"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

الرؤية التاريخية في القصص القرآني

ابنا :

بقلم : د . داود  سليمان خلف :

وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـــ ابنا ــالقصص في اللغة ، اتباع الاثر وقيل القاص يقص القصة لاتباعه خبراً بعد خبر وسوقه الكلام سوقاً ([1]) .

والقرآن الكريم .. كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. هو القول الفصل في كل ما يريد الله وما لا يريده ، وهو الحقيقة الفاصلة الحاسمة التي لا يرقى اليها الشك ([2]) . وقد احتوى كثير من قصص الانبياء وقصص الاقوام التي خلت . قال تعالى : ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ([3]) . وان كلمات القرآن الكريم منفردة بذاتها وبخصائصها لا تستطيع ان تغير كلمة او تبدل عبارة او تقدم جملة ، فكل كلمة تمسك بالأخرى … حتى الحرف لا يأتي في القرآن الا لضرورة ولا يمكنك ان ترفع حرفاً من مكانه او تستبدله بحرف اخر ([4]) .

“ان القرآن بدون شك ، ادخل بقصصه التاريخية المسوقة للعبرة فناً من الفنون الجديدة في الادب العربي كفن القصة . وكانت قصصه … مستفيضة ملمة بالاحداث الى ابعد مداها من الكمال حتى لقد استوعب بعض السور الكبرى كسورة يوسف ، او جاء نبذا متفرقا من خلال بعض السور ، كقصة ادم وابراهيم وموسى وعيسى ، او جاء باشارات والمامات حملت جمهور المتخصصين بتلك القصة على الرجوع الى كتاب العهد القديم، كقصص يعقوب وانبياء بني اسرائيل” ([5]) .

ان عرض القصص القرآني في سرد مختصر حيناً او المامات في اماكن متفرقة لم يكن بقصد الابهام بل كان حكمة ربانية هدفت الى تحفيز العقل الانساني للانتقال عبر المساحة المكانية والبعد الزماني الذي مثلته هذه القصص ، لاستنتاج العبرة من الهدف الذي هدفت لتحقيقه غاية ايرادها ، كذلك التقصي والبحث الدائم اذ ان كتاب الله الكريم كان خاتمة الكتب السماوية فهو بذلك باق بقاء الزمان والمكان منهلا للفكر الانساني وصولا للسعادة الابدية ، قال تعالى :﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ([6]) .

وان مفردة القص الواردة في ثنايا هذه الآية ترسخ معنى الرؤية التاريخية فالقص في كتاب الله العزيز جاء تتويجاً لتجربة انسانية والهية اكيدة والا ما كان كتاب الله العزيز يؤكد معانيها في كثير من سوره وآياته ، و يسرد لنا بعض دروسها التاريخية كقصة وتجربة انسانية . قال تعالى : ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ ([7]) .
اذ ان بواكير الدلالات القصصية تتمثل في قصة ادم وتخيير رب العباد له بين ان يشقى وبين ان يكون مثواه الجنة ، ان القص هنا قد دون لنا تجربة الخالق في عرض الطريقين امام ادم عليه السلام فدون عبر هذه الآية قصة الشقاء الانساني القائم على عدم الاعتبار والتي لا زال درسها التاريخي يتكرر .

ولما كان القصص من بين الاساليب التي استخدمها القرآن للوصول الى عقل الانسان وشعوره، سواء في ذلك القصة التاريخية التي تتناول تاريخ الانبياء والسابقين، او القصة التي تذهب مذهب المثل في عرضها لبعض الصور الاجتماعية المتحركة في واقع الحياة او القصة القصيرة الخاطفة التي تشير الى موقف خاص او نموذج بشري عين ([8]) . قال تعالى : ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ([9]) ان الآية هنا تؤكد مفهوم التكرار في القص التاريخي علَّ الانسان يتعض من الدرس الالهي ليتمثله تجربة انسانية معاشه . والا ما قال سبحانه وتعالى ﴿لعلهم يتفكرون﴾ . والتفكر هنا التبصر، والتبصر في معناه التاريخي هو تمثل الدرس الانساني او التجربة بمعناها الديني والانساني والاخلاقي وهذا ما اتفقت عليه كل الديانات السماوية .وقوله تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ([10]) والعبرة هنا تمثل الدرس التاريخي . وقوله تعالى : ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾ ([11]) .وقوله جل من قال : ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ([12]) .وقوله سبحانه : ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ([13]) . وقوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً﴾ ([14]) .وقوله تعالى : ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ ([15]) .

وجاء عرض القصص القرآني للوقائع والحوادث التاريخية “من اجل اعطاء صورة عن الواقع … تخضع فنيا لقوانين القص في عرض تفاصيل المواقف
والاحداث” ([16]) . وهي بذلك لم تكن في اغراضها واهدافها تسعى لعرض التاريخ لمجرد العرض ومن ذلك نستنتج ان فلسفة التاريخ بمفهوم العصر الحديث من خلال ربط قانون السببية في تحليل الاحداث التاريخية لم يكن وليد هذا العصر بل ان ذلك فهم اسلامي سابق دل عليه قرآن المسلمين اذ ” دل على ان كل شيء يحدث بسبب سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد او النبات او بالحيوان او بالإنسان او بالإجرام السماوية ، ام بالظواهر الكونية المادية المختلفة . فقانون السببية أي ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ، هذا القانون عام شامل لكل ما في العالم ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والاخرة” ([17]) .

قال تعالى : ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ﴾ ([18]) . وقوله جل من قال : ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ ([19]) .وقوله تعالى : ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾([20]) . وقوله جل وعلا : ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ([21]) .

وقوله تعالى:

﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾  ([22]) .وقوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ ([23]) .وقوله جل من قال : ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ ([24]) .وقوله جل من قال : ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ([25]).

ومن بين اهداف القرآن الكريم التي ارادها من القصة ، التركيز على وحده الرسالات ووحده الاساليب التي يتبعها الرسل في الدعوة الى الله … كدليل على الخط الذي اراد الله لرسالاته ان تسير عليه ، وعلى المشاكل الواحدة التي يواجهها الدعاة في كل زمان ومكان ، وعلى الرغم من اختلاف الظروف المحيطة بكل واحد منهم … وكان تاريخ الانبياء السابقين في كل ما اثاروه من قضايا ، وما واجههم من صعوبات وما حققوه من نتائج ، عنصراً مهماً وحيّاً في تحقيق هذا الهدف ([26]).

قال تعالى : ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ([27]) . وقوله تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ([28]) .

ومن اهداف القرآن في ايراد القصة كونه اراد ” ان يقدم للإنسان قضايا الحياة على صورة نماذج ، يشعر معها بالوضوح الذي يجسد الفكرة ويجعلها مثلا حياً امامه ، فكانت القصة من اكثر الاساليب قدرة على تحقيق هذا الهدف ، بما تتيحه للفكرة من عرض حي في اطار حركة الاشخاص بدلا من تجريدها” ([29]) .قال تعالى : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ ([30]) .

وقوله تعالى : ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ([31]) .

ان اية مطالعة جادة ذكية وواعية ملتزمة للتاريخ تجد من خلال قراءة القصص القرآني ، انه يرمي من جملة ما يرمي اليه : اثاره الفكر البشري ، ودفعه الى التساؤل الدائم والبحث الدائب عن الحق ، وتقديم خلاصات التجارب البشرية ، عبراً ليسير على هديها اولو الالباب … وتقديم الدليل على علم الله الواسع الذي احاط بحركة التاريخ ماضيا وحاضرا ومستقبلاً .. ثم تأكيد البرهان على الحق الواحد الذي جاء به الانبياء السابقون جميعا وسعوا الى ان يقودوا اممهم الى مصدره الواحد الذي لا اله الا هو ([32]) .

قال تعالى : ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ ([33]) .وقوله جل من قال : ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ([34]) .

 وقد كانت الحكمة القصصية واحدة من اساليب عرض الوقائع التاريخية في القرآن الكريم فليس كل ما جاء من معطيات قرآنية يحمل طابع التاريخ الا ان عدداً كبيراً من عروضه ، وان جاءت تسميتها بالقصص بمعنى الحديث عن الماضي ، تخرج عن الاطار الفني للقصة ، وبذلك تكتسب بعدها التاريخي المجرد ([35]) .

وهو يرد قصص اقوام خلت او ديانات اخرى يقول سبحانه وتعالى : ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ ([36]) . وقوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ ([37]) .

وقوله تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ ([38]) .

ان القرآن يطرح علينا لأول مرة مسالة (السنن) و (النواميس) التي تسير حركة التاريخ وفق منعطفها الذي لا يخطئ وعبر مسالكها (المقننة) التي ليس الى الخروج عليه سبيل لأنها منبثقة من صميم التركيب البشري ومعطياته المحورية الثابتة فطرة وغرائز واخلاقا وفكرا وعواطف ووجدانا ([39]) .

قال تعالى : ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ([40]) . وقوله جل من قال : ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾([41]) .وقوله تعالى : ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ ([42]) .

ويتبين لنا ان مفهوم السنن متعدد المعاني فمرة تأتي السُنة بمعنى السبيل او الطريق او الشريعة ، ومرة تأتي بمعنى الدين ، وتأتي مرة اخرى بمعنى المبادئ او التعاليم ، لكن القصد القرآني في تكرار معانيها يهدف في منهجه الى الكشف “عن سنن العالم والحياة ، ونواميس الكون ، وهو منهج شامل مرن يخضع لتقلبات الزمان والمكان … لقد دعا القرآن الناس الى التبصر بحقيقة وجودهم ، وارتباطاتهم الكونية عن طريق (النظر الحسي) الى ما حولهم ، ابتداء من مواضع اقدامهم وانتهاء بافاق النفس والكون” ([43]) .

قال تعالى : ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ([44]) .

قال جل من قال : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ([45]) .وقوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ([46]) .

ان هذه السنن تقوم “على نحو هو غاية في الدقة والصرامة والاطراد” ([47]) .قال تعالى : ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ ([48]) .ومما تقدم نجد ان الله سبحانه وتعالى ومن جملة ما اقره من خلال القص القرآني تبصير الانسان الذي يتحمل المسؤولية من الله سبحانه ، وكان بذلك خليفة الله في الارض .قال تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً …﴾ ([49]) .

وقد جعل لهذا الانسان سبلاً وشرائع ومناهج ليسير عليها وفق السنن الالهية والنواميس التي تحدد حركته . قال تعالى : ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ ([50]) .

ومما تقدم واسترشاداً برؤية الكافيجي (ت879هـ/1474م) للتاريخ التي يعدُّ التاريخ فيها “من جملة العلوم النافعة في المبدأ والمعاد وما بينهما” ([51]) من خلال ذلك سنحاول الاشارة الى دور الانسان بين المبدأ والمعاد ، وسيرته كفرد وكمجتمع من خلال القصص القرآني للاستدلال على القيمة القرآنية لهذه القصص واهميتها بالنسبة للجماعات والافراد في استجابتهم لرسل الله وفي العمل بهديهم الذي يمثل الصراط المستقيم الذي امر الله به والصراع بين الخير والشر والمصير الذي آلت اليه مجتمعات الظلم والحكمة الالهية في ذلك .

اذ ان خلافة الله سبحانه على الارض التي تحملها الانسان لم تكن لاعتبار الانسان مجرد كائن حي بل كانت له منزلة رفيعة ميزته عن غيره وهو بذلك يمتلك الحق في استخدام كل شيء في هذا العالم ([52]) .

قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ ([53]) . وقوله جل من قائل : ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ([54]) .قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ ([55]) .

وقوله تعالى : ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ([56]) .

ان حق الانسان في استخدام كل شيء في هذا العالم وحريته لم يكونا مطلقين بل محددين بقواعد الهية حددت له سلوك الطريق السوي طريق الخير بعد ان وضحت له نهاية الطريق المعاكس ، لذا فعليه ان يبرهن بسلوكه الواعي المبني على تحمل المسؤولية من الله سبحانه مباشرة وبذلك فان الحياة الاخرة عند المسلمين لم تكن مرهونة بقوم دون اخرين وليست مرهونة بالخلاص من الخطيئة كما مر بنا عند عرض مواقف الديانتين اليهودية والمسيحية من التاريخ  بل مرهونة بالعمل الصالح الذي يقوم به الانسان على الارض .

قال تعالى : ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ….﴾ ([57]) . وقوله تعالى : ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ([58]). وقال جل من قال : ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ ([59]) .

ان هذه الحياة القصيرة نوع من الثقة المقدسة وضعها الله في الانسان افراداً و جماعات ، ليبرهن الانسان على انه امين في استعمال هذه الثقة ([60]) . قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ ([61]) .

وكما هي سنة الله سبحانه في الافراد فان القص القرآني يعطينا رؤية تاريخية تبين الدوافع في نشوء الامم وافولها والاسباب في هذا النشوء والارتقاء والافول اذ ان “يد الله تتحرك حركة دائمة الى الامام والى الخلف بمقتضى قانون فتخرج الى النور الامم الجديدة وتطمس الاخرى في الظلمات . ولأرتقاء الامم وانهيارها قوانين ، ولم يترك شيء ليد مشيئة عمياء” ([62]) .

قال تعالى : ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ([63]) .وقال جل من قال : ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ . ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ ([64]) .

ان خلاصة الدرس التاريخي والانساني الذي اكده لنا القرآن الكريم هنا مفاده
ان الامم التي ترتفع فتبلغ اوج التقدم والرفاه الاقتصادي انما ترتفع بعد ان تنمي في
انفسها صفات خاصة ، اما الامم الاخرى التي زحزحت عن منزلتها المرموقة الى مكان مغمور فإنما اصابت هذا الحظ لان فيها مواضع ضعف نخرت بنيان مجتمعها وقوى الحياة فيه .. ومن ينظر نظرة سطحية الى هذا الانهيار يرى انه نتج عن هجوم خارجي، او عن خيانة بعض رؤسائها . اما الحقيقة فهي ان التدهور نتيجة فساد بطيء وانحطاط لا يشعر بها المرء ، وهما فساد وانحطاط يتجليان في كل جوانب حياة الامة ([65]) .

قال تعالى : ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ([66]) .وقوله جل من قال : ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ ([67]) .

ومما تقدم نجد “ان الاسلام دين يعد التاريخ اساسا في عقيدته ويعرض فلسفة تضع نظما وقوانين لسير الانسان وسعادته والمجتمعات وتطوراتها ، والبشرية ومصائرها … ويؤكد باستمرار على المسلمين بان ينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، وينظروا الى مصائر الامم” ([68]) .

كذلك تأكيد القرآن الكريم ان “العامل الاكبر في تقرير مصير الافراد والامم والدول هو الايمان المتصل صلة وثيقة بالأخلاق ، فالأخلاق هي القانون الذي يُسير البشرية ، ففيه تسعد البشرية ويزدهر المجتمع ، او تشقى وتتفكك ، الاخلاق والسلوك المتصل بالمثل العليا” ([69]) .

والآيات آلاتية سترينا بوضوح على ان القصص القراني ليس مجرد “قصص يُروى عن الايام الغابرة ،وانما هو تحذير من المهاوي الواقعة في طريقنا” ([70]) .

اذ يخبرنا القرآن الكريم في قصة نوح عليه السلام ([71]) ان قومه لم يستجيبوا لدعوته اذ يقول الله سبحانه في محكم كتابه : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ . أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ . فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ
كَاذِبِينَ﴾ ([72]) .

وقوله جل من قال : ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ ([73]) .قال تعالى :  ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً﴾ ([74]) . وعن عاد قوم هود عليه السلام ([75]) يخبرنا الله جل وعلا:﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ . قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ ([76]) .

وقال تعالى : ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ ([77]) .

وفي قصة نبي الله صالح عليه السلام ([78]) نجد ذات الدوافع والميول تتحكم في البشر الذين بعث اليهم . قال تعالى : ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ ([79]) .

وفي قصة ابراهيم عليه السلام تتجسد لنا الرؤية التاريخية من خلال دعوته للوحدانية وهجرته لأكثر من مكان على الارض وصراعه مع طاغية عصره (النمرود) وارتباطه بأكثر الاحداث التي توالت بعد عصره وبناءه بيت الله الحرام رمز الوحدانية على الارض ، ومحاولة اليهود الانتساب اليه ([80]) .

قال تعالى :

﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ ([81]).

وقوله تعالى : ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ ([82]) .

وفي قصة نبي الله شعيب ([83]) نجد ان الله سبحانه يخبرنا بان هنالك اسبابا مادية الى جانب الشرك بعبادة الله سبحانه تدعو الخالق لان يبطش بالأمم مثل الفساد في الارض بعد اصلاحها وعدم الايفاء في معاملاتهم الاقتصادية .. النواحي التي كانت في العصر الحديث تمثل محاور اساسية قامت على اساسها نظريات شغلت المفكرين سنوات طوالاً وكان الله سبحانه قد اوجزها في محكم كتابة بآيات قلائل لو تدارسها المسلمون وتوسعوا في دراستها لوجدوا في دراستها “دروسا تفيدنا غير قليل في الازمة التي نلاقيها
اليوم”([84]) .

وقوله تعالى :  ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ ([85]) .

وقوله تعالى : ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ . فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ ([86]) .

ويخبرنا الله سبحانه عن اقوام كثيرة ([87]) كفرت بإحكام الله وشرائعه وسنته فجعلها مثلا .قال تعالى : ﴿ وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً﴾ ([88]) . وقوله جل من قال : ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ . وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ ([89]) .

وفي قصة يونس عليه السلام ([90]) نجد ان ارادة الله سبحانه ترينا رحمته بالأمم فيما لو فاقت واسترشدت من الضلالة ولو بعد حين ، اذ نجد وعلى خلاف مما وجدناه في امم سابقة ان الله تعالى قد غفر لقوم يونس عليه السلام ولم يخسف بهم في حياتهم الدنيا وفي ذلك ذكر وعظه .

قال تعالى : ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ ([91]) . ان تعاقب الامم وتدافعها لم يكن خيارا انسانيا محددا بسلوك بشري بل هو حكمه الهية ترتبط بالخلق الاول وتنازع ابني ادم عليه السلام . قال تعالى :  ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ([92]) .

اذ ان في هذا التنازع والتدافع والتبدل سنة الهية تجعل من التاريخ حالة متحركة فكما هو الكون في طبيعة حركته والايام في تواليا فهي متشابهة من حيث توالي الليل والنهار ولكنها مختلفة من حيث التبدلات المناخية والظواهر الطبيعية فكل يوم يحمل في ساعاته سعادة وشقاء وهدماً وبناء فنحن نجد امطارا تنبت الزرع هنا وزلزالا مدمرا هناك . قال تعالى :﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ([93]) . وقوله جل من قال : ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ([94]) .

ومما تقدم نجد ان القصص القرآني لم يكن بعيدا عن الرؤية التاريخية فلو لم يكن من هدف اليه ، فما الحكمة من الاسهاب فيه وقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب البليغة ان قراءة متمعنة لكتاب الله تثير الفكر الانساني وتجعله يطّلع على الماضي ببصيرة نافذة توحي بالثقة وتجعله يسير على طريق الرشاد المؤدي الى سعادة الدنيا والاخرة وعلى الرغم من ايماننا العميق بالتفسير الديني للقصص القرآني الا اننا نلاحظ ان كثيرا من هذا القصص كان زاخرا بالدرس التاريخي وربما تنبأ بالنهايات التاريخية لكثير من الوقائع فقصة نوح عليه السلام على الرغم من سردها المقتضب لكن كثيرا من الاثار المكتشفة والدراسات التاريخية تؤكد وقوعها وهي لم تكن درسا دينيا اخلاقيا فقط، وانهيار سد مأرب كان حادثا تاريخيا حقيقيا ولم يكن سرداً قصصياً يحمل عضة دينية فقط وكانت قصة يوسف بدلالاتها الاخلاقية واقعة تاريخية حصلت في حقبة من الحقب التاريخية في مصر .

 الدكتور داود سلمان خلف