"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

لا تضامن ولا شنجن.. هل يكتب كورونا شهادة وفاة الاتحاد الأوروبي؟

لم يتوقع أشد المتشائمين بشأن مستقبل التكامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في أوروبا أن تتسبب أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في تهديد ما تبقى من آمال الحفاظ على الاتحاد من التفكك، بعد خروج بريطانيا منه نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.

ورغم أن تفشي الفيروس في القارة العجوز كان من المفترض أن يوفر فرصة لتدعيم التكامل بين الدول الأوروبية، لكن الواقع أن دول الاتحاد سارعت إلى تبني إجراءات يطغى عليها طابع الحمائية أكثر من التكاملية، وسط توقعات بتكرار تجربة الخروج من الاتحاد في عدد من الدول المتضررة بشدة من الوباء، خاصة إيطاليا.

وفي مواجهة تفشي الوباء، اتخذت دول الاتحاد الأوروبي إجراءات تتنافى مع الأسس الرئيسية التي قام عليها الكيان الأوروبي الموحد، مثل الغلق الكلي للحدود، الذي بدأ من إيطاليا وأسبانيا ثم ألمانيا والدنمارك والنمسا والتشيك وسلوفينيا، في تعارض فاضحٍ مع اتفاقية شنجن.

وإذا كانت الضرورة الصحية فرضت هذا الإغلاق، فإن تطبيقه دون سياسات صحية مشتركة لعموم الاتحاد الأوروبي، وفي غياب واضح للتضامن والتنسيق في التعامل مع الأزمة أعاد التشكيك في جدوى مشروع الاتحاد إلى صدارة التناول الإعلامي، خاصة في الصحف وقنوات التلفزة المدعومة من تيارات اليمين الشعبوي.

وعبر رئيس الحزب الشعبي الأوروبي، والرئيس السابق للمجلس الأوروبي “دونالد توسك” عن هذا الشعور بوضوح في مقابلة مع صحيفة “جازيتا فيبورتشا” البولندية، حيث ندد بما سماه “السلوك القومي” الذي تتبعه دول الاتحاد الأوروبي في مكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد.

وفي هذا الإطار تساءلت المحللة “أولغا سلابادا” حول ما إذا كان وباء كورونا تحول إلى تمرين عالمي على ضبط حدود البلدان وسكانها وتجريدهم من حرية التنقل، وعواقب ذلك بعد تراجع النشاط التجاري في الصين، وما نجم عن ذلك من نقص في السلع والمعدات والمكونات في بلدان أخرى، وتعرض قطاع السياحة لضربة كبيرة، متوقعة أن لا تمثل انحسار تفشي وباء كورونا نهاية للمشاكل، في ظل عالم “بدأ في التغير بالفعل”، وفقا لما أوردته صحيفة “سفوبودنايا بريسا” الروسية.

ويرى عضو مجلس العموم الروسي “ألكسندر مالكيفيتش” أن إغلاق الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي، ومنع حرية تنقل الأشخاص فيما بينها، مؤشر رئيس للتغير الذي تحدثت عنه “سلابادا”، باعتبار أن فتح الحدود كان الإنجاز الرئيسي لأوروبا الموحدة.

تضامن زائف

غير أن غياب التضامن بين دول الاتحاد مثل المؤشر الأعمق لهذا التغير في الحقيقة، وهو ما كشفته بوضوح القضية التي فجرتها صحيفة “لاريبابليكا” الإيطالية حول مصادرة جمهورية التشيك مئات آلاف معدات الوقاية الطبية وأجهزة التنفس التي أرسلتها الصين هبة لإيطاليا.

فالبلدان العضوان بالاتحاد الأوروبي يتصارعان على المنح الصينية، خاصة أن معدل الإصابات والوفيات في إيطاليا جراء تفشي كورونا يتفاقم يومياً ولا قبل لمستشفيات البلاد ومواردها الطبية بمواجهة حجم الإصابات اليومي.

وبينما تذرّعت السلطات التشيكية بأن شحنة المعدات الطبية صودرت من مضاربين سعوا إلى بيعها بأسعار باهظة، أظهر الباحث التشيكي “لوكاس ليف سيرفينكا” أدلة تدحض تلك الرواية عبر موقع صحيفة “لو فيجارو” الفرنسية.

وأكد “سيرفينكا” وجود صناديق مختومة بالأعلام الإيطالية والصينية على متن شاحنات شرطة الجمارك التشيكية، مع كتابات باللغة الإيطالية، مشيرا إلى أن ذلك يعني أن “المساعدات الإنسانية الصينية كانت ذاهبة لإيطاليا دون شك”.

في البداية، نفت الحكومة التشيكية تلك المعلومات، لكن الأمر انتهى باعترافها بالحقيقة، مدعية أن شحنة المواد الطبية جاءت عبر الصليب الأحمر من مقاطعة تشنجيانج الصينية متجهة إلى إيطاليا، دون تحديد كيف انتهى بها الأمر على الأراضي التشيكية.

وتزامن ذلك مع مصادرة ألمانيا شحنة ثانية بأكثر من 800 ألف قناع طبي ومستلزمات أخرى كانت متوجهة إلى إيطاليا، وثالثة مماثلة إلى سويسرا والنمسا، الأمر الذي أصاب مسؤولي البلدين الأخيرين بالضيق الشديد، في ظل معاناة الدول الأوروبية من نقص في الكمامات والسترات الواقية وأجهزة التنفس التي تستخدمها الطواقم الطبية، وفقا لما أوردته وكالة “بلومبرع”.

وفي مقابل ذلك، استقبلت إيطاليا طائرات شحن عسكرية روسية تحمل مؤناً طبية وفرقة كاملة من عشرات الأطباء تواجهوا إلى إقليم لومباردي الموبوء، كما أرسلت الصين طائرة تحمل 31 طناً من الإمدادات الطبية إلى البلاد، ما دفع الإيطاليين للتساؤل عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن حقيقة التضامن الأوروبي والغربي، في حين نشر بعضهم مقاطع فيديو أعلام الاتحاد الأوروبي لصالح أعلام روسيا والصين.

وانتقلت الاستجابة الشعبوية في إيطاليا إلى “ماتيو سالفيني”، السياسي اليميني المتطرف، ونائب رئيس الوزراء السابق، الذي عقب على التطورات الأخيرة قائلا: “عندما يكون الآخرون في شدة فعلى إيطاليا أن تدفع، أما إذا وقعت إيطاليا في شدة فإنهم يغلقون حدودهم ومحافظ أموالهم”.

ولذا يرى الكاتب والمحلل السياسي “دوغ باندو” أنّه لا يُمكن أن يعتمد الأوروبيون على بعضهم في المستقبل، لا سيما بعدما حصل مع إيطاليا، وتخلّي الجميع عنها، ما يهدّد مبدأ التضامن بين دول الإتحاد الأوروبي، مبديا تخوفه من أن “يقتل كورونا الاتحاد”، وفقا لما أوردته مجلة “ناشيونال إنترست”.

وبإضافة أن أزمة كورونا تمثل ثالث خذلان أوروبي لإيطاليا، التي سبق أن تُركت بمفردها أيضا خلال أزمة منطقة اليورو (أزمة الديون السيادية الأوروبية) ثم أزمة المهاجرين بين عامي 2015 و2016، يمكن قراءة مدى عمق الصدع الذي تجدد بين روما وبروكسل، حسب تقدير المحلّلة في معهد روما للشؤون الدولية “ناتالي توسي”.

ولا يمثل ذلك تهديدا لبقاء إيطاليا ضمن التكتل الأوروبي فحسب، بل لمشروع الاتحاد بأكمله. على سبيل المثال، وعلى الرغم من أن صربيا لازالت في طور المفاوضات للانضمام إلى الاتحاد، إلا أن رئيسها “ألكسندر فوتشيتش” شن هجوما غير مسبوق علىه في كلمته لشعبه حول تفشي وباء كورونا، قائلاً: “التضامن الأوروبي غير موجود، كان كل هذا قصة خرافية على الورق”.

واعتبر “فوتشيتش” أن “البلد الوحيد الصديق فعلاً هو الصين في وقت أكدت فيه رئيسة المفوضية الأوروبية أعلنت أنه غير مسموح لنا باستيراد المعدات الطبية من الاتحاد الأوروبي”.

خطر اقتصادي

ويشكل الفقدان المتوقع للإيطاليين لإيمانهم بمشروع الاتحاد الأوروبي خطرا كبيرا على مستقبل الاتحاد، باعتبار أن روما تمتلك رابع أكبر اقتصاد في أوروبا، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلاد حوالي 2.1 تريليون دولار، أي بما يفوق الناتج المحلي الإجمالي لروسيا.

في ضوء ذلك، تبدو منطقة اليورو مقبلة على تحد صعب، خاصة نع عجز المصارف في الاتحاد الأوروبي عن إنقاذ إيطاليا، التي بالأصل كانت على خلاف مع الأعضاء المسيطرين على الاتحاد، لا سيما ألمانيا وفرنسا، وتواجه مؤخرا أزمةً أخرى تتمثّل في تراكم ديونها السياديّة، وتراجع الصناعة والنمو، حسبما أشار “توني باربر” في مقالٍ نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز”.

ويبقى الوجه الآخر للتحدي الاقتصادي الذي خلفته أزمة كورونا هو الاحتمال المتزايد لقيان الصين باستغلال الأزمة لفرض نفوذها في أوروبا عموما، وفي إيطاليا خصوصا، في ظل حالة “امتنان شعبي” لمساعدات بكين، وسخط على “الخذلان” الأوروبي والأمريكي.

فعلى سبيل المثال، اقترحت شركة “هواوي” الصينية العملاقة تقديم المساعدة إلى إيطاليا في القطاع الصحي من خلال إتاحة خدمات تكنولوجيا المعلومات، بما يعني أن الشركات الصينية ليست مجرد جهات فاعلة اقتصادية، وإنما هي ملزمة أيضا بالمساهمة في المصلحة والاستراتيجية الوطنية، بحسب تقرير نشرته صحيفة “الكافي جيوبوليتيكو” الإيطالية.

في ظل هذا الانهيار السياسي والاقتصادي المتوقع، تبدو أوروبا مقبلة على انهيار أيديولوجي أيضا بسبب تأكيد الفيلسوف الفرنسي “ميشيل أونفري”.

ويشير “أونفري”، الذي يعد امتدادا لفلاسفة ما بعد الحداثة بفرنسا، لى أن صورة خذلان أوروبا لإيطاليا ليست سوى قطعة من صورة أكبر ناتجة عن السياسة الليبرالية “التي تبرر وضع كبار السن في ممرات المستشفيات وتركهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وتلقي بالفرق الطبية في ساحة حرب دون أن توفر لها أدت برد الأذي”.

ونتيجة لذلك، يرى “أونفري” أن كورونا لن يكون هو السبب في سقوط الاتحاد الأوروبي، ولكنه يظهر الطرق التي يسلكها هذا السقوط الذي بدأ فعليا، حسب رأيه.

المصدر | الخليج الجديد