تدرك القيادة الإيرانية حجم الاستهداف الذي تتعرض له من قبل الإدارة الأمريكية ،وان هذه الإدارة غادرت إستراتيجية احتواء النظام الإيراني ،وتبني استراتجيتها الحالية على أساس “تغيير النظام “وهو ما عبرت عنه شروط وزير الخارجية الأمريكية ألاثني عشر القديمة الجديدة والمتجددة، في ظل إدراك أمريكي بصعوبة استجابة القيادة الإيرانية لهذه الشروط لأنها ببساطة تعني سقوط النظام.
المطروح اليوم أمريكيا هو الإجابة على تساؤل “كيفية ” إسقاط النظام الإيراني، خاصة وان مبررات هذا الإسقاط قائمة ” أسلحة دمار شامل ،تهديد وخطر على الأمن القومي الأمريكي وأرواح المواطنين الأمريكيين ،وزعزعة الاستقرار الإقليمي وما تشكله من خطر على حلفاء أمريكا” ،وتدرك إيران أن أمريكا لن تعدم الوسيلة في تبرير استهدافها ،وربما ساهمت بانجاز بعض هذه المبررات، بطريقة او بأخرى في إسقاط النظام العراقي ونظام طالبان في أفغانستان ،بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي الدوائر الأمريكية الضيقة تطرح اليوم ثلاثة سيناريوهات لإسقاط النظام وهي، أولا : مواجهة أدوات إيران في الإقليم بسوريا والعراق واليمن وفي لبنان ،باعتبار أن أية نجاحات على هذا الصعيد ستنعكس بمزيد من الضعف على القيادة والداخل الإيراني ،رغم الكلف العالية لهذا السيناريو ،والثاني :التوسع في فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران ،بهدف تعميق أزمة القيادة الإيرانية،وإعادة إحياء انتفاضة الشعوب الإيرانية، في ظل أوضاع اقتصادية متردية أصلا ،لم يسهم الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أمريكا في تخفيف وطأتها، لكونها ذهبت باتجاهات تخدم الحرس الثوري ومؤسسات الثورة ،والثالث: الجمع بين السيناريوهين الأول والثاني ،أي ممارسة أقصى الضغوطات الاقتصادية على إيران ،مع مواجهة أدوات إيران في الإقليم.ودون أن يغيب سيناريو رابع يتم تداوله في إطار التهديدات المبطنة وهو شن هجوم عسكري واسع على إيران، يستهدف مراكز القيادة والاتصالات والمفاعلات النووية والمطارات والمواني ومنظومات الصواريخ ،وهو ما يعني شل الدولة بالكامل .
التطورات على الأرض، حتى الآن، تشير إلى أن السيناريو الثالث وهو الذي يجمع بين العقوبات الاقتصادية ومواجهة أدوات إيران في الإقليم هو الذي يتم ترجمته ،حيث تتزامن قوائم العقوبات التي تصدر تباعا من قبل الإدارة الأمريكية ضد قيادات ومؤسسات الحرس الإيراني ،والدولة الإيرانية ، مع ضربات عسكرية متوالية تشنها إسرائيل على القواعد والمليشيات العسكرية التابعة لإيران في سوريا .
القيادة الإيرانية من جانبها تتعمق أزمتها،وتضيق خياراتها ،ويبدو أن حجم الاستهداف الأمريكي لن تجدي معه مقاربات إيرانية، تقوم على تبني ما يعرف بسياسات “حافة الهاوية” فهي لا تستطيع القبول بالشروط الأمريكية ،مع ضعف القدرة على مواجهتها واحتواء تداعياتها، بما في ذلك ضعف الرهانات على قدرة أوروبا وروسيا والصين على مواجهة الضغوط الأمريكية ،وضعف احتمالات نجاحها بإنقاذ الاتفاق النووي.رغم العروض الإيرانية السخية في مجالات الاستثمار بشروط ميسرة ، لإغرائها بالتمسك بالاتفاق ، إلا أن حجم مصالحها مع أمريكا اكبر بكثير من حجم مصالحها مع إيران .
موازين القوى العسكرية والسياسية دوليا وإقليما ليست في صالح إيران ،فمن ناحية لدى الرئيس الأمريكي أقطاب إدارة متجانسة ،خاصة في الخارجية والأمن القومي ووكالة الاستخبارات ،ربما تختلف هذه الأقطاب على كثير من القضايا إلا أنها منسجمة بموقف عدائي ضد إيران ،وهناك موقف أوروبي روسي وصيني سينحاز بالنهاية إلى جانب أمريكا ،رغم ما يعلن عن اعتراضات وتحفظات من قبل هذا الطرف او ذاك ،والاهم أن هناك موقفا تمثله دول الخليج العربي ،وعلى رأسها المملكة السعودية ،أنجزت تحالفا وثيقا غير مسبوق مع أمريكا ،وتتفق مع مواقفها وتدعمها بكل السبل، مستندة لرأي عام عربي وإسلامي ،تم تغيير اتجاهاته في سياقات الحروب المذهبية التي تشنها إيران في المنطقة ،لدرجة أن إسرائيل أصبحت ترى نفسها جزءا من التحالف في المنطقة ضد إيران.
وضمن هذا السيناريو ، أبقت الإدارة الأمريكية، من خلال وزير خارجيتها الباب مفتوحا لخيار التفاوض مع إيران ،للتوصل إلى “معاهدة ” جديدة بشروط الإدارة الأمريكية ،ورغم ضعف احتمالات قبول القيادة الإيرانية بإعادة التفاوض لانجاز اتفاق جديد ،لان تلك المفاوضات ستكون على غرار مفاوضات أوسلو وتبعاتها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي تدور في حلقات منذ ربع قرن دون أي انجاز يذكر على الأرض، كما تدرك إيران أن باب التفاوض مع أمريكا في حال فتحه فلن يتم إغلاقه ،وقد يستمر لسنوات طويلة دون انجازات، تبدد هواجس هذه القيادة ،وعلى رأسها حفظ النظام ،والتوقف عن استهدافه على الطريقة التي تسير نحوها كوريا الشمالية.
هذا السيناريو، بالإضافة إلى كونه يؤكد أن الخيار العسكري المباشر ضد إيران ،بشن حرب شاملة ضدها ،غير مطروح في هذه المرحلة إلا باعتباره خيارا أخيرا “مؤجلا” لن يتم الذهاب إليه إلا بعد استنفاذ خيارات أخرى ،اقل كلفة على أمريكا ،لكن خطورته تكمن بالكلف العالية المتربة عليه ،ليس على اقتصاديات إيران ،بل على اقتصاديات المنطقة ،وخاصة الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة كالأردن ولبنان ،إضافة لمناطق الصراع ذاتها في سوريا والعراق واليمن،فهل على المنطقة وشعوبها الاستعداد للتعامل مع حرب استنزاف طويلة المدى، وسنوات عجاف؟!