"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

إيران على حافة العطش : أزمة المياه تتحوّل إلى تهديد وطني شامل

شهدت الأيام الأخيرة من شهر مارس 2025 (انتهاء العام الإيراني1403) انتشار لقطات ومشاهد مقلقة لسدود جافة في أنحاء إيران، عكست حجم الكارثة المائية القادمة. أظهرت الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي جفافًا واسعًا في سد “كرج” أحد أهم السدود المغذية للعاصمة طهران، ما أثار موجة من القلق حول قدرة السلطات على تأمين مياه الشرب للعاصمة خلال الأشهر المقبلة. وقد قارن كثيرون هذه الصور الصادمة بالحال الذي كان عليه السد قبل عقود، حين كان من بين أكثر السدود امتلاءً بالمياه، ووجهوا أصابع الاتهام نحو السياسات الخاطئة في إدارة الموارد المائية.

لكن هذه المشاهد لم تكن سوى بداية ما يبدو أنه كارثة مائية كبرى قادمة نحو قلب إيران، في المنطقة الوسطى التي تضم محافظات رئيسية مثل فارس وأصفهان ويزد وكرمان وغيرها. ولم تكن تلك التوقعات بعيدة عن الواقع، إذ لم يُقطع فقط تدفّق المياه إلى يزد، بل تفاقمت الأزمة لدرجة اضطرت السلطات إلى إعلان عطلة شاملة في المحافظة يومي 4 و5 أبريل 2025.

أزمة مائية بلا حلول واضحة

صرّح علي شریعت، الأمين العام لاتحاد صناعة المياه الإيرانية، في مقابلة مع صحيفة “انتخاب” في مارس المنصرم، بأن البلاد تواجه أزمة حادة تتمثل في “خروج أربعة من خمسة سدود رئيسية تغذي طهران عن الخدمة”، مشيرًا إلى ضرورة التحضير لمرحلة “تقنين المياه”.

وفي ما يتعلّق بخطط نقل المياه من جنوب البلاد، أكّد شریعت أن هذه المشاريع “قد تُبرر فقط لنقل المياه إلى مدن قريبة من السواحل مثل سيستان وبلوشستان، وربما هرمزغان، لكن لا يمكن تبريرها لمحافظات تبعد بين 600 و1400 كيلومتر عن الساحل، لأن كلفة إيصال متر مكعب من المياه إلى هناك تصل إلى 4 إلى 6 دولارات، وهو أمر غير منطقي”.

وفي فبراير الماضي، كان النائب في البرلمان الإيراني علي كرد، ممثل مدينة خاش في محافظة سيستان وبلوشستان، قد صرّح بأن “مشروع نقل المياه من بحر عُمان إلى طهران غير ممكن بسبب التكاليف البيئية والمالية الباهظة”.

لم يكن الصراع المائي بين أصفهان ويزد بالشيء المستجد، لكنه بلغ ذروته هذا العام. ففي يوم السبت 5 أبريل 2025، قام مزارعو شرق أصفهان، بعد نحو ثلاثين يومًا من الاعتصامات احتجاجًا على عدم تدفّق مياه نهر زاينده رود، باقتحام محطات الضخ رقم 3 و4، ما تسبب بأضرار جسيمة وقطع تدفّق المياه إلى محافظة يزد، التي اضطرت إلى تعطيل رسمي يومي الأحد والاثنين 6 و7 أبريل.

وبينما كانت أغلب إيران تستعد للعودة إلى العمل بعد عطلة النوروز، أعلنت محافظة يزد عطلة إضافية ليومي 6 و7 أبريل بسبب تصاعد التوتر المائي. وقد نشرت صحيفة “بيام ما” تقريرًا أشارت فيه إلى أن مجموعات من أصفهان قامت خلال عطلة النوروز بتخريب خطوط نقل المياه إلى يزد، ما أدى إلى قطع الإمدادات بالكامل. هذا الانقطاع لم يؤدِ فقط إلى أزمة في يزد، بل زاد من حدّة احتجاجات المزارعين في أصفهان الذين يطالبون بحقوقهم المائية.

أمام هذا التصعيد، تدخل نائب وزير الداخلية للشؤون السياسية والأمنية، لكن وبالرغم من هذه التدخلات، بدا أن الحلول لا تزال بعيدة. فقد قرر محافظ أصفهان فتح سد زاينده رود لتأمين مياه الري للمزارعين، بينما أكد محافظ يزد، محمد رضا بابائي، أن الجهود مستمرة لإصلاح الأضرار في خطوط النقل، مشددًا على ضرورة حماية تلك البنى التحتية.

وفي المقابل، أفاد عیسی بزرك زاده، المتحدث باسم قطاع المياه الإيراني، أن “هناك ضرورة لإعادة النظر في الأحمال الزائدة على حوض زاينده رود”، في إشارة إلى الاستخدامات المكثفة من ثلاث محافظات: أصفهان، يزد، وخهار محال وبختياري.

خسائر مليارية نتيجة أزمة المياه

يبدو أن تصرفًا غير مدروس – وربما ناتج عن يأس – من بعض مزارعي أصفهان، تَسبّب بخسائر مالية بمليارات التومانات وعطّل محافظة كاملة. في هذا السياق، صرح حسين محمدي، رئيس غرفة نقابات الزراعة في مدينة هرند بأصفهان، أن مطلب المزارعين الوحيد هو “تدفّق مياه زاينده رود”.

ومع أن السلطات وعدت مرارًا بحلّ هذه الأزمة في السنوات الماضية، إلا أن التنفيذ الفعلي غائب، ما أدى إلى تصاعد النزاعات بين المحافظات. ويرى الخبراء أن السبب الجذري يكمن في غياب الإدارة المتكاملة والفعالة للموارد المائية.

أزمة وطنية وروايتان متناقضتان

تجدر الإشارة إلى أن أزمة المياه في يزد ليست طارئة، إذ أن هذه المحافظة الصحراوية تعاني منذ عقود من العطش المزمن. منذ ثمانينات القرن الماضي، بدأ مشروع طموح لنقل المياه من جبال زاغروس إلى يزد عبر خط أنابيب بطول 330 كيلومترًا، ينقل المياه من منابع زاينده رود في كهورنك إلى قلب الصحراء. كان الهدف من المشروع توفير 78 مليون متر مكعب من المياه سنويًا، وقد ارتفع هذا الرقم لاحقًا إلى 98 مليون متر مكعب بسبب النمو السكاني والصناعي. اليوم، يعتبر هذا الخط شريان حياة يزد.

وقد صرّح جواد محجوبي، مدير عام شركة المياه في يزد، أن نصف مياه الشرب في المحافظة تعتمد على هذا الخط، وأن تسع مدن من أصل 12 في يزد تستفيد منه. كما أشار إلى أن استهلاك الأسر في يزد أقل من المعدل الوطني، مما يدل على وعي السكان بأهمية ترشيد استخدام المياه.

لكن في المقابل، يرى المواطنون في أصفهان أن حقوقهم في مياه زاينده رود غير محترمة، وأنه لا يمكن إرسال مياه إلى يزد في ظلّ الجفاف الحاد الذي خفض منسوب النهر بشكل خطير.

أزمة المياه: أكبر تهديد لإيران خلال العقد المقبل

بعيدًا عن التفاصيل المحلية، يبدو أن صوت جفاف الأنهر وصدى الانفجار الاجتماعي بسبب العطش بات مسموعًا أخيرًا لدى المسؤولين الإيرانيين. فقد أصبحت أزمة المياه في إيران أزمة وطنية، أدت إلى تهجير قرى كاملة في محافظات مثل كهكيلويه، خراسان الجنوبية، سيستان وبلوشستان (خصوصًا القرى الأمنية والحدودية)، وخوزستان. ولعلها، كما يرى بعض المراقبين، تشكّل القشة التي ستقصم ظهر الوهم الرسمي بأن كل شيء تحت السيطرة.

ولم تعد أخبار هجر القرى بسبب نقص المياه مقتصرة على المناطق الجافة وشبه الصحراوية في إيران، بل وصلت مؤخرًا إلى محافظة كهكيلويه وبوير أحمد، المعروفة بغزارة أمطارها نسبيًا، وهو ما يدل على أن الخطر أصبح أكبر بكثير مما كان متصورًا. وقد بلغ الوضع من الخطورة أن رئيس مجلس بلدية طهران صرّح بأن “كل إيران تواجه أزمة نقص مياه”، مشيرًا إلى أن مياه العاصمة تُؤمّن من مصادر خارجية.

تغيّر مناخي أم إدارة مائية فاشلة؟

في أغسطس 2024، أشار الخبير المائي فيروز قاسم زاده إلى أن التغيّرات المناخية أدّت إلى انخفاض “الأمطار الفعّالة”، موضحًا أن هذا النوع من الأمطار هو ما يخترق طبقات التربة الجافة ويؤدي إلى جريان المياه نحو الأنهار والسدود.

ويعتقد العديد من الخبراء أن المشكلة لا تكمن فقط في التغيّرات المناخية، بل في الإدارة غير الكفؤة للموارد المائية، وفي إهمال الجهات الرسمية إيجاد حلول بناءً على الإمكانيات المتوفرة، مما أدّى إلى أزمة مائية طالت تقريبًا كل المحافظات.

وفي السياق ذاته، صرّح محافظ كهكيلويه وبوير أحمد، علي أحمدزاده، في أغسطس 2024، بأن المحافظة التي تحتوي على 10٪ من المياه السطحية الجارية في إيران، شهدت هجرة بعض القرى نتيجة أزمة المياه.

ورغم أنه لم يحدد عدد القرى المتأثرة، فقد أفاد مدير عام شركة المياه والصرف الصحي في المحافظة، أميد صالحي، بأن من أصل 189 قرية كانت ضمن التزامات وزارة الطاقة وقوات التعبئة، لم يُوصَل الماء سوى إلى 98 قرية فقط.

أما وزير الطاقة في حكومة رئيسي، فكان قد أعلن في عام 2023 أن نحو 8 ملايين نسمة من سكان القرى الإيرانية يعانون من أزمة مياه خانقة.

ولفهم حجم الكارثة، يكفي الإشارة إلى ما قاله محمد رضا نامي، رئيس منظمة إدارة الأزمات، خلال زيارة لمحافظة مازندران في أبريل 2024، حيث حذّر من أن هذه المحافظة المائية الغنية قد تتحول إلى صحراء خلال 15 عامًا إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لمعالجة النقص في المياه. وإذا كان هذا التحذير صادراً بشأن مازندران، فالوضع في المناطق الشرقية والوسطى الأشد جفافًا لا شك أكثر خطورة.

وفي أغسطس من العام نفسه، صرّح نائب مدير التشغيل في شركة المياه الإقليمية بخراسان الرضوية أن 99٪ من مساحة المحافظة تعاني من جفاف غير مسبوق.

وفي السنوات الأخيرة، لم يقتصر الغضب الشعبي على الانقطاعات المتكررة ورداءة نوعية مياه الشرب، بل تعداه إلى اندلاع اشتباكات بين سكان المحافظات الإيرانية المختلفة حول مشاريع نقل المياه. وسبق أن اتهم عيسى كلانتري، الرئيس السابق لمنظمة حماية البيئة، السياسيين بعدم الإيمان بالتنمية المستدامة، محذرًا من أن “حرب المياه بدأت بالفعل، وقد تصل إلى القرى”.

تفجّر أزمة المياه من خلال مشاريع النقل بين الأحواض

في الواقع، إن تقاطع التغيرات المناخية والجفاف وتراجع الأمطار مع فشل الإدارة المائية، زاد من تعقيد الأزمة. وعلى الرغم من أن مشاريع نقل المياه بين الأحواض تُعدّ من الحلول المستخدمة في الدول النامية لمعادلة التوزيع بين المناطق الجافة والرطبة، فإن هذه المشاريع في إيران كثيرًا ما نُفّذت بدوافع تجارية واستثمارية لصالح “مافيا المياه”، ما تسبّب في أضرار جسيمة.

من أبرز هذه المشاريع، مشروع “قمرود” الذي ألحق خلال السنوات الأخيرة أضرارًا لا تُحصى بالقطاع الزراعي في محافظة لرستان، حيث أدى إلى جفاف المياه الجوفية في شرق المحافظة، واندثار أكثر من 10 ينابيع في قرية عسكران التابعة لمدينة أليكودرز، وجفاف عشرات القنوات التقليدية، وتدمير البيئة في عدد من القرى مثل مغانك العليا والسفلى ومدينة شهريار.

وتظهر المعطيات أن السياسات المائية الخاطئة في إيران، إلى جانب نفوذ مافيا المياه، أسهمت في تدهور الزراعة، التي تُعدّ المصدر الأساسي للأمن الغذائي. هذا التدهور أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وصعوبة متزايدة للمواطنين في تأمين احتياجاتهم الأساسية.

وفي نهاية المطاف، فإن الأزمة نفسها التي دفعت بمزارعي أصفهان إلى الاحتجاج، وقادت إلى قطع المياه عن محافظة يزد، ورفعت الأزمة الصحراوية إلى مستوى الأزمة الوطنية، قد تمتد لتشكل تهديدًا شاملًا للأمن الغذائي في إيران.