شفقنا:
منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها آلية قوية للحد من انتشار الأسلحة النووية؛ هيكل يعد حتى اليوم أحد أنجح المبادرات في التاريخ المعاصر.
فبعد ثمانين عاما من بدء مشروع مانهاتن، لم تتمكن سوى 9 دول فقط من دخول النادي النووي، في حين كانت التوقعات خلال بداية الحرب الباردة تشير إلى تحول عشرات الدول إلى قوى نووية. ومع ذلك، فإن هذا النظام للسيطرة النووية بات اليوم على وشك الانهيار، والمفارقة أن السبب الرئيسي لهذا الانهيار هو الغرب نفسه؛ ذلك الغرب الذي تغيّر مساره ونهجه بصورة جذرية.
دروس التاريخ المريرة
في السنوات الأخيرة، كشفت ثلاثة أحداث بوضوح عن أهمية الردع النووي: أولا، فشل الرئيس الأمريكي ترامب في تنفيذ تهديده الصريح “بالنار والغضب” ضد كوريا الشمالية عام 2017؛ ثانيا، نجاح روسيا في كبح الدعم الغربي لأوكرانيا بعد عام 2022 بالاعتماد على التهديدات النووية؛ وثالثا، الغارات الجوية الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على إيران.
الواقع اليوم هو أن الدول التي تمتلك سلاحا نوويا تتمتع بحصانة واحترام خاص أمام التدخلات الغربية، في حين تواجه الدول التي لا تمتلك هذه الأسلحة الضغوط والهيمنة. والرسالة الواضحة للدول المعارضة للغرب، لا سيما الدول الصغيرة، هي: أمامكم خياران فقط؛ إما أن تسعوا بكل طاقتكم للحصول على سلاح نووي، كما فعلت كوريا الشمالية، أو أن تكونوا، مثل إيران، عرضة للقصف والتهديد المستمر.
حتى بالنسبة للدول النووية غير الديمقراطية مثل روسيا، الصين، وباكستان، فإن القاعدة ذاتها تنطبق: لا يجب الدخول في أي مفاوضات جادة حول نزع السلاح مع الغرب، لأن التهديد النووي لا يزال أداة فعالة.
نموذج بيونغ يانغ
أصبحت كوريا الشمالية اليوم نموذجا استراتيجيا للدول التي تسعى للهروب من تهديدات الغرب وضمان أمنها. استراتيجيتها، المتمثلة في السعي المتواصل دون توقف للحصول على السلاح النووي، دون الاكتراث بأي تبعات أو تكاليف، أثبتت مرارا فاعليتها.
ويؤكد مفاوضو بيونغ يانغ منذ سنوات أن صدام في العراق أو القذافي في ليبيا لو امتلكا سلاحا نوويا، لكان مصيرهما مختلفا تماما؛ وتشير الشواهد التاريخية إلى أن هذا الاستدلال صحيح تماما.
الغريزة الاستراتيجية لكوريا الشمالية تستند إلى القناعة بأن السلاح النووي هو أفضل درع دفاعي ضد تدخل الغرب، وهذه القناعة تعززت مجددا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. يشعر القادة والمحللون الغربيون اليوم بقلق واضح من أن الدعم غير المشروط لحلف الناتو لأوكرانيا قد يدفع روسيا نحو استخدام الأسلحة النووية.
وهذا الخوف جعل المساعدات الغربية لأوكرانيا أكثر حذرا وتقييدا مما كان يمكن أن تكون عليه في غياب التهديد النووي. وعلى الرغم من أن بوتين لم ينفذ تهديداته النووية خلال السنوات الثلاث الماضية واقتصر على التهديد فقط، إلا أن ترامب ذهب إلى حد اتهام رئيس أوكرانيا بـ “المقامرة في حرب عالمية ثالثة”.
كما عززت الغارات الجوية الأخيرة لإسرائيل على إيران نفس المنطق الضمني الكوري الشمالي: كما حدث في العراق وليبيا، لو كانت إيران قد وصلت مسبقا إلى العتبة النووية، لكان من غير المرجح أن تكون هدفا لهجوم عسكري.
وقد أقر نتنياهو صراحة بأن الهدف الرئيسي من هذه الغارات هو إبعاد البرنامج النووي الإيراني. إن رفض ترامب الهجوم على كوريا الشمالية، واستراتيجية بيونغ يانغ المتشددة والمتسارعة نحو القنبلة النووية، ومقاومتها المستمرة لأي تفاوض بشأن نزع السلاح، تبدو الآن قرارات ذكية.
الدرس الدموي للقذافي وصدام لزعماء العالم
لكن ما يدعو للقلق هو أن أي حكومة غير راضية عن النظام الذي يفضله الغرب، قد تعيد طرح الخيار النووي كوسيلة لضمان بقائها، في حال تفككها أو تحولها نحو الراديكالية. فإلى جانب العراق، ليبيا وسوريا التي لا تزال تواجه حكومات غير مستقرة، فإن دولا مثل مصر، السعودية، أو حتى تركيا، يمكن أن تتحول، في حال تغير مسارها السياسي، إلى مرشحين محتملين لامتلاك السلاح النووي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تصاعد الحرب الباردة بين بكين وواشنطن يزيد من احتمال أن تستمر الصين في دعم عملائها النوويين، مثل كوريا الشمالية. ويمكن لازدياد نفوذ الصين في أفريقيا وجنوب شرق آسيا أن يعزز هذا السيناريو أكثر فأكثر.
حتى الآن، ظلت هذه الأزمة محدودة؛ لكن مع تخلي الولايات المتحدة عن سياسة الحد من الانتشار واستبدالها باستراتيجية المواجهة المباشرة والعسكرية ضد انتشار الأسلحة، فإنها تضع نفسها، دون قصد، في موقع “شرطي نووي” شبه دائم في جزء كبير من العالم الجنوبي.
وإذا انجرف أي من اقتصادات العالم المتوسطة وغير الغربية نحو نظام غير ليبرالي، فعلى الغرب أن يتهيأ لظهور “عدّاء نووي” جديد؛ لأن مثل هذه الأنظمة لن تثق في التفاوض مع الغرب، ولا في ضماناته الأمنية. على سبيل المثال، ماذا سيحدث إذا وصل الإسلاميون المعارضون، الذين حاولوا لسنوات إسقاط النظام الملكي السعودي، إلى السلطة يوما ما وقرروا بناء “قنبلة سنية”؟
المصدر: موقع فرارو