القدس العربي :
بنها؛ مدينة العابرين الحانية، بنها العسل حسب الأدبيات الدينية، المدينة الواقعة شمال القاهرة وعلى مرمى البصر منها 45 كيلومترا، وقع أقدام الفراعنة، والبطالمة، والرومان، والعرب الفاتحين. المدينة التي تنام في حضن النيل كفتاة تأخذ غفوة في حضن حبيبها. مدينة المسافرين على مهل، الآخذين قسطا من الراحة في محطتها، قبل إكمال المسير. المحطة الأشهر في بر مصر، مدينة العلاقات العابرة، والكلمات المسافرة، التي على رصيف محطة قطارها يلتقي العابرون بحكايات وعلاقات عابرة.
في ساحتها القديمة ينتصب تمثال الزعيم سعد زغلول شامخا يشير بحزم في الفراغ إلى لا شي، فيما كانت قديما تقبع العربات التي تجرها الأحصنة «الحناطير» تحت قاعدته. مهنة جار عليها الزمن، كما جار على غيرها، لم يتبق منها الآن غير واحد أو اثنين على الأكثر.
«هتعمل نفسك من بنها» كلمات تتداول على سبيل الفكاهة، بالعامية المصرية، حتى صارت مثلا للتغافل، بينما هي في الحقيقة لها وجه آخر، فللمدن وجوه تقرأ منها، ومفاتيح تفض مغاليقها. «نازل في بنها» في الثلاثينيات وما بعدها كانت هذه الكلمات هي وسيلة المفلسين ماديا من راكبي القطارات المتجهة من القاهرة لمدن الدلتا المصرية، للهروب من محصل الأجرة «الكمسري» طلبا للإعفاء من التذكرة، نظرا لقصر المسافة بين القاهرة وبنها. فيتغافل عنه المحصل، هكذا انتسب إليها كثيرون؛ طلبة وعمالا وفلاحين بسطاء ليسوا منها، فصارت الكلمة مثلا.
بنها عبر العصور
تقول المصادر القديمة إن بنها كانت قرية فرعونية معناها «بي ونخا» أي بستان الجميز، وهي شجرة مقدسة كانت تصنع منها التوابيت والتماثيل الفرعونية لسهولة تشكيلها، والحقيقة أن ضاحية بنها الغربية أتريب هي أعرق أحيائها تاريخيا، لأنها تعد من أهم معاقل القرى التي تحولت إلى مدن في ظل حكم الأسر الفرعونية المتعاقبة، حيث كانت مركزا لعبادة الإله حورس، وفيها بنيت أحد أقدم المعابد له، الذي اندثر بفعل الوقت، والعوامل الجوية، وطمي النيل في فترات الفيضانات السنوية، فيما لا تزال تعثر بعثات التنقيب عن بقاياه المطمورة، في ما عرف بتلال أتريب، كذلك عثرت بعثة تنقيب هولندية على قاعدتي مسلتين من عصر رمسيس الثاني، أحد أهم ملوك الأسرة الثانية والعشرين، فيما تكمن أهمية أتريب التاريخية في المعاهدة التي أبرمت على أرضها، بعد اضمحلال عصور الرعامسة، وظهور مملكة منظمة قوية في جنوب البلاد، «بلاد مروى» تحت قيادة ملك قوي يدعى بنخي، الذي بدأ بالزحف على الأراضي المصرية، واستولى بالفعل على جنوب مصر، ولما أصبح على مشارف الدلتا، رأى أمراؤها أنه لا بد من مهادنته، فدعاه حاكم أتريب سري إيزيس لزيارتها، وهناك في معبد حورس تم عقد معاهدة الصلح بينهم، وتنصيب الملك أوسركون حاكما مفوضا على الدلتا من قبل عنخي.
بنها في العصرين البطلمي والروماني
أنشأ البطالمة في ضاحيتها أتريب معبدا خاصا بعبادة ألهة الإغريق، وكذلك فعل الرومان؛ حيث أنشأوا فيها معبدا للأمان يأمن على نفسه فيه من التجأ إليه، فضلا عن عثور بعثات التنيقب على نظام صرف وري هندسي بديع، عبارة عن قنوات حجرية، تتصل بالنيل، وتوزع على بيوت وبساتين المدينة، ما يعكس اهتمام الحكام بها، وكذلك أنشأ الرومان عددا من المنتديات العامة؛ كالحمامات الرومانية؛ وساحة ألعاب، وعددا من أماكن التقاء العامة، لا تزال بقاياها موجودة حتى الآن.
في ظل الفتح الإسلامي
استوطنها كثير من العرب الفاتحين، فيما ضعفت مكانتها، وكانت تستخدم حفائرها، وبقايا معابدها، في تزويد المشاريع البنائية الضخمة للقصور والمساجد والقلاع ببقايا الرخام والحجارة، التي يعثر عليها في خرائبها، كما أنها كانت معقلا للعديد من القبائل العربية، التي تصفها كتابات المؤرخين العرب، كالمقريزي، بأنها كانت مدينة حسنة البنيان، كثيرة المجاري المائية والخلجان، قبل أن تمتد إليها يد النسيان.
في عصر الأسرة العلوية
استوطنها الوالي عباس حلمي، وبنى فيها قصرا مجاورا لبساتينها، إعجابا منه بنقاء وجودة هوائها وتمدد بساتينها، وجعل منها عاصمة إقليم القليوبية عام 1852 بعدما كانت تابعة إداريا لمركز طوخ، ولتتحول العاصمة التاريخية للإقليم من قليوب إلى بنها، والغريب أن القصر الذي بناه الوالي عباس، هو القصر نفسه الذي اغتيل فيه لأسباب مجهولة حتى هذه اللحظة، ليتحول بعدها القصر إلى استراحه ملكية، كان ينزل فيها الملك فاروق، وبعد الثورة تحول القصر إلى جامعة لا تزال قائمة حتى الآن.
شخصيات بنهاوية بارزة
أنجبت بنها العديد من الشخصيات البارزة التي لعبت دورا مؤثرا في الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية، نذكر منهم نبوية موسى، رائدة الحركة النسائية في مطلع القرن العشرين. والشيخ يوسف الدجوي؛ وهو علامة أزهري مستنير الفهم؛ له العديد من المصنفات الشرعية، والاجتماعية التي لا يزال بعضها يطبع، ومنها «رسالة السلام». وينتسب إليها إقليميا الكاتب والمؤرخ الأشهر جمال حمدان صاحب «موسوعة شخصية مصر». كما ينتسب إليها العالم النووي يحيى المشد، الذي قاد البرنامج النووي العراقي، وقتل في باريس في حزيران/يونيو 1980.
تعد بنها الآن إحدى أجمل المدن المصرية، وتمتاز بوجود المصالح الحكومية المتنوعة فيها، والعديد من المنتزهات، والأماكن الخلوية، كما أن فيها عددا من المراكز الثقافية المهمة كالمكتبة العامة وقصر الثقافة، وتمتاز المدينة بكورنيش النيل الذي يعد متنفسا لأهلها والوافدين عليها، وتحرص المحافظات المتعاقبة على الاعتناء به، وتطويره لاعتباره المتنزه الأهم في المدينة، ورمز شخصيتها المتفردة. كما يمكن للعابرين والزائرين زيارة تلال أتريب، ورؤية بقايا الآثار الرومانية، وهي عبارة عن بقايا حمامات بنيت على الطريقة الرومانية بالحجر الأحمر والجص، وملحق بها ساحة كان يقام فيها عدد من الألعاب الرياضية، ومتنزه لا تزال بقايا مدرجاته موجودة حتى الآن. ويمكن أيضا زيارة القصر الذي بناه الوالي عباس باشا، والذي لا يزال قائما حتى الآن كمبنى إداري لجامعة بنها. على أن المتعة الأكبر هي الهيام في طرقات المدينة ليلا، مستمتعا بصخبها المعتدل، وطيبة ناسها المشهورين بالكرم.