ترى أي معجزة إلهية ينتظرها المسؤولون في كل من سوريا وفلسطين وليبيا حتى يبدأوا تحركات واعية ومسؤولة لحل قضايا بلادهم الملحة؟
هل يغيب عنهم مثلا أن أوضاع شعوبهم تزداد سوءا لا كل يوم بل كل ساعة، هل لا يعرف أحدهم مثلا ما يعانيه مواطنوه من فقر وجوع ومرض وبرد ويأس؟ أتصور أن كل المشاهد وكل الأماكن في العالم الحديث، بكل ما تدهشنا به ثورة الاتصالات كل يوم، أصبحت واضحة ومتاحة للقاصي والداني، مهما بلغت قدرة الأجهزة والإدارات التي تتفنن في رسم صورة وردية للقيادات عن شعوبها.
لقد فقدت شعوب المنطقة كل ما تبقى من الثقة في حكوماتها وقياداتها، انفصلت تلك القيادات عن الجماهير فلم تعد تصغي لأنينها المتواصل، بل وأصبحت تضجر بشكاواها ومطالبها المشروعة. فلا الشعب السوري يثق بلجنته الدستورية لتضع عقدا اجتماعيا يكون ممرا آمنا نحو السلام والأمن والاستقرار في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2254، ولا الشعب الفلسطيني يثق بقيادته الفلسطينية في استعادة الوحدة الفلسطينية ومجابهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية المتمثلة في “صفقة القرن”، ولا الشعب الليبي يثق بأي من القوى الثلاث في ضمان حماية السيادة الليبية ووحدة التراب الليبي، والحفاظ على ثروات وموارد ليبيا الطبيعية.
لقد ملت هذه الشعوب من الانتظار والوعود، بينما استنفذت القيادات السياسية كل الحجج والأسانيد والأسباب والذرائع، وأصبح واضحا للجميع كيف تتلاعب هذه القوى في مصائر شعوبها، فتضعضعت الثقة في قيادة البلاد، بما في ذلك مؤيدين للرئيس والحكومة، ممن بدأوا يبدون استيائهم بشكل علني. كذلك الحال في المعارضة السورية، بعدما لم تعد الأهالي في مخيمات اللاجئين في الخارج والداخل تثق في قياداتها، بينما يزداد الوضع المعيشي والصحي سوءا يوما بعد يوم. في فلسطين تحمّل غالبية الشعب الفلسطيني القيادة الفلسطينية والتنظيمات الفلسطينية، وليس إسرائيل، مسؤولية ضياع القضية الفلسطينية والمؤامرات المتعاقبة على تصفيتها، حتى أن البيان “التأسيسي الأول” الصادر عن القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية الفلسطينية في 13 من سبتمبر الجاري، والذي دعا إلى “اعتبار يوم 15 أيلول/سبتمبر يوم رفض شعبي انتفاضي داخل فلسطين وخارجها”، و”اعتبار يوم الجمعة 18 أيلول/سبتمبر يوم حداد ترفع فيه الرايات السوداء شجبا لاتفاق أمريكا/إسرائيل/الإمارات/البحرين” مضى دون أي رد فعل. فهل سمعنا صدى شعبيا لتلك الفعاليات، كما عهدنا الشعب الفلسطيني الصامد والقابض على الجمر طوال عقود؟
لقد أصبح واضحا ابتعاد الشعب الفلسطيني عن قياداته، وعدم تجاوبها معه، لكن الغريب أن تجتمع القيادات لتصوغ بيانا يحمل كل هذا القدر من الحماسة والبلاغة والشجب والرفض، دون أن تعي أن الشعب الفلسطيني الذي يستمدون منه شرعية وجودهم، قد فقد ثقته فيهم، ولن يتجاوب مع أي من هذه النداءات الفارغة، طالما ظل الانشقاق الفلسطيني، الذي تتحمل مسؤوليته هذه القيادات ولا أحد دونها، قائما.
في ليبيا، ربما يبدو الوضع أهون من الوضعين السوري والفلسطيني، ذلك أن الظروف سانحة للتوصل إلى اتفاق إذا ما تخلى بضعة أشخاص هنا وهناك عن ارتباطاتهم الخارجية، ومصالحهم الشخصية والمادية الضيقة، وكانت هناك فرصة كبيرة في بداية هذه السنة أثناء المبادرة التي قامت بها موسكو للمصالحة الليبية، عندما دعت الفرقاء الليبيين إلى العاصمة الروسية، لعل الأزمة تنتهي، ويعود السلام والاستقرار للشعب الليبي على أرضه الغنية بالموارد والثروات، التي يمكن أن تكفل لهذا الشعب الاكتفاء والرفاهية، إلا أن الفرصة ضاعت، ولم تتمكن الأطراف الليبية من التوصل إلى اتفاق. اليوم أصبح في كل أسرة ليبية معاق أو شهيد بسبب الحرب والدمار الذي خلفه هذا الصراع الدموي المرير بين الليبيين وبعضهم البعض.
ترى ما الذي ينتظره المسؤولون؟
إن الدورة الحالية لهيئة الأمم المتحدة هي الدورة الخامسة والسبعون. لقد مر 75 عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، الدرس الذي تعلمته البشرية، وأنشأت بسببه هذه الهيئة الجامعة لشعوب الأرض، بغرض الحيلولة دون اندلاع حروب أخرى. بهذا الصدد أود الإشارة إلى أن لكل أزمة من الأزمات سالفة الذكر يوجد قرار واضح وصريح، صادر عن مجلس الأمن، يوضح ما يتعين تنفيذه من كل طرف من الأطراف للتوصل إلى حل لتلك الأزمات. وليس السبب في المعاناة الكارثية لملايين السوريين والفلسطينيين والليبيين الخلافات الإقليمية أو الخلافات الدولية، بل إن العامل المحلي، وأحيانا الشخصي جدا، هو في الأغلب الأعم السبب في استمرار الأزمة، وتدهور الأوضاع. هناك تنازلات وخطوات محددة يتعين على القيادة السورية أو القيادات الليبية اتخاذها، والمسؤول عن ذلك هم أفراد بعينهم، إلا أن هؤلاء لا يرغبون في ذلك لارتباطهم بأولويات أخرى، يضعونها قبل مصائر شعوبهم.
لن تكون هناك عصا سحرية تنفذ القرارات الأممية نيابة عن هؤلاء، وإذا أجرينا إحصائية بسيطة، سنجد أن هناك ما يربو على الألف لقاء على الصعيد الدولي تضمنت جهودا من جميع المختلفين والمتحاربين دون إحراز أي تقدم، وقد لاحظنا في خطابات أغلبية زعماء العالم بمناسبة 75 عاما على تأسيس هيئة الأمم المتحدة، تأكيدهم على ضرورة حل هذه الأزمات وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بها، بل ذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك واقترح توسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، كي يصبح أكثر فعالية.
ربما يكون ذلك بالفعل ضروريا للتوصل إلى آلية أكثر فعالية على مستوى حل القضايا الاستراتيجية الخاصة بالأمن العالمي ومصير البشرية من منظور واسع. إلا أن حل الأزمات السورية والفلسطينية والليبية اليوم بحاجة فورية إلى اتخاذ خطوات محددة معروفة من مسؤولين وقوى سياسية، ما سيؤدي على الفور إلى تحسين أوضاع الشعوب، وتوفير الكهرباء والوقود والعلاج والخبز، والشروع في عملية إعادة بناء البنية التحتية. كفانا تحليلات سياسية وتصريحات صحفية، ودعونا نتخذ قرارات تعبر عن إرادة سياسية واعية مسؤولة وجادة تعلي من شأن الشعوب ومصالحها فوق أي مصالح أخرى شخصية أو إقليمية أو دولية.
إن المجتمع الدولي ممثلا في هيئة الأمم المتحدة على استعداد للمساعدة في تحقيق ذلك والإسهام في عمليات إعادة الإعمار، على الرغم من الوضع الدولي المتوتر والأزمة الاقتصادية الوشيكة، لكن ما ينتظره الجميع هو خطوات مقابلة من قيادات تلك الدول بالدرجة الأولى لإنقاذ الشعوب وتخفيف معاناتها.
وبصراحة شديدة فأنا أعني بهؤلاء الرئيس السوري، بشار الأسد، والمعارضة السورية بجميع مكوناتها، والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والأمناء العامين لجميع التنظيمات الفلسطينية، ورئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، والمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، ورئيس الوزراء في حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج.
نعم أيها الأصدقاء الأعزاء. إن مصير ملايين السوريين والفلسطينيين والليبيين مسؤوليتكم، وبإمكانكم في ظرف ثلاثة أشهر اتخاذ خطوات من شأنها تغيير الأوضاع في بلادكم، وتخفيف المعاناة عن شعوبكم، ولن تستطيع أي قوة في العالم اعتراض جهودكم ما دامت في إطار قرارات هيئة الأمم المتحدة، الطريق الشرعي الوحيد والمعبّد خصيصا لإنقاذ شعوبكم، وإنهاء معاناتهم.
ارحموا شعوبكم يرحمكم الله!