شفقنا :
يظهر تكرار جرائم قتل النساء في مصر هشاشة منظومة حماية المرأة، إذ تشير البيانات إلى قتل أكثر من 300 امرأة سنوياً، ما يسلط الضوء على الاهتمام بالأمن السياسي على حساب الأمن الاجتماعي.
شهدت مصر خلال الأشهر الماضية، جرائم قتل مروعة راح ضحيتها نساء وفتيات على يد أقارب أو أزواج، ما يسلط الضوء على تفشي العنف ضد النساء. جرائم تختلف في تفاصيلها، لكنها تكشف عن دوافع مشتركة ترتبط غالباً بالخلافات الأسرية، أو جرائم الشرف، أو رفض السلطة الذكورية.
يوم الأحد 17 أغسطس/آب الماضي، عُثر على جثة لاعبة الجودو دينا علاء داخل شقتها بالإسكندرية، مصابة بثلاث طلقات نارية، كما عثر على زوجها إلى جانبها مصاباً بطلق ناري، وتشير تحقيقات الشرطة إلى أن الزوج أطلق النار على زوجته خلال محاولتها حماية أطفالهما، ثم حاول الانتحار. وفي 15 أغسطس، لقيت ربة منزل مصرعها بعد مشادة مع زوجها في الإسكندرية أيضاً، بعد أن تعدى الزوج عليها بالضرب، ما أدى إلى ارتطام رأسها بالأرض، لتفارق الحياة بعد نقلها إلى المستشفى.
وفي 9 أغسطس، قُبِض على 5 متهمين من أسرة واحدة، هم الأم، والجدة، والعم، وابن العم، وثلاثة من أشقاء الأم، لإجبارهم فتاة قاصر على تناول أقراص سامة تسببت في وفاتها، ثم دفنها من دون تصريح في منطقة العياط جنوبي الجيزة، وإيهام الآخرين بأنها ماتت بفيروس كورونا. وفي يوم 31 يوليو/تموز، قتل رجل في قرية بمحافظة الشرقية، ابنته (17 سنة) بسبب رغبتها في فسخ خطبتها لمواصلة التعليم. وفي مطلع يوليو، أمرت نيابة جنوب الجيزة، بحبس 3 متهمين من عائلة واحدة على ذمة التحقيق، بتهمة قتل فتاة في منزلها بمنطقة أبو النمرس، عقاباً لها على الزواج من دون علم الأسرة.
وفي 2015، أطلقت مصر “الاستراتيجية القومية للقضاء على العنف ضد المرأة”، وفي نهاية 2019، أطلقت “الاستراتيجية القومية لتمكين المرأة 2030″، كما أطلقت هيئة الأمم المتحدة للمرأة في إبريل/نيسان 2024، شراكة مع المجلس القومي للمرأة (حكومي) وحكومة فرنسا لتمويل استثمارات وطنية تنهي العنف ضد النساء والفتيات.
وترى رئيسة مؤسّسة “بنت النيل”، أسماء دعبيس، أن “تزايد العنف ضد النساء في مصر، يعكس أزمة مركبة تتداخل فيها عوامل متعددة، من بينها الأعراف، والدين، والثقافة السائدة. هناك تطبيع مجتمعي مع العنف، خاصة داخل الأسرة، إذ يُنظر إليه أحياناً بوصفه أداة تأديب أو سيطرة، إضافة لتطبيع القانون مع حق الأسرة في التأديب باستمرار العمل بالمادة 60 من قانون العقوبات، التي تنص على (عدم سريان أحكام القانون على كل فعل يُرتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرّر بمقتضى الشريعة)، وبعض المواد التي تساعد في إفلات الجناة من العقوبة، مثل المادة 17 التي تسمح للقاضي بتخفيض الحكم درجة أو درجتين، وغالباً ما يجري استخدامها في جرائم تعنيف النساء، كما أن إباحة القتل على خلفية الشرف يعكس تطبيع القانون، وهناك أيضاً الخطاب الذكوري السائد الذي يكرّس دونية المرأة ويبرر العنف ضدها”.
وتصنف دعبيس الجهود الرسمية لمواجهة العنف ضد النساء على أنها “متباينة”، إذ إنّ هناك خطوات إيجابية مثل إنشاء وحدات مناهضة العنف ضد المرأة في الجامعات، والعيادات الصديقة للمرأة في المستشفيات العامة، وتغليظ العقوبات في بعض القوانين، وتضيف: “هذه الإجراءات غير كافية، فالأمن الاجتماعي لا يتحقق عبر العقوبات وحدها، بل يحتاج إلى تغيير جذري في الثقافة المجتمعية، وتوفير دعم نفسي وقانوني للضحايا، وتدريب الشرطة والقضاة على التعامل مع قضايا العنف بحساسية وجدية. الكثير من النساء يتردّدن في الإبلاغ عن العنف خشية الوصم، أو عدم الثقة في الجهات الرسمية، وهذا مؤشر على فجوة كبيرة بين السياسات المعلنة والتطبيق الفعلي، ويكشف عن فجوات قانونية تحرم النساء من الحماية الكاملة”.
بدورها، تؤكد مؤسسة مبادرة “بر أمان”، ميار مكي أنّ “الثقافة السائدة تعطي الأهل والأزواج حق امتلاك بناتهم وزوجاتهم، مروراً بحق تأديبهنّ، مع تطبيع القانون مع هذا النوع من العنف الأسري. قتلت فتاة أخيراً، ضرباً على يد والدها، فحُكم عليه بالسجن لمدة عام واحد استناداً إلى حسن نيته، ورأى القاضي أنه لم يكن يقصد قتلها. حسن النية في السياق الجنائي المصري يشير إلى غياب القصد الإجرامي عند ارتكاب الجريمة”.
وتعزي مكي تزايد جرائم قتل النساء إلى “انحدار الوعي والثقافة والتعليم، وبعض الخطابات الدينية المتطرفة، ووجود فضاء معادي للنساء”، وتدلل على ذلك بوجود مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، تستهدف النسويات وتحرض ضدهنّ، فضلاً عن التحريض العلني على العنف ضد النساء، وفي كثير من الأوقات لا يجري اتخاذ إجراءات قانونية ضد هذا التحريض.
وتوضح: “في بعض الأحيان نجد استجابات سريعة، وفي أوقات أخرى يحدث العكس. تغليظ العقوبة ليس حلاً، بل يؤدي في كثير من الأحيان إلى حرص الشهود على تهريب المتهم خشية معاقبته. القانون وحده غير كافٍ في ظل عدم تسهيل إجراءات الإبلاغ، ففي أغلب الحالات، تجد الفتيات تعسفاً خلال إجراءات الإبلاغ، وقد يجري الضغط عليهنّ للتنازل”.
وفي تقريرها السنوي الأخير “مرصد جرائم العنف ضد النساء والفتيات في مصر”، سجلت مؤسسة “إدراك للتنمية والمساواة”، 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات خلال عام 2024، منها 540 جريمة ارتكبها أفراد من الأسرة، ومن بينها 363 جريمة قتل، 261 منها ارتكبها الزوج أو أحد أفراد الأسرة، أما أساليب القتل فكانت متنوعة، من بينها الطعن 23.1%، يليه الخنق 19%، ثم الضرب المبرح 15.4%.
ووثّق التقرير جرائم أخرى، من بينها 153 جريمة اغتصاب، و100 شروع في قتل، و90 ضرباً سبب عاهات، و182 تحرشاً جنسياً، و60 ابتزازاً إلكترونياً، و14 محاولة اغتصاب، و5 حالات تنمر، و3 جرائم تشويه جنسي. ومن حيث التوزيع الجغرافي، احتلت العاصمة القاهرة المرتبة الأولى بنسبة 32.7% من الجرائم، تلتها الجيزة 23.3%، ثم القليوبية 6%، بينما سجلت محافظتا المنيا وسوهاج في الصعيد 3.9% لكل منهما، في حين جاءت محافظة الإسماعيلية في المرتبة الأخيرة بنسبة 0.7%.
وأشار التقرير إلى منحى تصاعدي لجرائم العنف ضد النساء، إذ بلغ العدد 815 في عام 2021، وارتفع إلى 1006 في 2022، ثم انخفض نسبياً إلى 950 في عام 2023، قبل أن يقفز مجدداً إلى 1195 حالة في 2024. بينما كشفت نتائج المسح الصحي للأسرة 2021، أن 31% من النساء تعرضن لعنف أسري من الزوج.
وفي تقريرها الصادر في يوليو/تموز 2024، أكدت منظمة العفو الدولية أن مصر لا زالت تفتقر إلى قانون شامل لمناهضة العنف الأسري، مشيرة إلى أن واحدة من كل ثلاث نساء مصريات تعرضت لشكل من أشكال العنف الأسري خلال حياتها، وأن الناجيات يواجهن عراقيل قانونية واجتماعية تجعل اللجوء للعدالة أمراً محفوفاً بالمخاطر.
وفي يونيو/حزيران 2024، قدّم “مركز قضايا المرأة المصرية”، مذكرة للاستعراض الدوري الشامل بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ركز فيها على استمرار ظاهرة الزواج المبكر، وأشار إلى أن نحو 14% من الفتيات المصريات يتزوجن قبل بلوغ 18 سنة، رغم أن القانون المصري يحدد سن الزواج القانوني، محذّراً من أن “غياب قانون واضح لمناهضة العنف الأسري يترك آلاف الفتيات عرضة للاستغلال”.
وتكشف هذه التقارير الحقوقية عن مشهد مزدوج، فالمؤسسات الرسمية تُدشن قنوات دعم، وتطلق برامج توعية، في مقابل ثغرات تشريعية تجعل العنف واقعاً متجذراً. وبينما تسعى منظمات المجتمع المدني لتوثيق الحالات وتقديم الدعم القانوني، فإن غياب قانون شامل يظل العقبة الأبرز أمام حماية النساء والفتيات في مصر.
وتتلكأ الحكومة المصرية في إصدار مشروع قانون مكافحة العنف الأسري، رغم تقديم أكثر من مسودة للمشروع إلى البرلمان، كان أبرزها في عامَي 2018 و2022، وكانتا نتاج جهود مشتركة بين منظمات نسوية مصرية وقوى حقوقية، كما قدمت مسودة جدية للبرلمان في مايو/أيار الماضي، وكشفت مؤسسة قضايا المرأة المصرية عن مسودة ثانية لمقترح القانون، شارك في إعدادها عدد من المنظمات النسوية، تركز على تعريف شامل للعنف، بما في ذلك العنف المادي، والمعنوي، والجنسي، والعنف الرقمي، وإجراءات واضحة لحماية الضحايا، وعقوبات رادعة، وإنشاء وحدات متخصصة في دوائر الشرطة لتلقي شكاوى العنف، إضافة إلى تأهيل الضحايا والجناة”.
ورغم أهمية القانون، إلّا أن إقراره يواجه تحديات كبيرة، من بينها الرفض المجتمعي، والتلكؤ السياسي، وتشتت الجهود، إذ تعالج القوانين أشكالاً معينة من العنف، مثل التحرش، وختان الإناث، إضافة إلى انتقادات حول “النهج العقابي”؛ إذ يرى خبراء أن مشروع القانون يركز على العقاب، ما قد يكرس صورة المرأة بوصفها ضحيةً دائمة بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية للعنف.
وترى الناشطة النسوية أسماء دعبيس، أن “إصدار قانون موحد خطوة ضرورية، لكنها غير كافية، فالقانون المقترح يشمل تعريفات دقيقة للعنف، ويضع آليات حماية وتعويض للضحايا والناجيات، لكن فعاليته تعتمد على تطبيقه بصرامة، وتوفير الموارد اللازمة لتفعيله، مثل تدريب الكوادر، وإنشاء وحدات الدعم داخل أقسام الشرطة، وزيادة أعداد الدور الآمنة للنساء المعنفات. الأهم من القانون هو الإرادة السياسية لمكافحة العنف ضد النساء، والاعتراف بأنه ليس قضية فردية بل أزمة مجتمعية تتطلب تدخلاً شاملاً”.
بينما ترى الناشطة النسوية ميار مكي، أن “القانون سيحدث فارقاً كبيراً، لأن فلسفته ليست قائمة على الانتقام وتغليظ العقوبة، بل قائمة على وضع تعريفات محددة وواضحة للعنف وأشكاله، مثل تعريف جريمتَي الاغتصاب وهتك العرض، والفارق بينهما، والنص على تجريم الاغتصاب الزوجي، وعدم اعتبار أن الزوجة مملوكة لزوجها، وكذلك الحال في جرائم العنف الأسري التي تتعامل معها المنظومة المجتمعية والأمنية باعتبارها شأناً خاصاً، وفي كثير من الجرائم تجري تسوية الأمر ودياً، في حين يحولها القانون إلى جريمة”.