمة مملوكة جلبت بواسطة الفتح الإسلامي وكانت تسمى بأسماء مختلفة من قبل الإمام (ع) من أجل أن يلتبس أمرها في ذهن السلطات) (6).
(وهي وصيفة تركية انحدرت من سلالة طيبة تتصل بأوصياء عيسى بن مريم(ع) واسمها نرجس أو (صيقل) وكانت قد أسلمت وهي في بلادها بسبب رؤيا شاهدتها.. وعندما زحفت طلائع الجيش الإسلامي على بلادها سلمت لهم ليأتي بها القدر إلى بيت الإمام الحسن العسكري (ع) وتصبح والدة حجة الله) (7)
عصـــره…
ولد الإمام الحسن العسكري في زمن الخليفة العباسي المتوكل، المعروف بحقده على أئمة آل البيت(ع)، إذ شن حملات إرهابية للبطش بهم والإمعان في إذلالهم.. كما قام بتدمير آثار الشيعة)حتى أنه كرب قبر الحسين(ع) وعفى آثاره) (8).
كما عرف بعدائه المستميت للإمام علي الهادي (ع) وقام بحملات ملاحقة واضطهاد لآله وأصحابه، الذين شعر -المتوكل- بخطرهم.. وأنهم باتوا ينافسون الحكم ويتحدونه، خاصة بعد تزايد وشايات الجواسيس والمرتزقة ضد الإمام الهادي بالذات.. وعلى رأسهم (عبد الله بن محمد) الذي كان يتولى الحرب و(الصلاة) في المدينة (وقد أجج مخاوف المتوكل من الإمام والذي أراد الإيقاع بالإمام علي الهادي والتصدي له ولفت انتباه الخليفة إلى خطر الإمام ونشاطه في المدينة، الذي يعمل ضد سلامة الدولة وأمنها وأشاع خبر وجود أسلحة وكتب في بيت الإمام (ع)) (9).
وحتى يتفادى المتوكل المضاعفات أمر باستقدام الإمام الهادي إلى سامراء في محاولة لتقريبه من البلاط بغية عزله عن قواعده الشعبية التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.. والأهم من ذلك لكي يضعه تحت رقابة القصر ويرصد حركاته بعيون جواسيسه.. ومن ثم قتله!.
وحتى لا يثير ضجة تؤدي إلى سخط الأمة عليه وثورتها ضده، لجأ المتوكل إلى الأسلوب الخسيس، الحيلة والخداع والتظاهر بالمودة التي اتبعها أجداده من خلفاء بني العباس مع أئمة أهل البيت الأطهار(ع).. فكما فعل المنصور مع الإمام جعفر الصادق(ع) والرشيد مع الإمام موسى الكاظم(ع) والمأمون مع الإمامين الرضا والجواد(ع) فعل المتوكل نفس الشيء مع الإمام الهادي.. فبعث أحد قادة جيشه (يحيى بن هرثمة) ومعه فرقة من الجند إلى المدينة المنورة، لإحضار الإمام علي الهادي بالقوة إلى سامراء.. وأمرهم بتفتيش بيت الإمام والبحث عن مستمسك أو دليل إدانة بالعمل والتآمر ضد الدولة.. غير أن الله أحبط مسعاهم وخيب آمالهم، يقول ابن هرثمة:)ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم) (10).
وعلى عكس ما خطط له المتوكل، فإنه لما سمع أهل المدينة بالحادث وكانوا على علم بسوء نية السلطة تجاه الإمام ضجوا استنكاراً على فعلة ابن هرثمة)حتى أنه أخذ يسكتهم ويحلف لهم بأنه لم يؤمر فيه بمكروه) (11).
قدومه إلى سامراء:
تحت حملة الضغط والإكراه إلى حد التهديد بالقتل، ولكي يبعد عن نفسه تهمة استفزاز الحكم والظهور بمظهر الخارج عنه، وهو ما يريده المتوكل بالضبط.. ولاحتواء وشايات الجواسيس وإبعاد أي شك وشبهة وافق الإمام الهادي(ع) على السفر إلى سامراء(خاصة وأن الثورات العلوية اشتدت في تلك الفترة وأقضّت مضاجع الحكام وكانت هاجسهم ومثار مخاوفهم.. ولقد وقفوا منها موقفاً صارماً.. يحاولون إجهاضها قبل أن تستفحل وتشتد عليهم، ويطاردون فلولها، لشرذمتها والتخلص منها بكل وسائل القهر والقمع الوحشية) (12).
وخرج الإمام الهادي(ع) إلى العراق ومعه ولده الحسن العسكري(ع) وهو لم يزل صبياً يافعاً..)ورد الإمام الحسن العسكري مدينة سر من رأى مع والده وبقي فيها حتى وفاته) (13).
وبعد وصوله سامراء بيوم واحد استدعاه المتوكل.. مطبقاً الخطة الشيطانية التي وضعها من أجل احتواء الإمام.. ودمجه في أجهزة السلطة الغاشمة وتحجيم عمله وتفريغ تخطيطه من فاعلية النشاط والتأثير ولجم معارضته.. فللتغطية على منهجه السياسي المنحرف وعدائه الدفين أبدى المتوكل ترحيبه بالإمام وأعظمه وأكرمه ثم حوله إلى دار قد أعدت له.. وفرض عليه الإقامة الجبرية تحت عين ومراقبة القصر، التي تحصي على الإمام كل تحركاته وسكناته بدقة تامة..
ولم يكن الأمر غائباً عن إدراك الإمام (ع).. فلقد سعى لاستغلال طبيعة الحكم العباسي القائم على المحسوبية والمنسوبية وتأثير المصالح الشخصية والوساطات.. وكان يرى إمكانية الاستفادة من هذا الواقع وتجييره لصالح الإسلام والعمل على استبعاد الاضطهاد والظلم عن قواعده ومن ثم التخفيف من الحقد والأخطار عنها، خاصة بعد هيمنة الموالي والأتراك الذين زخرت بهم سامراء.. وأصبحت طبقة متنفذة ومتمتعة بكل الامتيازات الطبقية.. وكان جملة منهم قواداً ومتنفذين بيدهم إعلان الحرب والسلم.. وكانوا يسعون لأذية الإمام ويقفون بوجهه ويتحدونه من الناحية العلمية.. غير أن كل محاولاتهم باءت بالفشل.. فقد أحبطها الإمام بسعة معارفه وعلميته وصبره وكان يجيب على أسئلتهم ويرد على تحديهم.. حتى لم يعد الخليفة يطيق وجوده فأوعز لرجاله بقتله.. حين توفرت له الظروف المؤاتية..
عهـــده…
بعد استشهاد الإمام الهادي (ع) تسلم ولده الإمام الحسن العسكري(ع) مركز الإمامة وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وكان قد قضى القسط الأهم من حياته في سامراء وعانى مع أبيه من ظلم بني العباس وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف الصعبة التي واجهت أباه..
وباعتباره المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده، وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية.. بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي (ع) وقف الإمام العسكري موقفاً حازماً وحذراً من علاقته بالحكم، وامتداداً لموقف أبيه لم يبد انصياعاً للرغبات المريضة والعدائية أو إذلالاً أمام الخليفة وأتباعه. وفرض شخصيته المؤثرة المستقلة دون أن يثير الريبة والشك به.. مما أكسبه احتراماً ورفعة وإجلالاً حتى من أشد المعارضين لنهج آل البيت(ع) وأكثرهم حقداً وعداوة، وهو الوزير (عبيد الله بن يحيى بن خاقان) الذي يقول:)ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلويين مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبّرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر) (14).
غير أن ذلك لم يرق للحكم، الذي رأى في توجهات الإمام العسكري(ع) خطراً مبطناً ينطوي على الكثير من التحديات، الأمر الذي فاقم من موجة الإرهاب والضغط عليه وعلى أصحابه، خاصة بعد أن استجدت في عصره ظروف وملابسات أضعفت قبضة السلطة العباسية على بعض الأقاليم والمدن.. ولم تكن قط لصالح الإمام كما كان متوقعاً)وقد حبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك.. ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لآبائه مع المتوكل، من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى) (15).
بعد مقتل المتوكل على يد ابنه المنتصر بدأ عصر انحطاط الخلافة العباسية وبعد أربعة حكّام جاء المعتمد إلى سدة السلطة فبدأ عصر الإرهاب الأكثر دموية واستهتاراً.. وبلغ الإرهاب ضد آل البيت أوجه.. فالمعتمد كان يتخوف من تحركات الإمام ويتوجس منها، فشدد حصاره ووقف مع الطبقة المستأثرة من الموالي والأتراك الذين سيطروا بالكامل على مقاليد الحكم ووقفوا موقفاً غاية في العداء ضد خط الإمام وطروحاته الفكرية والسياسية.. وسعوا للتشديد عليه والتضييق على تحركاته.. كما سعوا بكل الوسائل الخبيثة لعزله عن المسرح الاجتماعي ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبر صغير عن نشاط الإمام)فكان العسكري (ع) مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس) (16).
مسؤولياته:
ظلت السلطة برمتها في حذر دائم واستنفار وتوجس مستمر من أقوال وأفعال الإمام الحسن العسكري (ع) وأصحابه.. فكان الاعتقال ووسائل القهر الإرهابية سيفاً مسلطاً تشهره السلطات بوجه الإمام وأصحابه الذين كانت حياة بعضهم تنتهي بين جدران السجون.. ولقد تم إلقاء القبض على الإمام نفسه مرات، ليبقى في غياهب السجن مدة، ثم يخرج ليسجن ثانية!.
وللحفاظ على وتيرة عمله الجهادي الشريف، وبعد أن شاهد ما يتعرض إليه أصحابه ومناصروه من قهر وذل وما يعانونه من خوف وعذاب جراء سياسة البطش والاضطهاد الذي ينالهم على أيدي المعتمد وجلاوزته، وبناء على ضغط الأحداث أمر الإمام العسكري(ع) أتباعه بعد أن توسم فيهم قوة الإرادة والصمود، باتباع أسلوب النشاط السري المحاط بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، مستهدفاً الحفاظ على حياتهم وإذكاء روح الثورة والأمل في نفوسهم.
ولقد نجحت خطة الإمام(ع) أيما نجاح.. فبينما واصل أتباعه عملهم بنشاط وسرية، اتبع هو سياسة حكيمة مع مناؤيه مما أكسبه الثقة والاحترام.. خاصة عند الوزير عبيد الله، الذي أثبت مدى احترامه وتقديره للإمام العسكري.. وبهذا تم كسبه لصالح المظلومين)وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير، لكي يفهمهم أن وقوفه إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والانحراف، الذي يمارسه جهاز الحكم إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد) (17)،)لأن المسألة عنده مسألة أمة ورسالة، وهي تسمو على العداوات الشخصية والاختلافات، وربما أراد كذلك أن يوهمهم بعدم الخروج عن سياستهم أو الاحتجاج ضدهم، وربما كانت سبباً تدفع الحاكم للتخفيف عن أصحابه من الضغط والمطاردة التي يلقونها من الدولة) (18).
ولكي يبعد أية شبهة عن نفسه أراد الإمام العسكري أن يلتقي بالوزير عبيد الله في محل عام وفي أثناء جلوس الوزير يخبره حاجبه بأن أبا محمد بن الرضا بالباب، فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير.. قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد…!
اوصافـــه…
يقول: فدخل رجل حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن حديث السن، له جلال وهيئة حسنة.
قال أحمد: فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطىً فعانقه وقبّل وجهه وصدره وأجلسه على مصلاه وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه!
وقد بقي أحمد بن عبيد الله متحيراً في أمر أبيه وأمر الإمام حتى استأذن مرة أباه بالسؤال وقال: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل؟. فقال يا بني، ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي، ثم سكت وأنا ساكت. ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه) (19).
ثورة الزنج:
من بين الظروف والملابسات الكثيرة التي حدثت في عصر الإمام العسكري (ع) والثورات العديدة باسم العلويين. والتي طالبت جميعها بإزالة حكم خلفاء بني العباس الفاسد.. كانت ثورة (صاحب الزنج).. أشد الثورات تأثيراً على الشارع وعلى السلطة.. ولأن الثوار بقيادة (علي بن محمد) زعموا انتسابهم إلى الإمام علي (ع)، وجدوا تعاطفاً كبيراً من الناس، كون حركتهم تهدف إلى إضعاف سلطة بني العباس وكسر شوكتهم وهو ما يرغب به الجميع، غير أن سلوكيات الثوار وتصرفاتهم المثيرة أثبتت أن حركتهم أبعد ما تكون عن أطروحات الأئمة؛ إذ ارتكبوا الجرائم البشعة والأعمال المنافية لأحكام الإسلام بحق الأهالي المسالمين، دون وازع من ضمير أو رادع من دين.. وقتلوا الكثير من الأبرياء وسلبوا الأموال وأحرقوا المدن وسبوا النساء وبذلك انقسم الناس حول تقييم أعمالهم، ومساندة ثورتهم بين مؤيد ومستنكر. وكان الإمام العسكري (ع) على رأس المستنكرين.. فلقد رفض كل ما ارتكبه الزنج بثورتهم، لكنه وبسبب دقة الموقف وحراجته فقد التزم)موقف الساكت دون تصريح إيجابي أو سلبي) (20).
وآثر السكوت إزاء الثورة والثوار، فلم ينتقد علناً تصرفاتها ولم يتعرض لتفاصيلها، خشية أن يؤخذ كلامه تأييداً ضمنياً للدولة…
لقد عمل الإمام(ع) جاهداً طوال أيام الثورة التي امتدت زمناً طويلاً، للاستفادة من الإيجابيات والنتائج الجيدة التي تمضخت عنها حركة الزنج.. واستغل حالة الضعف والارتباك التي حلت بالدولة.. والتي أدت إلى تخفيف الضغط ولو مؤقتاً على تحركات الإمام وأصحابه على الرغم من أن الحاكم والقصر كانا على يقين من أن خطر الإمام أكبر من خطر الثوار.. وأن نشاطه الخفي أشد وقعاً وأبعد أثراً على المدى البعيد من حركة الزنج، التي لا تعدو كونها تحركاً آنياً سرعان ما يزول…
جهود الإمام مع أصحابه:
عمل البلاط العباسي على إبعاد الإمام العسكري عن أصحابه، والتفريق بينهم من خلال الترغيب والترهيب والبطش.. فسعى بكل السبل إلى إغداق المال الوفير على المترددين والمرعوبين وإغرائهم بالعيش الرغيد.. وبالمقابل وقف موقفاً صارماً من أصحاب الإمام وقواعده المساندة بالتجويع والسجن والقتل..
وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه.. فكان يشرف بنفسه على قواعده الشعبية لغرض حمايتها والحفاظ على وجودها وتنمية وعيها، ومدها بكل أساليب الصمود والارتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة.. ويقف موقف الساعد والناصح الأمين والمنبه والمعين، يعينهم على نوائب الدهر ومصائبه اقتصادياً واجتماعياً جراء ما يلاقونه من معاملة قاسية..
وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة، ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (ص):)اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها.. فقد كتب محذراً إلى (محمد بن علي السمري) وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (ع) في غيبته الصغرى)فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة) (21).
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة (صالح بن وصيف):)أخبرهم الإمام (ع) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (ع)) (22).
وكان الإمام يمد أصحابه بالمال لتحسين أحوالهم المعيشية ويساعدهم لتطوير مصالحهم المادية العامة. ويوزع عليهم وعلى المحتاجين من الفقراء والمساكين الأموال الكثيرة التي تأتيه من الموالين لآل البيت(ع) ومحبيهم، بطرق شتى وأساليب متنوعة عن طريق وكلائه المنتشرين في المناطق الإسلامية..
ولقد حرص الإمام على إخفاء أمر وصول الأموال وسبل توزيعها سراً، وبعيداً عن أنظار ومسامع السلطة.. وكان ذلك وحده دليلاً على مدى يقظته وعلى الدرجة العالية من الحذر التي يتبعها، حتى عدت معجزة من معجزاته… (كيف استطاع الإمام وهو المضطهد المراقب أن يستلم الأموال ويصرفها طبقاً للمصالح التي يراها دون أن تعرف الدولة شيئاً عن نشاطه هذا، بل تقف تجاهه مكتوفة الأيدي عاجزة عن كشفه، بالرغم من بذل أقصى وسعها في ذلك. وما انكشاف بعض هذه الأموال للدولة، إلا نتيجة لتقصير بعض الأطراف في الأخذ بهذا المسلك)(23).
(وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (ع) نفذوا إلى (عثمان بن سعيد العمري السمان) الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام (ع) فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام (ع) بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه) (24).
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام (ع) فقد كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب (أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهذا جاء محمد(ص)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك) (25).
علومه وثقافته:
عمل خلفاء بني العباس قاطبة على الضد من تعاليم الإسلام السمحاء، وبالغ بعضهم في إظهار العداء لآل البيت والأئمة الأطهار على وجه الخصوص.. وأوكلوا لتوابعهم من وعاظ السلاطين والعاملين في الدواوين والبلاط والمدعين في شؤون الأدب والثقافة في شن حملات مسعورة ضد العلويين.. وأكرموا بسخاء كل من قام بالمهمة القذرة.. لذلك كان من واجب الأئمة الهداة وأنصارهم التصدي والوقوف بحزم في وجه كل الدعوات المشبوهة والأكاذيب والشبهات الإلحادية.
وبسبب إدراك الإمام العسكري (ع) لخطورة تلك الأعمال المضللة ولإحساسه بأهمية تدخله الشخصي لما له من علم محيط مستوعب وقدرة.. كان المتصدي الأول لها.. فلكي يصون الأمة من الفتن ويحفظ نقاوة الرسالة المحمدية بعيداً عن البدع والشوائب والدسائس ويصون العقيدة وشخصية الأمة الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات المنحرفة التي تشكل خطراً على الإسلام.. ومن أجل ضربها في بدايات تكونها من ناحية أخرى.. والتخطيط للقضاء عليها قبل مضاعفاتها.. قام بنشاط ملحوظ ومتتابع وصاغ عدة ردود مفحمة لكل ما ينشره أتباع بني العباس وإظهار الحق المبين لآل البيت، متبعاً أسلوب الحوار الهادئ والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية دونما تعصب….
ولم يكتف الإمام العسكري (ع) بتلك الردود الحازمة الحاسمة، بل قام بنشاط آخر تمثل بإصدار البيانات العملية وتأليف الكتب.
لقد حاول البلاط العباسي دفع الفيلسوف (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي) لتأليف كتاب حول (متناقضات القرآن) وحين شرع الكندي بذلك (اتصل الإمام به عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته وأحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها على خطأ) (26). (وجعل الكندي يتوب ويحرق أوراقه) (27).
(وله (ع) بيانات علمية لأبي هاشم الجعفري في مسألة خلق القرآن) (28).
(وللإمام العسكري (ع) بيانات في تفسير القرآن) (29).
(وله كتاب تفسير القران طبع عدة مرات) (30).
(وكان من شعراء الإمام الحسن العسكري (ع) الشاعر ابن الرومي) (31). وكان لابن الرومي في مودة ذوي القربى من آل الرسول(ع) أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقائق الجلية..
في الغيبة:
خلال عمره القصير شهد الإمام العسكري (ع) حكم ستة من ملوك بني العباس، ولم يرحمه أحدهم (اعتقل الإمام الحسن العسكري عدة مرات في سجون الظالمين من ملوك بني العباس) (32).
وكاد يفقد حياته في أكثر من مرة.. وأدرك أخيراً أن المعتمد الظالم لن يتركه بخير أمداً طويلاً.. كما لن يترك ولده المهدي(عج) على قيد الحياة إذا ما عرف به أو علم بيوم مولده، الذي حرص الإمام (ع) على إبقائه سراً.. ففي الجو المشحون بالحقد والضغينة على أئمة أهل البيت كان البلاط العباسي على علم تام بأنه آن الأوان (لبزوغ شمس المهدي) ولكن جهلهم بتاريخ ميلاده الذي أخفاه الإمام العسكري (ع) جعلهم يتخبطون في أمرهم..
لقد أصدر المعتمد أوامره لمراقبة الحوامل في بيت الإمام(ع) في حياته وعند وفاته، ظناً منه بوجود المهدي جنيناً في رحم إحدى نسائه.. غير أن يقظة الإمام وحذره خيبا مسعى الحاكم..
وبعد ولادة المهدي(عج) في ليلة النصف من شعبان عام (255هـ) في مدينة سامراء واجه الإمام العسكري مهمة شاقة لإثبات وجود ولده تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلامية وتجاه قواعده ومواليه.. ومن ثم التخطيط لحمايته من أي أذى وسوء.. فلم يعلن عن ولادته (أخفى أمره كلياً) ولم يكشف عنه حتى لأقرب المحيطين به.. وأبعده عن عيون رجال السلطة ليضمن سلامته (حتى إن الخادم في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً) (33) لكنه بالمقابل أطلع أصحابه المقربين جداً على أمر ولده وألزمهم بوجوب الكتمان… فـ(بعد أن تصدق عنه عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً وعق عنه بذبح ثلاثمائة شاة، بعثها حية من يومه إلى بني هاشم والشيعة) (34) بعث إلى الخاصة من أصحابه برسائل يخبرهم فيها بولادة الحجة ويعلمهم بأنه الوصي من بعده ويأمرهم بكتمان ذلك عن كل أحد.. قال محمد بن الحسن بن إسحاق القمي: (لما ولد الخلف الصالح (ع) ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي (ع) إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب بخط يده جاء فيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعند جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته. أحببنا إعلامك ليسرك الله كما سرنا والسلام) (35) وروى عن إبراهيم صاحب الإمام العسكري أنه قال: وجه إلي مولاي أبو محمد بأربعة أكباش وكتب إلي: بسم الله الرحمن الرحيم هذه عن ابني محمد المهدي وكل هنيئاً وأطعم من وجدت من شيعتنا).
ونظراً للظروف القاسية والمعاناة الصعبة التي عاشها الإمام العسكري وفي خضم الحرب غير المعلنة التي شنها المعتمد والحقد المتصاعد ضد الشيعة، كان عليه أن يجاهد لإبقاء شعلة آل البيت متوهجة وضاءة.. والحفاظ على تراث ونهج الرسالة المحمدية.. وتطلب ذلك بالأساس (سلامة ولده). وعندها رأى ضرورة العمل والتبشير بفكرة (المهدي) الثورية ولكن بسرية تامة.. (إن الإمام العسكري (ع) حيث يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله على الأرض ليبدل خوفهم أمناً.. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً) (36) يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد للغيبة..
ومع معرفته المطلقة أن بني العباس يعتبرون الغيبة تهديداً مباشراً لكيانهم، وخروجاً على سلطانهم، وتمرداً على دولتهم، لذلك فإنهم سيعملون على محاربتها بكل السبل وسيواجهونها بالبطش والإرهاب.. ومع الثقة بأن الأمر ليس سهلاً لإقناع البشر الذين اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوزها إلى تفكير واسع.. مضى الإمام قدماً لإنجاز المهمة متخطياً كل الصعاب.
ولم يكن المجتمع الذي عاصره الإمام بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام المهدي(عج) لا مثيل لها في تاريخ الأمة.. لذا تحتم على الإمام العسكري (ع) أن يعمل بحذر ويخطط بدقة متناهية لتنفيذ الفكرة.. فبدأ التحضير والتخطيط لتعويد الناس على ما لم يعرفوه سابقاً، كي يستسيغوه دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
ومع وجود النصوص الكثيرة المتوالية، المتواترة والصحيحة عن النبي (ص). والتي تبشر بالمهدي (ع). والتي أوردها مؤلفون معاصرون أو متقدمون لعصر الإمام العسكري، كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. فلقد وجد الإمام صعوبة في إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة، وتنفيذها في شخص ولده المهدي…
وتمهيداً لتحقيق الهدف الأسمى عمل الإمام العسكري (ع) أولاً على حجب ولده عن أعين الناس مع إظهاره لبعض أصحابه وإصدار تعليماته لهم. (ولعل أوسع إعلان قام به الإمام بين أصحابه عن ولادة ابنه قبيل وفاته بأيام، وكان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم محمد بن عثمان ومعاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب، يعرض عليهم ابنه ويقول لهم: هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم.. وهو القائم الذي تمد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً) (37).
وفي الوقت ذاته، ومن أجل إفهام الناس والدعوة لتحمل المسؤولية الإسلامية تجاهها، شن الإمام العسكري (ع) حملة توعية لفكرة الغيبة فأصدر عدة نصوص وبيانات.. اتخذت أشكالاً متنوعة منها:
1- بيان عام، تعرض به إلى صفات المهدي (ع) بعد ظهوره وقيامه في دولته العالمية. (فإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود لا يسأل البينة) (38).
2- توجيه نقد سياسي للأوضاع القائمة يقرنه بفكرة المهدي، غيبته وظهوره (إذا خرج القائم أمر بهدم المنابر والمقاصر في المساجد) (39) والمقاصر أماكن خاصة كانت تبنى لغرض الأمن وخشية اعتداء على (الخليفة) وزيادة الهيبة في نفوس الآخرين!..
3- توجيه عام لقواعده وأصحابه يوضح لهم فيه أبعاد فكرة الغيبة وضرورة التكيف لها من الناحية النفسية والاجتماعية، تمهيداً لما سيعانونه من غيبة الإمام وانقطاعه عنهم.. فمن رسالة كتبها (ع) لابن بابويه قال فيها: (عليك بالصبر وانتظار الفرج. قال النبي (ص) أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي (ص) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (40).
ومن أجل تهيئة ذهنيات الأمة وتوعيتها حتى لا يكون الأمر غريباً ومفاجئاً للناس، اتبع الإمام العسكري أسلوباً خاصاً، فقام بعمل غاية في الأهمية إذ احتجب بنفسه عن الناس إلا من خاصة أصحابه وأوكل لهم مهمة تبليغ تعليماته وأحكامه، متبعاً أسلوب المكاتبات والتوقيعات.. (وكان قد بدأ التحضير والتخطيط لهذه الفكرة -بشكل بسيط- أيام الإمام الهادي (ع) عندما احتجب عن كثير من مواليه وأخذ يراسلهم عن طريق الكتب والتوقيعات ليعود شيعته على هذا المسلك بشكل متدرج بطئ موافقاً بذلك الفهم العام لدى الناس) (41))وفعلاً اعتاد أصحابه ومواليه الاتصال به والسؤال منه بطريق المراسلة والكتابة) (42).
إضافة إلى ذلك اتبع الإمام (ع) مع قواعده الشعبية أسلوباً آخر من أساليب التمهيد لفكرة الغيبة، وهو نظام الوكلاء..
وفـــاتـــه…
(توفي الإمام الحسن العسكري في سامراء يوم الجمعة 8 ربيع الأول سنة 260هـ ودفن مع أبيه في بيته حيث قبرهما الآن) (43) (ولقد روي أنه (ع) قتل مسموماً على يد المعتمد) (44).
قال أبو الأديان: (كنت أخدم الحسن بن علي العسكري وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علته التي توفي فيها (صلوات الله عليه)، فكتب معي كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن، فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً، فتدخل إلى (سر من رأى) يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل. فقلت: يا سيدي! فإذا كان ذلك فمن الإمام والحجة؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم بعدي فقلت: زدني. فقال: من يصلي عليّ، فهو القائم بعدي.
فقلت: زدني. فقال: من أخبر بما في الهميان، فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان!).
وفي رواية أخرى ذكر عن سبب موته، وهو أن المعتمد دس له السم في الطعام)أنه لما توفي أبو محمد الحسن العسكري (ع) كان في ليلة وفاته وقد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صيقل الجارية وعقيد الخادم. قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي فجئنا به إليه فقال: ابدأ بالصلاة وبسطنا في حجره المنديل، وأخذ من صيقل الماء فغسل به وجهه ورأسه مرة ومرة، ومسح على رأسه وقدمه مسحاً فصلى صلاة الصبح على فراشه، وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد، فأخذت صيقل القدح من يده ومضى من ساعته (ص) إلى كرامة الله جلّ جلاله) (45).
ويمضي أبو الأديان قائلاً: (وخرجت بالكتب إلى المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت (سر من رأى) يوم الخامس عشر، كما قال لي(ع) فإذا أنا بالواعية في داره! وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه، بباب الدار والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه!
فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله، فما صرنا بالدار إذا أنا بالحسن بن علي (ع) على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه. فلما همّ بالتكبير.. خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط وبأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر، وقال: تأخر يا عم، أنا أحق بالصلاة على أبي!.
فتقدم الصبي فصلى عليه، ودفن العسكري إلى جانب قبر أبيه. ثم قال: يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك. فدفعتها إليه. وقلت في نفسي: – هذه اثنتان، وبقي الهميان.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من (قم)، فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته. فقالوا: فمن الإمام والحجة بعده؟ فخرج الخادم وقال: معكم كتب فلان، وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلية.
فدفعوا الكتب والمال، وقالوا: الذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.
وعندما علمت السلطات بالأمر وجه المعتمد خدمه، فقبضوا على صيقل الجارية، وطالبوها بالصبي، فأنكرته وادعت حملاً بها لتغطي على حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي – ليراقبها ثم ليقتل ابنها حين ولادته – (46) وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين، لا شريك له) (47).
(وكان عمره وقت شهادته ثمانية وعشرون عاماً، ودفن في الدار التي دفن فيها أبوه الهادي عليه السلام، وقد تعرضت نساؤه واماؤه إلى الحبس والتعذيب بعد شهادته وذلك طلباً لسلطان الزمان وبحثاً عن الحجة ابن الحسن صاحب العصر والزمان وذلك بتفتيش الدور وإخافة الشيعة وتشريدهم بسعاية جعفر الكذاب) (48).
(بعد دفن الحسن العسكري أخذ الخليفة في البحث والتقصي عن ابن الإمام حيث أنه قد سمع أنه سيسود العالم وسيدمر أهل الباطل.. وبعد طول فحص لم يحصلوا على خبر، وقد تم وضع الإماء اللواتي يشك في حملهن بالإمام تحت المراقبة لمدة سنتين) (49).
وهكذا أبى الله إلا أن يتم نوره ويكمل نعمته ويحبط آمال المارقين.. ويحفظ إمام العصر ويوقف عجلة الدم ومسيرة الاستشهاد التي تعرض لها الأئمة في سبيل إرساء كلمة الله على الأرض وترسيخ مفاهيم الإسلام في قلوب المؤمنين.. فلقد استشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في محراب صلاته على يد آثمة بسيف اللعين ابن ملجم، فكان سلام الله عليه أول شهيد من أئمتنا الأطهار، وتوالت بعده مسيرة الشهداء حتى استشهد الإمام الحسن العسكري(ع) مسموماً على يد المعتمد، ولكن يبقى عزاؤنا وأسوتنا في الإمام صاحب الأمر(عج).
اللهم تقبل منا وسدد خطانا واحشرنا مع الأبرار والصالحين.