هاف بوست :
ما معنى الاسم؟ وما هي معتقدات الكابالا اليهودية؟
يشير مصطلح الكابالا – أو القُبالة – إلى التصوف اليهودي الذي انتشر على نطاق واسع في العصور الوسطى، لكنه أصبح في العقود الحديثة مصطلحاً عاماً لكل الفكر اليهودي الصوفي.
تضم الكابالا تقاليد خفيّة التي يعود تاريخها إلى ما قبل عصر النبي عيسى، إلا أن الكثير منها ما زال حياً حتى اليوم.
يتبع هذا المذهب اليهودي نهجاً فلسفياً؛ فيهتم بخلق العالم، وطبيعة الله، وزمن عودة المسيح، وطبيعة الحياة الآخرة.
ورغم أن اتّباع تعاليم الكابالا مقصورٌ على فئةٍ معينة، فإن «الطريقة الصوفية» كانت شائعةً وتُمارس على نطاق واسع منذ قرون، برغم وجود قيود على العمر ومدى التزام أتباعها.
لكن مع انطلاق حركة الـ «هاسكالا» – أو الحركة التنويرية اليهودية – في القرن الـ 18، بدأ اليهود ينظرون بدونية إلى الكابالا التي اعتبروها بقايا مُحرجة من زمن الجهل، وعانى أتباعها من الاختقار بين يهود أوروبا المتجهين حديثاً إلى العلمانية.
لكن في الآونة الأخيرة، شهدت الكابالا إحياءً هائلاً، مع اتساع الاهتمام العلماني والديني بها، وتتواصل بعض مدارسها مع غير اليهود بطريقة غير مسبوقة.
كيف نشأت الكابالا؟ بدايات الصوفية اليهودية
يقول موقع Ancient History Encyclopedia، إن التلمود اليهودي القديم لم يتحدث كثيراً عن التصوّف والتأمل في الكون وخلقه وخالقه، لكنه أورد بعض أشكال الممارسات الخارقة للطبيعة مثل السحر والمعجزات والكرامات.
فعلى سبيل المثال؛ يحكي التلمود كيف تمكّن النبي موسى من تحويل عصاه إلى ثعبان، ويروي كيف كان الوحي ينزل على النبي يعقوب. ما دفع أتباع الكابالا لاعتبار كل ما يتعلق بالنبوة، ممارسةً صوفية.
ويعد سفر رؤية النبي حزقيال لـ «مركبة العرش الإلهي» أهم مواضع الصوفية في التلمود؛ إذ انبثق من تفسير هذا السفر تياران صوفيان رئيسيان؛ «مركبة المسيح» Maaseh Ha’merkabah، و»عمل البداية» Maaseh Bereshit.
البداية من تيار «مركبة المسيح».. التأسيس بنصٍ تلمودي
يرجع أول شكل منظم من التصوف اليهودي إلى فترة الهيكل الثاني، ويبدو أنه اتخذ شكله الكامل بحلول العصر التلمودي.
ويستند هذا الشكل إلى سفر رؤية حزقيال، الذي تحول إلى موضوع يتمعّن في إعجازه أتباع المذهب الصوفي.
يتحدث التلمود عن حاخامات معينين يشرحون «أسرار» مركبة الله التي رآها حزقيال، لكنه لا يكشف الأسرار نفسها.
يُقال إن التعاليم اليهودية تحظر كشف هذه الأسرار للعامة أو تدوينها، بل يقتصر الأمر على تناقلها شفهيا فقط بين أعدادٍ محدودة من الطلاب المتبحرين بالفعل في الشريعة واللاهوت اليهوديين.
يفترض تيار «مركبة المسيح» قدرة المؤمنين على الوصول إلى حالة من الوجد عبر التأمل في القاعات السبع للقصر الإلهي، بحيث ينتهي بهم الأمر برؤية البلاط الإلهي ومركبة العرش.
وفي العصور الوسطى، كان يشاع أن الحاخامات البارزين يمارسون هذا النوع من التصوف لرؤية البلاط الإلهي ومركبة العرش، وقد جُمعت نصوص من أدب المعجزات المتعلق بهذه الرحلات.
سِفر «يتزيراه».. أول كتابٍ لأتباع الكابالا
يعد سفر «يتزيراه» أو «كتاب الخلق»، أول مرجعٍ مكتوب لأتباع الكابالا.
لا يزال زمن كتابة سفر «يتزيراه» موضع جدل، لكنه على الأرجح دُوِّن بعد التلمود.
على عكس سابقيه، لا يتناول سفر «يتزيراه» المركبة الإلهية، بل يتحدث عن خلق العالم.
يصف النص الخلق كما يحدث من خلال «تمتمة الله» لأحرف من الأبجدية العبرية مركبة مع عشرة «صفروت» أو «أرقام».
يمثل سفر «يتزيراه» بداية الكابالا كما هي معروفة اليوم. ومع أنه استبدل في النهاية خلال القرون الوسطى بنصوص أطول وأكثر تعقيداً، فإن سفر «يتزيراه» مثّل مصدر تأملٍ وتفكّر صوفي وفلسفي.
وقد تلا سفر «يتزيراه» كتاب أقل شهرة رغم أهميته، وهو سفر «هابهير» أو «كتاب الإشراق».
يتحدث سفر «هابهير» عن مفهوم «السفروت»؛ من خلال تصويرها كأوعية للطاقة الإلهية التي تعكس جوانب محددة من الألوهية كما تتجلى في العوالم «الدنيا».
مزيج الكتابين سيؤدي إلى نص الكابالا الأساسي: سفر «الزوهار».
سفر «الزوهار».. دستور التصوّف اليهودي
يعتبر سفر «الزوهار» أو «كتاب الضياء» أهم النصوص لدى الكابالا.
أصول «الزوهار» بقيت مثار جدلٍ لدى المعتقد منذ ظهور السفر في العام 1200، لكنه نُسِبَ إلى الحاخام سيميون بار يوشاي.
لكن العلماء المعاصرين يرون أنه كتب على يد موشيه دي ليون – وهو صوفي إسباني -، أو على يد مجموعة من المتصوفين.
يتكون سفر «الزوهار» من أكثر من ألف صفحة في النسخ المطبوعة، وقد كُتِّب بلغة تشبه الآرامية، ويعرض لملحمة كونية، اُعتبرَّت المعيار للتصوف اليهودي في القرون التالية.
يحتوي «الزوهار» على أفكار بسيطة متعلقة بالمسيح، وتدّعي وجود خللٍ في الهندسة الإلهية نتيجة لخطيئة الإنسان والنفي المستمر «للسكينة» ولشعب إسرائيل، ويمكن إصلاحها من خلال «التِكون» (الإصلاح) المسياني.
هذا «الإصلاح» يُنفَّذ بالوصايا اليهودية، والعمل الصالح، ودراسة التوراة.
أتباع دي ليون اعتنقوا هذه المفاهيم لاحقاً، إلى درجة أنها أصبحت مركزية في التصوف اليهودي.
لوريا يؤسس «اليهودية – المسيحية»!
بعد انتشار «الزوهار» في أنحاء العالم اليهودي، وإحداثه ثورةً في فكر وممارسة الكابالا، جرت عدة محاولات لإنشاء طريقة صوفية متجانسة ومنظمة تستقي تعاليمها من سفر «الزوهار»، كان أنجحها ما أسسه الحاخام إسحاق لوريا الذي عاش في القرن الـ 16.
جمع لوريا بين التراث الأشكنازي (اليهودي الغربي) والسفاردي (اليهودي الشرقي)، فوحَّد أهم مدرستين يهوديتين من خلال تقاليده الصوفية، وجعل من مدينة صفد بالجليل الشرقي مركزاً لأتباعه.
أسس لوريا نظامه المبني على «الزوهار»، لكنه أضاف تعاليم إضافية ادعى أنه تلقاها مباشرة من خلال التواصل الروحي مع أرواح المتصوفين الذين ماتوا منذ زمن طويل في المنطقة.
لم يترك تقريباً أي كتابات خاصة به، لكن تعاليمه دُونت على يد العديد من طلابه، أبرزهم حاييم فيتال، الذي نشر أكثر الإصدارات تأثيراً بينهم.
ببساطة، تقول معتقدات لوريا أنه في لحظة الخلق، قلّص الإله نفسه لأجل إتاحة الفضاء الذي سينشأ فيه العالم. تدفق شعاع من النور الإلهي في الفضاء، لكن الأوعية التي كانت تحمل هذا الشعاع تحطمت بسبب عجزها عن احتواء الطاقة الإلهية، فتكونت عالمنا المادي الفاسد من شظايا الأوعية، وبقيت في هذا المجال المادي «شرارات» من الضوء الإلهي الأصلي.
هذه الرؤية المظلمة لخلق العالم ارتبطت فيما بعد بمفهوم «جالوت» (المنفى)، إذ يرى لوريا أن الشعب اليهودي ليس وحده الذي يعيش في المنفى، بل كذلك «سكينة» الله، وإلى حدٍّ ما الله نفسه وكل خليقته – بحسب معتقداته -.
تصوَّر لوريا بزوغ عصر يعود فيه المسيح ليرفع الشرر الأخير، وبذلك يكمل إصلاح العالم المادي الممزق، الذي سوف يحل في العالم الروحي، ليس فقط لإصلاح الخلق بل والإله نفسه أيضاً.
حققت كابالا لوريا نجاحاً أكبر من نجاح «الزوهار»، إذ استقطبت التوق العميق للخلاص في العالم اليهودي. لكن ارتباطها القوي بالمسيح أزعج دعاة اليهودية التقليدية، الذين طالما حاربوا مشاعر الاستنجاد بالمسيح.
شبتاي تسفي: يهودي تركي تحوّل إلى المسيح المنتظر!
حمل يهودي صوفي تركي يدعى شبتاي تسفي لواء اليهودية «المسيانية» – أي اليهودية القريبة إلى المسيحية -، بعدما اترفعت شعبية «الزوهار» وكابالا لوريا.
تحول تسفي المولود في إزمير والذي تمتع بشخصية كاريزمية – وربما كان مريضاً عقلياً -، إلى أنجح مسيح يهودي دجال منذ العصور القديمة.
يوصف تسفي بأنه كان دائم الغارق في «شطحات الوجد» صوفية، بل كان يدعي أحياناً أنه هو المسيح المنتظر.
بعد هذه النوبات، كان ينهار ويندم بشدة على تصرفاته السابقة، لكنه طُرد في النهاية من الجالية اليهودية المحلية بسبب سلوكه.
في العام 1663، سافر تسفي إلى فلسطين، حيث تلقفه مفكر شاب موهوب يدعى ناثان غزة وأعلن أنه المسيح المنتظر.
ولأن صوفية لوريا كانت قد جهزت أتباعها لانتظار شخص كهذا، فقد احتضنوه بحماسة وصار محط الآمال الجديدة وتعهدوا بالولاء لـ «المسيح» الجديد.
المسيح يتعرض للاعتقال.. ويدخل الإسلام!
ألقت السلطات العثمانية القبض على تسفي وسجنته، وتم ترحيله إلى أدرنة عاصمة السلطان محمد الرابع (1642 – 1693) .
تقول المصادر بعض الغربية، إن العثمانيين عرضوا على تسفي أحد خيارين؛ الموت أو التحول إلى الإسلام.
أما بعض المصادر الأجنبية والتركية والعربية، فتقول إن تسفي لم يكن تقن اللغة التركية، فطلب مترجماً يتقن الإسبانية والتركية معاً.
عندما بدأت المحاكمة، أشار المترجم – يهودي الأصل – على شبتاي تسفي أن يعلن إسلامه كي ينجو من الإعدام، وحاول إقناعه باللغة الإسبانية أن يتراجع عن دعوته علناً، ويكملها سراً. فاقتنع الرجل، وعفا عنه السلطان بعدما أعلن إسلامه.
غيّر اسمه إلى محمد عزيز أفندي، وأقنع الكثير من أتباعه بإعلان إسلامهم.
«الدونمة»: مسلمون جهراً.. يهود سراً!
ورغم استياء اليهود وصدمتهم من إسلام المسيح المزعوم، فقد استمرت مجموعات صغيرة من المناصرين في اتباعه.
كان ناثان غزة من بين أولئك الذين تمسكوا بولائهم، وقد طور لاهوتاً يجب أن تنحدر فيه روح المسيح اليهودي – أي شبتاي تسفي- إلى أدنى مستوى من «الشظايا» التي تحدث عنها لوريا، من أجل رفع «الشرارات» الإلهية الأخيرة، وتحقيق «الإصلاح»، مما يفسر ردة تسفي.
هذه العقيدة أصبحت تسمى «الوصية التي تتحقق بمخالفتها»، أو «الفداء من خلال الخطيئة».
بعض المؤمنين بتسفي الذين يسمون السابّاتيين يتبعونه عن طريق التحول إلى الإسلام بينما يمارسون طقوسه اليهودية سراً، ومازالت طائفة من هؤلاء تدعى «الدونمة» موجودة حتى اليوم.
الحسيدية والعلاقة المباشرة مع الله
بعد ردة شبتاي تسفي، تعرض الفكر المسياني أو – اليهودية المسيحية – لنكسة قوية، لكن طريقة كابالا لوريا الصوفية حافظت على شعبيتها.
تطورت طريقة كابالا لوريا، فظهر مفهوم الحسيدية أو – اليهودية الحسيدية -.
تأسست الحسيدية على يد معالج صوفي متجول عاش في القرن الـ 18 الميلادي، أُطلق عليه «بعل شيم توف (صاحب الاسم الطيب)».
وقد سافر إلى الجاليات اليهودية الكبيرة في أوروبا الشرقية، متشبهاً تقريباً براهب زن (طائفة من الماهايانا البوذية يابانية)، واعظاً بالتقوى بطريقة شعبوية ركزت على التجربة العاطفية المباشرة مع الله، مقابل ما اعتبره شرعوية جافة من المؤسسة التقليدية.
ركزت الحسيدية على الفرح والعاطفة، بدلاً من الجمود والوقار، وكذلك قدرة كل يهودي على تحقيق أعلى مستوى من التنوير الروحي والوجد، رافضة فكرة النخبة الحاخامية.
نجح بعل شيم توف في استقطاب عددٍ كبير من الأتباع، نظموا أنفسهم في مدارس أو تجمعات حاخامية في مجتمعات يهودية محددة، أبرزها ما سمي «التساديك» (الصالحين).
كان دور «الصالح» مماثلاً للدور التقليدي للحاخام، بمعنى أنه كان المعلم وقائد المجتمع، إلا أنه أضاف جانباً جديداً بوصفه قناة مباشرة بين الإله وأتباعه.
لم يدَّع أي من «الصالحين» أنه المسيح المنتظر، لكن الجوانب المسيانية من الزوهار وكابالا لوريا ظلت حاضرة بقوة.
تبنت الحسيدية أفكار «الشظايا» و»الإصلاح» و»الشرر» الإلهي على وجه الخصوص باعتبارها ضرورية لعلم اللاهوت، واعتقد الحسيديون أن إصلاح الأوعية المكسورة وخلاص إسرائيل والعالم يمكن تحقيقه من خلال تجربة الوجد الصوفي، والتمسك بالشريعة، والتقرب الفردي بالصلاة.
أثبتت الحسيدية أنها حركة ذات شعبية هائلة، على الرغم من أنها عاشت عداوة مع المنتمين للفكر التقليدي.
مات عدد كبير م