"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

في ذكرى استشهاد الامام الكاظم عليه السلام والغدر به في سجون الرشيد

المرجعية :

استشهاد الامام الكاظم وبعض ما نزل به من مظالم

المؤلف : الشيخ عباس القمي
الكتاب أو المصدر : منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل
الجزء والصفحة : ج2,ص279-289.
القسم : سيرة الرسول وآله / سيرة الامام الكاظم (عليه السلام) / وفاة الامام الكاظم /
الأشهر في تأريخ شهادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) كونها في الخامس و العشرين من شهر رجب سنة 183هـ ببغداد في حبس السندي بن شاهك، و قال البعض في الخامس من رجب‏  و كان عمره الشريف خمسا و خمسين سنة، و على رواية الكافي اربعا و خمسين سنة .انتقلت إليه الامامة و هو ابن عشرين سنة، و كانت مدّة امامته خمسا و ثلاثين سنة أدرك (عليه السلام) منها أواخر ايام المنصور، و لم يتعرض له ظاهرا، و منها عشر سنين مدة المهدي فجي‏ء به إلى العراق و حبس، و لم يجرأ المهدي على ايذائه بسبب المعاجز الكثيرة التي رآها منه فأعاده إلى المدينة ثم أدرك أيام الهادي و لم يتعرض له أيضا، و كان ملكه حوالي سنة و أشهر .

قال صاحب عمدة الطالب : و قبض عليه موسى الهادي و حبسه فرأى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في نومه يقول له : يا موسى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد : 22] ‏.

 

فانتبه من نومه و قد عرف انّه المراد فأمر بأطلاقه ثم تنكر له من بعد ذلك فهلك قبل أن يوصل إلى الكاظم (عليه السلام) أذى، و لما ولي هارون الرشيد الخلافة اكرمه و أعظمه ثم قبض عليه‏
و حبسه ببغداد و قتله بالسمّ بعد أربع عشرة سنة من خلافته‏ .

 

أما سبب أخذ هارون الامام و إرساله إلى العراق فكما رواه الشيخ الطوسي و ابن بابويه و غيرهما قالوا : كان السبب في وقوع موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى بغداد انّ هارون الرشيد أراد أن يعقد الأمر لابنه محمد بن زبيدة و كان له من البنين أربعة عشر ابنا فاختار منهم ثلاثة : محمد بن زبيدة و جعله وليّ عهده، و عبد اللّه المأمون و جعل الأمر له بعد ابن زبيدة، و القاسم المؤتمن و جعل الأمر له بعد المأمون.

فلمّا وضع الرشيد ابنه محمد بن زبيدة في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ساء ذلك يحيى البرمكي من أعظم وزراء هارون و قال : إذا مات الرشيد و أفضى الأمر إلى محمد انقضت دولتي و دولة ولدي و تحوّل الأمر إلى جعفر بن محمد بن الأشعث و ولده، فصار في مقام تضييع ابن الأشعث و السعي به عند هارون حتى نسبه إلى التشيّع و الاعتقاد بامامة موسى بن جعفر (عليه السلام) و قال له : انّه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات الّا أخرج خمسه فوجّه به الى موسى بن جعفر، فصار ذلك سببا لتوجس هارون من الامام، فسأل يوما يحيى و غيره بأنّهم هل يعرفون أحدا من آل أبي طالب حتى يدعوه و يسأله عن موسى بن جعفر.

فعيّنوا محمد بن اسماعيل بن جعفر ابن أخي الامام (عليه السلام) الذي أحسن الامام إليه كثيرا و كان مطلعا على أحوال الامام فكتبوا إليه كتابا بأمر هارون و طلبوه، فقال الامام له : مالك و الخروج مع السلطان؟ قال : لأنّ عليّ دينا، فقال : دينك عليّ، قال : و تدبير عيالي، قال : أنا أكفيهم فأبي الّا الخروج ؛ ثم قال للامام أوصني فقال له : أوصيك بأن لا تشرك بدمي و لا تؤتم ولدي، فقال مرّة أخرى أوصني فأوصاه بمثله إلى ثلاث مرّات فأعطاه الامام ثلاثمائة دينار و أربعة آلاف درهم، فلمّا قام و ذهب قال الامام (عليه السلام) لمن حضره : و اللّه ليسعينّ في دمي و يوتمنّ أولادي فقالوا : جعلنا اللّه فداك و أنت تعلم هذا من حاله و تعطيه و تصله؟

قال : نعم، حدّثني أبي عن آبائه عن رسول اللّه  (صلّى اللّه عليه و آله) : انّ الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها اللّه و انني أردت أن أصله بعد قطعه حتى إذا قطعني قطعه اللّه فذهب محمد بن اسماعيل إلى بغداد و نزل دار يحيى بن خالد البرمكي فتواطأ على انّه لو ذهب إلى الرشيد يقول له أمورا عن الامام يهيج بها غضبه، فلمّا جاء إليه سلّم عليه و قال له : ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين أنت هنا خليفة و موسى بن جعفر في المدينة خليفة تجبى إليه الأموال من كلّ أقطار العالم و اشترى ضيعة بثلاثين الف درهم و سمّاها اليسيرة، فأمر له هارون بمائتي الف درهم، لكنّه لم ينتفع بها فأصابه وجع في حلقه بعد رجوعه إلى البيت فمات منه.

و في رواية اخرى انّه دخل في بعض الايام إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته‏  و جهدوا في ردّها فلم يقدروا فوقع لما به و جاءه المال و هو ينزع فقال : ما أصنع به و أنا في الموت فعيد المال إلى دار الخلافة .

و حجّ الرشيد في تلك السنة أي سنة 179هـ لأحكام أمر سلطانه و أخذ الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) و كتب إلى الأطراف و النواحي يأمر العلماء و السادة و الأعيان و الأشراف بالاجتماع في مكة كي يجدد البيعة لنفسه و يأخذ البيعة لولديه بولاية العهد، و جاء اوّلا إلى المدينة الطيّبة، و روى ابراهيم بن أبي بلاد قال : كان يعقوب بن داود يخبرني انّه قد قال بالامامة، فدخلت إليه بالمدينة في الليلة التي أخذ فيها موسى بن جعفر (عليه السلام) في صبيحتها فقال لي : كنت عند الوزير الساعة- يعني يحيى بن خالد- فحدّثني انّه سمع الرشيد يقول عند رسول اللّه (صلى الله عليه واله) كالمخاطب له : بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه انّي أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه، فانّي أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه لانّي قد خشيت أن يلقي بين أمتك‏ حربا يسفك فيها دماءهم و أنا أحسب انّه سيأخذه غدا ؛ فلمّا كان الغد أرسل إليه الفضل بن الربيع و هو قائم يصلي في مقام رسول اللّه (صلى الله عليه واله)فأمر بالقبض عليه فقطع عليه صلاته و حمل و هو يبكي و يقول : إليك أشكو يا رسول اللّه ما ألقى و أقبل الناس من كلّ جانب يبكون و يضجّون فلمّا حمل إلى بين يدي الرشيد شتمه و جفاه  نعوذ باللّه .

فلمّا جنّ عليه الليل قيّده و أمر بقبتين فهيئتا له فحمل موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أحدهما في خفاء و دفعه إلى حسّان السروي و أمره أن يصير به في قبّة إلى البصرة فيسلّمه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور و هو أميرها و ابن عمّ هارون و وجّه قبة أخرى علانية نهارا إلى الكوفة معها جماعة ليعمي على الناس أمر موسى بن جعفر (عليه السلام) ؛ فقدم حسّان البصرة في السابع من شهر ذي الحجة قبل التروية بيوم، فدفعه إلى عيسى بن جعفر نهارا علانية حتى عرف ذلك و شاع أمره، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس الذي كان يحبس فيه و أقفل عليه و شغله عنه العيد، فكان لا يفتح عنه الباب الّا في حالتين حال يخرج فيها إلى الطهور و حال يدخل إليه فيها الطعام.

قال محمد بن سليمان النوفلي : فقال لي الفيض بن أبي صالح- و كان نصرانيا ثم أظهر الاسلام و كان يكتب لعيسى بن جعفر و كان بي خاصّا- فقال : يا أبا عبد اللّه لقد سمع هذا الرجل الصالح في ايّامه هذه في هذه الدار التي هو فيها من ضروب الفواحش و المناكير، ما أعلم و لا أشك انّه لم يخطر بباله‏ ؛ و بالجملة كان (عليه السلام) في حبس عيسى حوالي سنة، فكتب إليه الرشيد مرارا أن يقتله فلم يجرأ على ذلك و منعه أيضا جمع من أصدقائه فلمّا طال حبسه كتب إلى هارون : ان خذه منّي و سلّمه إلى من شئت و الّا خلّيت سبيله فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجّة فما أقدر على ذلك، حتى انّي لأستمع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو الّا لنفسه، يسأل اللّه الرحمة و المغفرة .

روى الشيخ الصدوق عن الثوباني انّه قال : كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)  بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال فكان هارون ربّما صعد سطحا يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبا الحسن (عليه السلام) فكان يرى أبا الحسن (عليه السلام) ساجدا فقال للربيع : يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب و إنمّا هو موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال .

قال الربيع : فقال لي هارون : أما انّ هذا من رهبان بني هاشم، قلت : فما لك قد ضيّقت عليه في الحبس؟ قال : هيهات لا بدّ من ذلك‏ .

و روي في كتاب الدر النظيم عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال : بعثني هارون الى أبي الحسن (عليه السلام) برسالة و هو في حبس السندي بن شاهك، فدخلت عليه و هو يصلّي فهبته أن أجلس، فوقفت متكيا على سيفي، فكان (عليه السلام) إذا صلّى ركعتين و سلّم واصل بركعتين أخراوتين، فلمّا طال وقوفي و خفت أن يسأل عنّي هارون و حانت منه سليمة فشرعت في الكلام، فامسك فأبلغته رسالة هارون و قلت له انّ هارون يقرئك السلام و يقول لك انّه بلغني عنك أشياء أقلقتني فأقدمتك إليّ و فحصت عن ذلك فوجدتك نقيّ الجيب بريّا من العيب، مكذوبا عليك فيما رميت به، ففكرت بين اصرافك إلى منزلك و مقامك ببابي، فوجدت مقامك ببابي أبرى لصدري و اكذب لقول فيك و لكلّ انسان غذاء قد اغتذاه و ألفت عليه طبيعته و لعلّك اغتذيت بالمدينة اغذية لا تجد من يصنعها لك هاهنا، و قد أمرت‏ الفضل أن يقيم لك من ذلك ما شئت، فمره بما أحببت و انبسط فيما تريده.

قال : فجعل (عليه السلام) الجواب في كلمتين من غير أن يلتفت إليّ فقال : لا حاضر مالي فينفعني و لم أخلق سئولا اللّه اكبر، و دخل في الصلاة، قال : فرجعت إلى هارون فأخبرته، فقال لي : فما ترى في أمره؟ فقلت : يا سيدي لو خططت في الأرض خطة فدخل فيها ثم قال لا أخرج منها ما خرج منها، قال : هو كما قلت و لكن مقامه عندي أحبّ إليّ، و روي غيره.

قال : قال هارون : ايّاك أن تخبر بهذا أحدا، قال : فما أخبرت به أحدا حتى مات هارون‏ .

و روى الشيخ الطوسي عن محمد بن غياث انّه قال : لمّا حبس هارون الرشيد أبا ابراهيم موسى (عليه السلام) و أظهر الدلائل و المعجزات و هو في الحبس تحيّر الرشيد، فدعا يحيى بن خالد البرمكي فقال : انطلق إليه و أطلق عنه الحديد و قل له : يقول لك ابن عمّك انّه قد سبق منّي فيك يمين انّي لا أخلّيك حتى تقرّ لي بالإساءة و تسألني العفو عمّا سلف منك و ليس عليك في إقرارك عار و لا في مسألتك إيّاي منقصة، و هذا يحيى بن خالد هو ثقتي و وزيري و صاحب أمري فسله بقدر ما أخرج من يميني و انصرف راشدا.

قال محمد بن غياث : فأخبرني موسى بن يحيى بن خالد أنّ أبا ابراهيم قال ليحيى : يا أبا عليّ أنا ميّت و إنمّا بقي من أجلي اسبوع .

و روي عن الفضل بن الربيع في الايام التي كان الامام محبوسا عنده قال : قد أرسلوا إليّ في غير مرّة يأمروني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك و أعلمتهم انّي لا أفعل ذلك و لو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني ؛ فلمّا كان بعد ذلك حوّل إلى الفضل بن يحيى البرمكي فحبس عنده أياما فكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كلّ ليلة مائدة و منع أن يدخل إليه من عند غيره فكان لا يأكل و لا يفطر الّا على المائدة التي يؤتى بها حتى مضى على تلك الحال ثلاثة ايام و لياليها،  فلمّا كانت الليلة الرابعة قدّمت إليه مائدة الفضل بن يحيى.

قال : و رفع يده إلى السماء فقال : يا ربّ انّك تعلم انّي لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي قال : فأكل فمرض، فلمّا كان من الغد بعث إليه بالطبيب ليسأله عن العلّة فقال له الطبيب : ما حالك؟ فتغافل عنه، فلمّا اكثر عليه أخرج إليه راحته فأراها الطبيب ثم قال : هذه علّتي، و كانت خضرة وسط راحته تدلّ على انّه سم فاجتمع في ذلك الموضع، قال : فانصرف الطبيب إليهم و قال : و اللّه لهو أعلم بما فعلتم به منكم، ثم توفي (عليه السلام) ‏ .

و في رواية أخرى انّ الفضل بن يحيى لم يقدم على قتل الامام مع إصرار هارون على قتله فبلغ هارون و هو بالرقة انّ الامام عند الفضل بن يحيى في سعة و رفاهة، فأنفذ مسرور الخادم الى بغداد على البريد و أمره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر فيعرف خبره فان كان الأمر على ما بلغه أوصل كتابا منه إلى العباس بن محمد و أمره بامتثاله و أوصل كتابا منه الى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس ؛ فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ثم دخل على موسى بن جعفر (عليه السلام) فوجده على ما بلغ الرشيد، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد و السندي فأوصل الكتابين إليهما، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى فركب معه و خرج مشدوها دهشا حتى دخل على العباس فدعا بسياط و عقابين فوجّه ذلك إلى السندي و أمر بالفضل فجرّد ثم ضربه مائة سوط و كتب مسرور بالخبر إلى الرشيد، فأمر بتسليم موسى (عليه السلام) إلى السندي بن شاهك، و جلس مجلسا حافلا و قال : ايّها الناس انّ الفضل بن يحيى قد عصاني و خالف طاعتي و رأيت‏ أن ألعنه فالعنوه، فلعنه الناس من كلّ ناحية حتى ارتجّ البيت و الدار بلعنه و بلغ يحيى بن خالد، فركب إلى الرشيد و دخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه حتى جاءه من خلفه و هو لا يشعر ثم قال : التفت إليّ يا أمير المؤمنين انّ الفضل حدث و أنا اكفيك ما تريد، فانطلق وجهه و سرّ و أقبل على الناس فقال : انّ الفضل كان عصاني في شي‏ء فلعنته و قد تاب و أناب إلى طاعتي فتولّوه، فقالوا : نحن أولياء من واليت و أعداء من عاديت و قد تولّيناه ؛ ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس و أرجفوا بكلّ شي‏ء فأظهر انّه ورد لتعديل السواد و النظر في أمر العمّال و تشاغل ببعض ذلك و دعا السندي فأمره فيه بأمره و امتثله‏  .

و في رواية انّ السندي بن شاهك حضر بعد ما كان بين يديه السم في الرطب، و انّه (عليه السلام) أكل منها عشر رطبات، فقال له السندي : تزداد؟ فقال (عليه السلام) له : حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه فيما أمرت به، ثم انّه أحضر القضاة و العدول قبل وفاته بأيّام و أخرجه إليهم و قال : انّ الناس يقولون : انّ أبا الحسن موسى في ضنك و ضرّ و ها هو ذا لا علّة به و لا مرض و لا ضر ؛ فالتفت (عليه السلام) فقال لهم : اشهدوا عليّ انّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة ايام اشهدوا انّي صحيح الظاهر لكنّي مسموم و سأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة و أصفر غدا صفرة شديدة و ابيضّ بعد غد و أمضي إلى رحمة اللّه و رضوانه، فمضى (عليه السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث‏ .

 

و هو مصداق قوله تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران : 107] ، روى الشيخ الصدوق و غيره عن الحسن بن محمد بن البشار قال : حدّثني شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة ممّن كان يقبل قوله قال : قال لي : قد رأيت بعض من يقرّون بفضله من أهل هذا البيت فما رأيت مثله قط في نسكه و فضله قال : قلت : من و كيف رأيته؟
قال : جمعنا ايّام السندي بن شاهك ثمانين رجلا من الوجوه ممّن ينسب إلى الخير فأدخلنا الى موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال لنا السندي : يا هؤلاء انظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فانّ الناس يزعمون انّه قد فعل مكروه به و يكثرون في ذلك و هذا منزله و فرشه موسّع عليه غير مضيّق، و لم يرد به أمير المؤمنين سوءا و إنمّا ينتظره أن يقدم فيناظره أمير المؤمنين و ها هو ذا صحيح موسّع عليه في جميع امره فاسألوه.

 

قال : و نحن ليس لنا همّ الّا النظر إلى الرجل و الى فضله و سمته، فقال (عليه السلام)  : امّا ما ذكر من التوسعة و ما أشبه ذلك فهو على ما ذكر، غير انّي أخبركم أيّها النفر انّي قد سقيت السمّ في تسع تمرات و انّي أخضرّ غدا و بعد غد أموت، قال : فنظرت إلى السندي بن شاهك يرتعد و يضطرب مثل السعفة .

و وفقا لبعض الروايات انّ الامام (عليه السلام) سأل السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد ليغسّله، ففعل ذلك، قال السندي : و سألته أن يأذن لي أن اكفنه فأبى و قال : انّا أهل بيت مهور نسائنا و حج صرورتنا و اكفان موتانا من طهرة أموالنا و عندي كفني فلمّا مات أدخل عليه الفقهاء و وجوه أهل بغداد فنظروا إليه لا أثر به و شهدوا على ذلك و أخرج فوضع على الجسر ببغداد و نودي هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انّه لا يموت فانظروا إليه فجعل الناس يتفرّسون في وجهه و هو ميّت‏ .

و روى الشيخ الصدوق أيضا عن عمر بن واقد انّه قال : أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل و أنا ببغداد فاستحضرني فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي فأوصيت عيالي بما احتجت إليه و قلت : انّا للّه و انّا إليه راجعون، ثم ركبت إليه فلمّا رآني مقبلا قال : يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك و أفزعناك، قلت : نعم قال : فليس هاهنا الّا خير، قلت : فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري، فقال : نعم، ثم قال : يا أبا حفص أ تدري لم أرسلت إليك؟ فقلت : لا، فقال : أ تعرف موسى بن جعفر؟ فقلت : إي و اللّه انّي لأعرفه و بيني و بينه صداقة منذ دهر.

فقال : من ها هنا ببغداد يعرفه ممّن يقبل قوله؟ فسمّيت له أقواما و وقع في نفسي انّه قد مات، قال : فبعث إليهم و جاء بهم كما جاء بي فقال : هل تعرفون قوما يعرفون موسى بن جعفر؟ فسمّوا له قوما فجاء بهم، فأصبحنا و نحن في الدار نيّف و خمسون رجلا ممّن يعرف موسى بن جعفر (عليه السلام) و قد صحبه.

قال : ثم قام و دخل و صلّينا، فخرج كاتبه و معه طومار، فكتب أسماءنا و منازلنا و أعمالنا و حلانا ثم دخل إلى السندي، قال : فخرج السندي فضرب يده إليّ فقال : قم يا أبا حفص فنهضت و نهض أصحابنا و دخلنا فقال لي : يا أبا حفص اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر فكشفته فرأيته ميّتا، فبكيت و استرجعت.

ثم قال للقوم : انظروا إليه، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه، ثم قال : تشهدون كلّكم انّ هذا موسى بن جعفر بن محمد؟ قالوا : نعم نشهد انّه موسى بن جعفر بن محمد، ثم قال : يا غلام اطرح على عورته منديلا و اكشفه، قال : ففعل، فقال : أ ترون به أثرا تنكرونه؟ فقلنا : لا ما نرى به شيئا و لا نراه الّا ميّتا.

قال : لا تبرحوا حتّى تغسّلوا و اكفّنه و أدفنه، قال : فلم نبرح حتى غسّل و كفّن و حمل، فصلّى عليه السندي بن شاهك و دفنّاه و رجعنا .

قال صاحب عمدة الطالب : و مضى الرشيد إلى الشام فأمر يحيى بن خالد السندي بقتله، فقيل انّه سمّ و قيل بل غمر في بساط و لفّ حتى مات ثم أخرج للناس و عمل محضرا انّه مات حتف أنفه، و ترك ثلاثة ايّام على الطريق يأتي من يأتي فينظر إليه ثم يكتب في المحضر و دفن بمقابر قريش ؛ و في رواية انّ السندي بن شاهك لمّا رفع جنازة الامام (عليه السلام) أمر مناديا ينادي : هذا امام الرافضة فاعرفوه فوضعت الجنازة في السوق فنادى المنادي هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه فانظروا إليه فاجتمع الناس حوله و نظروا إليه فلم يروا أثرا من الجراحة أو الخنق و رأوا الحنّاء في رجليه، فأمر الفقهاء و العلماء أن يشهدوا بذلك فشهدوا الّا أحمد بن حنبل لم يكتب شيئا مع اصرارهم الشديد ؛ و السوق الذي وضع فيه نعش الامام (عليه السلام) سمّى سوق الرياحين و بني عليه بناء و جعلت له باب كي لا تطأه الأقدام بل يتبرّكوا به و يزوروه، و نقل عن مولى أولياء اللّه صاحب تاريخ مازندران انّه قال : ذهبت مرارا إلى هذا الموضع الشريف و قبّلته.

قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) : و وضع على الجسر ببغداد و نودي هذا موسى بن جعفر (عليه السلام) قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه و هو ميّت‏ .

قال ابن شهرآشوب : و لمّا مات (عليه السلام) أخرجه السندي و وضعه على الجسر ببغداد و نودي هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انّه لا يموت فانظروا إليه و إنمّا قال ذلك لاعتقاد الواقفة انّه القائم و جعلوا حبسه غيبة القائم، فنفر بالسندي فرسه نفرة و ألقاه في الماء فغرق فيه و فرّق اللّه جموع يحيى بن خالد .

 

و في رواية الشيخ الصدوق انّه حمل على نعش فلمّا اتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر
فنادوا : ألا من أراد أن ينظر إلى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج و خرج سليمان بن أبي جعفر من قصره إلى الشطّ فسمع الصياح و الضوضاء فقال لولده و غلمانه : ما هذا؟ قالوا : السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش.

 

فقال لولده و غلمانه : يوشك أن يفعل به هذا في الجانب الغربي فاذا عبر به فأنزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فان مانعوكم فاضربوهم و اخرقوا ما عليهم من السواد، قال : فلمّا عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم و ضربوهم و خرّقوا عليهم سوادهم و وضعوه في مفرق أربعة طرق، و أقام المنادين ينادون : ألا من أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج ؛ و حضر الخلق و غسّله و حنّطه بحنوط و كفّنه بكفن فيه حبره استعملت له بألفين و خمسمائة دينار، مكتوبا عليها القرآن كلّه، و احتفى و مشى في جنازته متسلّبا مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك و كتب بخبره إلى الرشيد.

فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر : وصلت رحمك يا عم و أحسن اللّه جزاءك و اللّه ما فعل السندي بن شاهك (لعنه اللّه) ما فعله عن أمرنا .

روى الشيخ الكليني (رحمه اللّه) عن أحد خدمة الامام موسى الكاظم (عليه السلام) انّه قال : أمر أبو ابراهيم (عليه السلام) حين أخرج به أبا الحسن أن ينام على بابه في كلّ ليلة أبدا ما كان حيّا إلى أن يأتيه خبره .

قال : فكنّا في كلّ ليلة نفرش لأبي الحسن (عليه السلام) في الدهليز ثمّ يأتي بعد العشاء فينام فإذا أصبح انصرف إلى منزله، قال : فمكث على هذه الحال أربع سنين، فلمّا كان ليلة من الليالي أبطأ عنّا و فرش له، فلم يأت كما كان يأتي فاستوحش العيال و ذعروا و دخلنا أمر عظيم من إبطائه. فلمّا كان من الغد أتى الدار و دخل إلى العيال و قصد إلى أمّ أحمد، فقال لها : هات التي أودعك أبي، فصرخت و لطمت وجهها و شقّت جيبها و قالت : مات و اللّه يا سيدي، فكفّها و قال لها : لا تكلّمي بشي‏ء و لا تظهريه حتى يجي‏ء الخبر إلى الوالي ؛ فأخرجت إليه سفطا و ألفي دينار أو أربعة آلاف دينار فدفعت ذلك أجمع إليه دون غيره، و قالت : انّه قال لي فيما بيني و بينه و كانت أثيرة عنده : احتفظي بهذه الوديعة عندك لا تطلعي عليها أحدا حتى أموت فاذا مضيت فمن أتاك من ولدي فطلبها منك فادفعيها إليه و اعلمي انّي قد متّ و قد جاءتني و اللّه علامة سيدي .

فقبض (عليه السلام) ذلك منها و أمرهم بالإمساك جميعا إلى أن ورد الخبر و انصرف فلم يعد لشي‏ء من المبيت كما كان يفعل، فما لبثنا الّا أيّاما يسيرة حتى جاءت الخريطة  بنعيه، فعدّدنا الايّام و تفقّدنا الوقت، فاذا هو قد مات في الوقت الذي فعل أبو الحسن (عليه السلام) ما فعل من تخلّفه عن المبيت و قبضه لما قبض‏  ثم أقام الامام الرضا (عليه السلام) و اهل بيته مأتما لموسى بن جعفر (عليه السلام).

يقول المؤلف : ذكر السيد ابن طاوس (رحمه اللّه) في مصباح الزائر في جملة زيارات الامام موسى الكاظم (عليه السلام) صلواتا عليه تحتوي على فضائل و مناقب و مصائب شتّى حدثت له (عليه السلام) ، من الجدير ذكرها قال : اللهم صلّ على محمد و أهل بيته (الطاهرين) و صلّ على موسى بن جعفر وصيّ الأبرار و امام الأخيار و عيبة الأنوار و وارث السكينة و الوقار و الحكم و الآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر إلى السحر بمواصلة الاستغفار حليف السجدة الطويلة و الدموع الغزيرة و المناجاة الكثيرة و الضراعاة المتّصلة و مقرّ النّهى و العدل و الخير و الفضل و النّدى و البذل و مألف البلوى و الصبر و المضطهد بالظلم و المقبور بالجور و المعذّب في قعر السجون و ظلم المطامير ذي الساق المرضوض بحلق القيود و الجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف و الوارد على جدّه المصطفى و أبيه المرتضى و امّه سيدة النساء بإرث مغصوب و ولاء مسلوب و أمر مغلوب و دم مطلوب و سمّ مشروب اللهم و كما صبر على غليظ المحن و تجرّع غصص الكرب و استسلم لرضاك و أخلص الطاعة لك و محض الخشوع و استشعر الخضوع و عادى البدعة و أهلها و لم يلحقه في شي‏ء من أوامرك و نواهيك لومة لائم، صلّ عليه صلاة نامية منيفة زاكية توجب له بها شفاعة أمم من خلقك و قرون من براياك و بلّغه عنّا تحيّة و سلاما و آتنا من لدنك في مولاته فضلا و إحسانا و مغفرة و رضوانا انّك ذو الفضل العميم و التجاوز العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وردت أحاديث كثيرة انّ زيارته (عليه السلام) كزيارة رسول اللّه  (صلّى اللّه عليه و آله) ، و في رواية انّ زائره كزائر رسول اللّه و أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهما) و في رواية كالذي زار الحسين (عليه السلام) و في رواية انّ من زاره فله الجنة  (سلام اللّه عليه) .

نقل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن أبي علي الخلال انّه قال : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسّلت به الّا سهّل اللّه تعالى لي ما أحبّ‏ .