الدولة العازلة
في بنية النظام الدولي، هناك دول تتمتع بموقع خاص، مثل «الوضع العازل». والدولة العازلة هي التي لا تنتمي إلى أي تجمع أمني إقليمي، لكنها في الوقت نفسه تتأثر بمعظم التجمعات المحيطة بها وتؤثر فيها. وتعد أفغانستان وتركيا من هذه الدول.
من هذا المنظور، يمكن للدولة العازلة أن تلعب دورا سلبيا أو إيجابيا في التجمعات الأمنية المحيطة بها. فهي أحيانا تكون ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، وأحيانا أخرى حلقة وصل لمصالح تلك القوى. وعندما ننظر إلى تأثير اعتراف روسيا بطالبان من هذا المنظور على الاصطفافات الإقليمية، يصبح بالإمكان رسم صورة أوضح لمستقبل هذه الاصطفافات.
روسيا والاعتراف بطالبان
إن خطوة روسيا في الاعتراف بطالبان ذات طابع سياسي-أمني أكثر من أي أبعاد أخرى. ويبدو أن هذه الخطوة جاءت كرد فعل على الغرب، فيما يتعلق بما يجري في أوكرانيا. ومن هذا المنطلق، فإن روسيا باعترافها بطالبان لم تفاجئ الغرب فحسب، بل حيّدت أيضا جزءا من التهديدات التي كانت طالبان تمثلها لروسيا وحلفائها في آسيا الوسطى. ووفقا لنهج الواقعية الروسية، فإن إدارة التهديدات وتحقيق الاستقرار الإقليمي أهم من قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبهذه الصورة، فإن الاعتراف الروسي بطالبان سيؤثر أولا على الاصطفاف القائم بين الغرب وروسيا، ويجعل الاستقطابات القائمة بينهما أكثر صلابة.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن ما يلفت الانتباه هو احتمال أن تتحول خطوة روسيا إلى «نهج» تتبعه دول أخرى. ومن هذا المنظور، من المرجح أن تسير الصين ودول آسيا الوسطى وحتى باكستان على خطى موسكو. واتخاذ هذا المسار من دول قد تكون بينها خلافات مصالح، يعكس مخاوفها من المستقبل، إذ تخشى هذه الدول أنه إذا لم تسبق منافسيها في الاعتراف بطالبان، فقد تدفع لاحقًا ثمن تأخرها في اتخاذ القرار على صعيد المعادلات الإقليمية، حيث تمثل طالبان أحد اللاعبين الرئيسيين.
وانطلاقا من ذلك، يمكن تصور عدة سيناريوهات للاصطفافات المستقبلية:
السيناريو الأول:
أن تتحول أفغانستان، بوصفها «دولة عازلة»، إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية. ومن هذه الزاوية، ستدعم الدول التي تعترف بطالبان حكومتها، بينما تدعم الدول التي لا تعترف بها خصومها، سواء تنظيم داعش أو جبهة المقاومة الوطنية. ووفق هذا السيناريو، وبالاستناد إلى اعتراف روسيا بطالبان، من المحتمل أن يتجه الغرب نحو تفعيل داعش أو جبهة المقاومة الوطنية، مع تكثيف الضغوط على طالبان في المحافل الدولية.
السيناريو الثاني:
أن تصبح أفغانستان، بوصفها «دولة عازلة»، ساحة لـ«تجميع المصالح» بين القوى الإقليمية والدولية، حيث يمثّل الإرهاب والمخدرات تهديدا مشتركا، بينما يشكل الربط (النقل والطاقة) مصلحة مشتركة، وتظل حقوق الإنسان مجرد هاجس مشترك. وهذا السيناريو قد يكون ممكنا فيما يتعلق بتعاون دول المنطقة، لكنه يبدو غير مرجح بالنسبة للقوى الكبرى نظرا للتنافس الجيوسياسي فيما بينها.
السيناريو الثالث:
أن تتحول أفغانستان، بوصفها «منطقة عازلة»، إلى ساحة «تنافس» بين القوى الكبرى (الغرب مقابل الصين وروسيا)، وفي الوقت نفسه إلى ساحة «تعاون» بين القوى الإقليمية وبعض القوى الكبرى (الصين وروسيا). ونظرا لتقارب مصالح القوى الإقليمية (الإرهاب والمخدرات كتهديد مشترك، والربط كمنفعة مشتركة، وحقوق الإنسان كهَمّ مشترك) مع مصالح الصين وروسيا، فإن أفغانستان ستقع فعليا في قلب عدة تجمعات أمنية مختلفة (جنوب آسيا، آسيا الوسطى، جنوب غرب آسيا)، وهو وضع ستكون محصلته النهائية على حساب الغرب.
آخر الكلام
مع عودة المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، عادت أفغانستان لتلفت انتباه هذه القوى. فبينما لعبت هذه الدولة في الماضي دور «الدولة الحاجزة» (المخففة للاحتكاك والصدام بين القوى الكبرى)، يبدو أنها في السنوات الأخيرة لعبت دور «الدولة العازلة» (الفاصلة بين التجمعات الأمنية الإقليمية، وساحة تفريغ صراعات القوى). وفي الفترة الأخيرة، كان دورها يتمثل أكثر في كونها ميدانا لتصريف تضارب المصالح بين القوى الإقليمية والدولية.
وما يميز وضع أفغانستان بعد اعتراف روسيا بحكومة طالبان عن السابق، هو تلاقي مصالح الفاعلين الإقليميين فيها من جهة، وتضارب مصالح القوى الكبرى فيها من جهة أخرى، وفي الوقت نفسه تقاطع مصالح القوى الإقليمية مع بعض القوى الدولية (الصين وروسيا). وهذا هو بالضبط ما تمت الإشارة إليه في هذا التحليل بوصفه «السيناريو الثالث».
المصدر: موقع مطالعات شرق