ساسة بوست :
تحت عنوان «مصر والخليج.. حلفاء ومتنافسون»؛
من محمد علي باشا إلى الربيع العربي.. موجز تاريخ العلاقات المصرية – الخليجية
تعود العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين مصر ودول الخليج إلى عهد محمد علي باشا، وجهوده لبسط نفوذه ونشر قوته عبر المنطقة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وفي العصر الحديث، مع قيام ثورة الضباط الأحرار عام 1952، تراوحت العلاقات السياسية المصرية مع دول الخليج بين الصراع والتعاون الوثيق، في حين اصطبغت العلاقات الاقتصادية بسِمات التبعية، التي ارتدت ثوب دعمٍ ماليّ قدمته دول الخليج الغنية بالنفط، والتحويلات المالية التي يرسلها ملايين المصريين العاملين في هذه البلدان.
سياسة
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت مصر هي القوة المهيمنة على المنطقة، لكن ميزان القوى تحوّل لصالح الخليج في السبعينيات؛ حين تعثر الاقتصاد المصري بينما حصدت دول الخليج العربية ثمار ارتفاع أسعار النفط في أعقاب حظر أوبك عام 1973.
وأدت زيارة الرئيس أنور السادات التاريخية إلى القدس عام 1977 إلى مقاطعة سياسية واقتصادية عربية لمصر، ما ألجأها إلى الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى للحصول على الدعم المالي. ثم بدأ خليفة السادات، حسني مبارك، في استعادة العلاقات مع الخليج، وساعده في هذه المهمة صعود الجمهورية الإسلامية الإيرانية بوصفها تهديدًا محتملًا للأمن الإقليمي.
ورسخ مبارك لاحقًا أوراق اعتماده من خلال الجيش المصري الذي قاد المشاركة العربية في حملة عاصفة الصحراء لطرد القوات العراقية من الكويت في عام 1991، وهي المشاركة التي أكسبت مصر مكافآت مالية كبيرة من خلال إلغاء أو إعادة جدولة الديون المصرية المستحقة لدول الخليج العربية (وكذلك الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى).
خلال العقدين الأخيرين من حكم مبارك، ظلت العلاقات بين مصر والخليج في حالة توازن مستقر نسبيًا: إذ أصبحت حاجة مصر للمساعدة المالية أقل حدة، لكن مبارك لم يبذل جهدًا كبيرًا للهيمنة على جدول الأعمال الإقليمي. في تلك الآونة، كانت السعودية مقيَّدة -خلال التسعينيات خاصة- بسبب انخفاض أسعار النفط، في حين صعدت قطر ودبي باعتبارهما لاعبين جديدين طموحين في الخليج.
ثم قامت الانتفاضة الشعبية ضد نظام الرئيس حسني مبارك في عام 2011، وأثارت ردود فعل متباينة في الخليج: فبينما أعرب قادة السعودية والإمارات عن قلقهم من مخاطر انتقال حركة التغيير الثوري إلى بلادهم، رأت قطر أنها فرصة لتعزيز دورها الإقليمي من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين.
على نطاق أوسع في المنطقة، كان هناك تمييز حاد بين مقاربات قطر من جهة، والسعودية والإمارات، من جهة أخرى. إذ رأت قطر فرصة للاستفادة من استراتيجيتها الداعمة للإخوان المسلمين والمجموعات المرتبطة بها باعتبارها نماذج لدمج الإسلام السياسي مع الديمقراطية التمثيلية. وأصبحت الدوحة نقطة جذب للجماعات الإسلامية التي تسعى للحصول على التمويل، أو الدعم العسكري كما في حالتي سوريا وليبيا.
على الجانب الآخر، داخل شبه الجزيرة العربية، تحركت السعودية والإمارات بسرعة لقمع حركة الاحتجاج في البحرين، ودعم مجلس التعاون الخليجي الجهود الرامية لرسم خارطة الانتقال السياسي في اليمن بعد سقوط الرئيس علي عبد الله صالح.
صعود السيسي دشن عهدًا جديدًا من العلاقات بين مصر والخليج
يقول التقرير أنه حين أزاح قائد الجيش، عبد الفتاح السيسي، الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، عن سدة الحكم قسريًا، في يوليو (تموز) 2013؛ كان ذلك إيذانًا ببزوغ شمس عهدٍ جديدٍ في العلاقات بين مصر والخليج.
سرعان ما حشدت الإمارات والسعودية والكويت الدعم المالي للإدارة الجديدة. وأظهر ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، المعروف بمعارضته الشديدة للإخوان المسلمين، دعمه القوي للنظام الجديد من خلال زيارةٍ قام بها إلى القاهرة بعد أسابيع فقط من مقتل المئات من أنصار مرسي.
وفي عهد السيسي، استفادت مصر من علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج في مجموعة واسعة من الأنشطة. وتعد الإمارات والسعودية على وجه الخصوص أسواق تصدير ذات أهمية متزايدة للشركات المصرية، وكذلك مصادر رئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر. بين يوليو 2013 وأغسطس (آب) 2016، قدمت الإمارات والسعودية والكويت حوالي 30 مليار دولار مساعدةً لنظام السيسي، من خلال ودائع لدى البنك المركزي المصري، وتوريد المنتجات البترولية كمنح.
كما أسهمت المساعدة المالية التي قدمها حلفاء السيسي الخليجيون في 2013– 2016 في تعزيز الطفرة التي شهدتها مصر في شراء الأسلحة. وهناك عنصر حاسم آخر في هذه العلاقة الاقتصادية هو: وجود الملايين من العمال المصريين المغتربين في الخليج، الذين يضخون في شرايين الاقتصاد المصري تحويلات بحوالي 25 مليار دولار سنويًا.
علاقات مصرية متباينة مع دول الخليج العربية
تلفت الورقة إلى أن علاقة السيسي الخاصة بالخليج ترجع إلى فترة خدمته كمُلحق دفاعي في السفارة المصرية بالرياض خلال الفترة الأخيرة من عهد مبارك، قبل استدعائه إلى القاهرة في أوائل فبراير (شباط) 2011 لتولي منصب رئيس المخابرات العسكرية، بدلًا من مراد موافي، الذي تولى بدوره رئاسة جهاز المخابرات العامة خلفًا لعمر سليمان، أحد أقرب مساعدي مبارك. وجزءًا من هذه الترقية، أصبح السيسي عضوًا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي حكم مصر حتى تولي مرسي الرئاسة في نهاية المطاف.
ثم تأثرت العلاقات مع السعودية بوفاة الملك عبد الله في بداية عام 2015، وبصعود محمد بن سلمان لاحقًا باعتباره الشخصية الأكثر نفوذًا في المملكة. وخلال زيارة قام بها خليفة الملك عبد الله على عرش السعودية، الملك سلمان، إلى القاهرة في أبريل (نيسان) 2016، أعلنت مصر قرارها بالتنازل عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير المطلتين على البحر الأحمر، إلى المملكة العربية السعودية.
وتوترت العلاقات بعد الطعن على هذا القرار أمام المحاكم المصرية، ولكن في النهاية وضعت الأزمة أوزارها ومُرِّرَت الصفقة. ولم تضطلع مصر بأي دور نشط في التدخل الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن، لكنها انضمت إلى حليفيها الخليجيين الرئيسيين بالإضافة إلى البحرين في فرض عقوبات على قطر في منتصف عام 2017.
عام
فيما ظلت العلاقات بين السيسي وولي العهد محمد بن زايد وثيقة طوال السنوات السبع الماضية. وكانت الإمارات ومصر من بين أهم الداعمين الخارجيين لما يعرف بالجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، على الرغم من أنهما لم يدشنا تحالفًا علنيًا في هذه الساحة. وبينما تبنت مصر نهجًا دبلوماسيًا تجاه ليبيا، انخرطت الإمارات عسكريًّا، وكلا البلدين يجتمعان على كراهية الإخوان المسلمين.
فيما يتعلق بالدول الأربع الأخرى الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، قدمت مصر الدعم للعقوبات التي فرضتها السعودية والإمارات على قطر، ولكن دون اتخاذ أي إجراء من شأنه المخاطرة بمصالحها الخاصة، فيما سعت في الوقت ذاته إلى تطوير علاقات قوية ومستقلة مع عمان والكويت والبحرين.
اقتصاد مصر الآن أقوى مما كان عليه في عام 2013.. ولكن!
سعت الإمارات إلى ربط مساعداتها ببرنامج للإصلاحات الاقتصادية، لكن الحكومة المصرية قررت أخيرًا في منتصف عام 2016 التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار. ومنذ التوقيع على هذا القرض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، لم تعد مصر تعتمد على الدعم المالي المقدم من دول الخليج العربية، وإن أجلت تلك الدول سداد بعض ودائعها حين حل أوانها.
وبعد الانتهاء من برنامج صندوق النقد الدولي في عام 2019، أصبح الاقتصاد المصري في وضع أقوى بكثير مما كان عليه خلال الفترة المبكرة من حكم السيسي، على الرغم من أن هذا ألحق خسائر فادحة بـ60% من السكان الذين صنفهم البنك الدولي بأنهم فقراء أو معرضون لخطر الفقر.
تؤكد الورقة أن الاقتصاد المصري الآن في وضع أقوى بكثير مما كان عليه منذ استولى السيسي على السلطة في عام 2013. ولم تعد هناك حاجة ملحة للدعم المالي المباشر من دول الخليج، لكن مصر لا تزال تعتمد على العلاقات الاقتصادية مع حلفائها الخليجيين من ناحية التجارة والاستثمار والسياحة والتحويلات.
فيما وطَّد السيسي أركان حكمه، وأرسى الأساس للبقاء في السلطة حتى عام 2030، من خلال تعديل الدستور. ويسعى لبسط نفوذ مصر على مستوى العالم العربي وأفريقيا وما وراءهما في عدة مجالات من بينها القوة العسكرية والطاقة والتجارة وحتى الرعاية الصحية. لا تتعارض هذه الطموحات، في حد ذاتها، مع تطلعات السعودية والإمارات لبسط نفوذهما ونشر قوتهما، ولكن هناك هامش من المنافسة يصبغ العلاقات بين مصر وهاتين القوتين الخليجيتين المهيمنتين.
على هذا النحو، مال ميزان القوى بدرجةٍ طفيفة لصالح مصر. ومع ذلك، لا تزال مصر تعاني من التناقضات السياسية الداخلية العميقة، كما يتجلى في اعتماد النظام الشديد على الإكراه والقمع، كما لا يزال الاقتصاد عرضة للصدمات الخارجية، التي جسدت جائحة فيروس كورونا أبرز مثال عليها.
ديون في رقبة السيسي لداعميه الخليجيين
تقول الورقة: إن التمرد ضد مرسي نظمته شخصيات على صلة بالجيش المصري، وبدرجات متفاوتة، كانت مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات والسعودية، على أساس مخاوفهم العميقة من أن يتولى الإخوان المسلمون مسؤولية قوة إقليمية مهمة مثل مصر.
ورصدت الورقة بالتفصيل أنواع الدعم الذي قدمته دول الخليج لمصر في عهد السيسي على النحو التالي:
المصدر: البنك المركزي المصري (2013)
وفيما يلي الودائع طويلة الأجل لدى البنك المركزي المصري (بالمليار دولار):
كان لهذه الودائع الخليجية دور كبير في زيادة إجمالي ديون مصر الخارجية إلى 106 مليار دولار بحلول مارس 2019، مقارنة بـ43 مليار دولار في يونيو 2013. ومع ذلك، لا تصنف هذه الودائع باعتبارها جزءًا من الدين العام للحكومة (المكون الخارجي منها يبلغ حوالي 50 مليار دولار)، وفقًا لتعريف وزارة المالية.
منح بترولية خليجية مكثفة خلال أول عامين بعد إزاحة مرسي
المصدر الرئيسي الآخر للمساعدات الموثقة التي قدمتها دول الخليج لإدارة السيسي هي: المنح البترولية، التي تدفق الجزء الأكبر منها خلال العامين التاليين مباشرة لإزاحة مرسي. ففي السنة المالية 2013/2014 (يوليو – يونيو)، بلغ إجمالي هذه المنح 95.9 مليار جنيه مصري (13.7 مليار دولار بسعر الصرف آنذاك)، وفي العام التالي بلغت 25.4 مليار جنيه مصري (3.4 مليار دولار).
ثم انخفضت قيمة المنح انخفاضًا حادًا بعد ذلك، مع تحول تمويل إمدادات الوقود إلى ائتمانات الموردين، على الرغم من وجود زيادة إلى 17.7 مليار جنيه مصري (حوالي مليار دولار وفقًا لمتوسط سعر الصرف بعد تخفيض قيمة العملة) خلال 2016/2017، بسبب المنح النقدية الإماراتية لتمويل مشاريع استثمارية، بحسب وزارة المالية.
وسعى المسؤولون المصريون إلى التقليل من شأن تحذيرات أثيرت حول سعي الإمارات لفرض نوع من برنامج ظل اقتصادي على غرار صندوق النقد الدولي. لكن الودائع والمنح التي قدمتها الدول الخليجية خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الإطاحة بمرسي أتاحت لمصر فرصة لالتقاط أنفاسها، ودعمت كل المحاولات العبثية للدفاع عن سعر صرف مبالغ فيه.
المساعدات الخليجية لم تغن مصر عن الاقتراض الدولي
وبلغ احتياطي مصر من العملات الأجنبية 11.2 مليار دولار في يونيو 2013، عشية انقلاب السيسي (بعد أن انخفض إلى أقل بقليل من تسعة مليارات دولار في وقت سابق من ذلك العام، قبل أن تتدخل قطر بآخر شريحة من مساعدتها). الدفعة الأولى من الودائع التي قدمتها دول الخليج خلال فترة ما بعد مرسي رفعت الاحتياطيات إلى حوالي 15 مليار دولار، لكن هذه الاحتياطيات تراجعت إلى 11.6 مليار دولار في نهاية عام 2014.
ثم جاءت دفعة أخرى من الودائع لتزيد الاحتياطيات إلى 16 مليار دولار بحلول أبريل 2015، ولكنها تراجعت مرة أخرى إلى 11 مليار دولار خلال 12 شهرًا. وبحلول منتصف عام 2016، خلص السيسي ومحافظ مصرفه المركزي، طارق عامر، إلى أنه ليس أمام مصر من خيار سوى طلب الدعم من صندوق النقد الدولي.
الاستثمار والأسلحة والتجارة والتحويلات
الأشكال الرئيسية الأخرى للدعم الذي قدمته الدول الخليجية إلى الاقتصاد المصري هي: الاستثمار وتمويل شراء الأسلحة والتجارة والتحويلات والسياحة. ففي عهد السيسي، حدثت زيادة كبيرة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر من الإمارات والسعودية، وفقًا للأرقام التي نشرها البنك المركزي المصري. وبينما انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر القادمة من قطر انخفاضًا طفيفًا، إلا أنه لم تكن هناك عمليات تصفية رئيسية.
وشهد إنفاق مصر على شراء الأسلحة زيادة كبيرة، على الرغم من عدم وجود أدلة معلنة على أن حلفاء السيسي في الخليج هم الذين موَّلوا هذه الصفقات. كما تعد السعودية والإمارات من أكبر الشركاء التجاريين لمصر، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى مبيعات النفط والمنتجات البترولية إلى مصر، وأيضًا زيادة الصادرات المصرية إلى الإمارات على وجه الخصوص.
ما يقرب من نصف المصريين المسجلين كمغتربين في تعداد عام 2017 (الأحدث)، ويبلغ عددهم 9.5 مليون، يعيشون في الخليج، ويرسلون جزءًا كبيرًا من التحويلات الخارجية. وبلغ متوسط هذه التحويلات أكثر من 20 مليار دولار سنويًا على مدار السنوات الخمس الماضية، وهو ما يمثل ربع إجمالي معاملات الحساب الجاري تقريبًا.
وتقدم دول الخليج مساهمة أخرى في عائدات النقد الأجنبي المصري من خلال السياحة، إذ يمثل الزائرون من الشرق الأوسط (معظمهم من دول الخليج العربية) حوالي خمس إجمالي عدد السائحين الوافدين لمصر. غير أن تدفقات النقد الأجنبي من المرجح أن تتأثر في عام 2020، نتيجة كوفيد-19، فيما يظل توقيت العودة إلى الوضع الطبيعي نسبيًا غير واضح.
مصالح ومنافسات استراتيجية أوسع نطاقًا بين مصر والخليج
الدعم المالي السخي الذي قدمته دول الخليج لإدارة السيسي والعلاقات الاقتصادية الوثيقة والمتعددة الطبقات بين مصر والخليج هي جزء من علاقة استراتيجية أوسع تشمل المصالح المشتركة والمتضاربة، بحسب الورقة البحثية.
وحكام مصر منذ أيام محمد علي باشا لديهم شعور قوي بالأهمية الجيوسياسية لبلدهم. ومع ذلك، فإن جهود مصر لبسط نفوذها خارج حدودها تميل إلى أن تنتهي بالفشل المكلف، كما يقول الباحث. وبينما خدمت القومية التي تبناها القادة المعاصرون الهدف الأساسي المتمثل في تعزيز السلطة والامتياز في الداخل، لكنها لم توفر الأساس للتوسع نحو الخارج.
من اليمين: عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، خالد الخليفة وزير خارجية البحرين، سامح شكري وزير الخارجية المصري، عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية الإماراتي – المنامة – البحرين 2017
أما شهية دول الخليج العربي لبسط النفوذ فكانت حديثة نسبيًا، وواكبت الطفرة النفطية بعد عام 1973. كما تأثر نفوذ مصر إزاء دول الخليج العربي بالمصالح الإقليمية للجهات الخارجية، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (ومؤخرًا روسيا) وأوروبا والصين، فضلًا عن تصرفات القوى الإقليمية، مثل إسرائيل وإيران والعراق وسوريا وليبيا وإثيوبيا.
منذ السبعينيات سعت مصر للاستفادة من أهميتها الجيوستراتيجية للحصول على الدعم المالي. وكان هذا واضحًا في مبادرات الرئيس السادات للسلام مع إسرائيل، والتي كوفئت بمليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية (على الرغم من أن المكون العسكري كان سلاحًا ذا حدين، إذ قُدِّم في البداية على شكل قروض أصبحت عبئًا ثقيلًا عندما ارتفعت أسعار الفائدة في الثمانينيات).
وكان المانحون الخليجيون يرون أن انهيار الاقتصاد المصري لا يصب في مصلحتهم، بسبب مخاطر زعزعة الاستقرار الإقليمي، فيما نظرت الإمارات خاصة بقلق إلى احتمال أن ترسخ جماعة الإخوان المسلمين سيطرتها على مصر.
وفي الوقت نفسه، كان هناك التزام ضمني بأن القوات المسلحة المصرية ستكون مستعدة للتدخل إذا واجهت أي دولة خليجية تهديدًا أمنيًا ملحًا، على الرغم من أن هذه الفرضية نادرًا ما خضعت للاختبار. وبعيدًا عن استعراض القوة الرمزي الذي أظهرته البحرية المصرية، لم يكن هناك أي دليل على أي مساهمة عسكرية كبيرة لمصر في الحملة التي تقودها السعودية والإمارات في اليمن.
تدخل محتوم في ليبيا ونأي بالنفس عن التوترات مع إيران
في ليبيا، مارست مصر دورًا أكثر نشاطًا، في ضوء التهديد الأمني الذي تشكله الجماعات الإسلامية في المنطقة الحدودية، بما في ذلك عدد من القادة الجهاديين المصريين. لكن مصر، لأسباب جغرافية، ليس لديها خيار سوى مواصلة انخراطها في الشأن الليبي، ولكن يبدو أن السيسي مقتنع على نحو متزايد بأن هذا يجب أن يكون انخراطًا متعدد الأطراف.
ولم تُظهِر مصر أي رغبة في التورط في التوترات بين دول الخليج العربية المهيمنة وإيران. وفي أبريل 2019، انسحبت مصر من مبادرة تقودها الولايات المتحدة لتشكيل تحالف أمني في الشرق الأوسط يهدف إلى احتواء إيران، معربة عن شكوكها بشأن جديته ومخاوفها بشأن مخاطر تصعيد التوترات مع إيران.
موقف مصر الفريد من الحصار السعودي-الإماراتي على قطر
كانت مشاركة مصر في حصار قطر متسقة مع استراتيجية السيسي للتوافق مع القوتين الصاعدتين في المنطقة، مع قاسم مشترك هو: معارضة الإخوان المسلمين. ومع ذلك، فمن المشكوك فيه أن يكون للسيسي أي مساهمة كبيرة في قرار تصعيد النزاع إلى هذا المستوى.
بل كان انضمام مصر إلى الحصار ينطوي على بعض المخاطر. صحيح أن مصر لم تعد تعتمد على المساعدات المالية القطرية، لكن لا يزال هناك 250 ألف مصري يعملون في قطر ساهموا بنصيب كبير في تدفق التحويلات، وأي تحرك من قطر لاستعادة استثماراتها في مصر كان سيلقى كثيرًا من العراقيل.
لكن سرعان ما اتضح أنه لا مصر ولا قطر مهتمة بتفاقم الوضع. إذ قدمت قطر تأكيدات بشأن وضع العمال المصريين، وفي المقابل أكد محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر عدم تأثر أكبر استثمار قطري في مصر، وهو حصتها في بنك كيو إن بي الأهلي. كما اضطرت قطر ومصر إلى مواصلة التعاون بشأن غزة، وتقاسم عبء إدارة الأزمات الأمنية المتتالية في القطاع.
الآفاق المستقبلية للتحالف بين السيسي ودول الخليج
تقول الورقة: لا تزال العديد من المشكلات التي شكلت أساس التحالف، الذي تطور بين مصر والسعودية والإمارات منذ عام 2013، قائمة حتى اليوم، ولكن تغير السياق السياسي والاقتصادي في عدد من النواحي الحاسمة.
ومصداقية استخدام فزاعة عودة الإخوان المسلمين ذريعةً لاستمرار قمع الحقوق السياسية وحقوق الإنسان داخل مصر والتدخلات العسكرية في جميع أنحاء المنطقة بدأت تتلاشى. وأصبحت دول الخليج العربية منشغلة أكثر الآن بالتعامل مع عواقب حملة «الضغط الأقصى» التي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران، إلى جانب التدخلات السياسية المتزايدة التي يقوم بها الرئيس الأمريكي.
وفي حين أن السيسي وحلفاءه الخليجيين ربما شعروا ببعض الاطمئنان الناتج عن احتمالية استمرار ترامب في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، فإن أي ثقة في قيمة علاقاتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة اهتزت الآن، وسيكون من الصعب استعادة هذه الثقة، بغض النظر عمن سيكون في البيت الأبيض بعد انتخابات 2020. وقد يعزز ذلك إرادة هذه الدول العربية البارزة الثلاث للعمل معًا لحل المشكلات الإقليمية، دون الرجوع إلى الولايات المتحدة أو القوى الخارجية الأخرى.
ويطرح الصراع السوري والتوترات المتزايدة مع إيران في الخليج تحديات أكبر. صحيح أن السعودية تخلت منذ فترة طويلة عن أي دور نشط في دعم معارضي نظام الأسد، لكن مشاركتها السابقة في تمويل وتسليح بعض الجماعات المتمردة يمكن أن تحرمها من قيادة أي تحركات للمصالحة مع الرئيس السوري.
في المقابل، حافظت مصر، في عهد السيسي، على موقف محايد تجاه سوريا، واستضافت في عدة مناسبات علي مملوك، مسؤول المخابرات السورية الذي ترقى مؤخرًا إلى منصب نائب الرئيس للشؤون الأمنية. وبالمثل، لم تلعب الإمارات دورًا نشطًا في الصراع السوري، ويسعى عدد من مجموعات الأعمال الإماراتية حاليًا للحصول على فرص استثمار في سوريا.
يلفت الباحث إلى أن السيسي طور علاقة وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي العلاقة التي يمكن أن تمهد الطريق أمام نهج روسي – عربي أوسع لحل الصراع السوري. غير أن ذلك قد يتطلب التعامل مع أصحاب المصلحة الآخرين، ولا سيما تركيا وإيران.
وتعتمد فرص نجاح مثل هذا النهج على استعداد دول الخليج العربية لتوفير التمويل المطلوب. وفي حين أن السعودية والكويت والإمارات مساهمين رئيسيين في المساعدات الإنسانية التي تنسق الأمم المتحدة تدفقها إلى سوريا ووصولها إلى اللاجئين حول حدودها، فإنهم قد يرفضون تقديم الدعم المالي المباشر لنظام الأسد. كما يبدو أنه لا توجد شهية لدى مصر أو شركائها في الخليج للتفكير في أي نوع من الانتشار العسكري لحفظ السلام في سوريا.
سياسة
تضيف الورقة: قد تكون مصر تضم أكبر عدد من السكان بين الدول العربية، ويمكن القول بأن لديها أقوى القوات المسلحة، بيد أن ضعفها الاقتصادي قوض قدرتها على بسط قوتها ونفوذها. لكن قد تتاح لمصر الآن فرصة لترجيح كفة الميزان لصالحها، بينما بدأت محاولات السعودية والإمارات للهيمنة الإقليمية في الانهيار، ولأن مصر، في الوقت الحالي على الأقل، لم تعد تعتمد بشدة على المساعدات المالية الخارجية.
ومع ذلك، فإن البريق الإيجابي الذي يشع من الأداء الاقتصادي في مصر، كما يتجلى في مؤشرات مثل: نمو الناتج المحلي الإجمالي القوي والفائض الأساسي في الميزانية وازدهار احتياطي العملات الأجنبية وانخفاض التضخم والبطالة، إنما تقابله الحقيقة القاسية المتمثلة في ارتفاع الفقر بشدة على مدى العقد الماضي، والنظر لإدارة السيسي على نطاق واسع على أنها فاسدة وقمعية بدرجة مخيفة.
من المحتمل أيضًا أن يؤدي تأثير جائحة كوفيد-19 إلى الضغط على الاقتصاد المصري حتى ترفع القيود المفروضة على السفر وتعود الحياة اليومية إلى طبيعتها في جميع أنحاء المنطقة (وخارجها).
وتختم الورقة بالقول: لا يمكن استبعاد المزيد من التشنجات السياسية في مصر، بأي حال من الأحوال، وفي حالة حدوث أزمة سياسية جديدة، من المتوقع أن تكون دول الخليج العربية على أهبة الاستعداد لإنقاذ الاقتصاد.