الخليج الجديد :
لطالما كان من أولويات فرنسا توسيع نفوذها الاقتصادي والثقافي، لكن قوتها الناعمة تلقت ضربة في العام الماضي بسبب مقاطعة المنتجات الفرنسية في أجزاء من العالم الإسلامي بعد سياساتها المعادية للمسلمين بشكل واضح.
ونتيجة لذلك، شرعت فرنسا في حملات دبلوماسية متعددة تضمنت السعي لدور قيادي في صراعات مختلفة كوسيلة لإنقاذ سمعتها.
ومؤخرا، كان للعراق أهمية خاصة لدى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، وفي إطار سعيه لتوسيع نفوذ فرنسا في العراق، زار “ماكرون” البلاد مرتين منذ عام 2020.
وجاءت الزيارة الأولى في سبتمبر/أيلول 2020 وفيها أعرب “ماكرون” عن دعمه لسيادة العراق، وكانت المرة الثانية الأكثر أهمية في أغسطس/آب الماضي عندما زار “ماكرون” مدينة الموصل التي كانت معقلًا سابقًا لتنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، والتقى عددا من الوزراء ورئيس الحكومة “مصطفى الكاظمي”.
وخلال زيارته الأخيرة، قال “ماكرون” إنه يخطط لبقاء قوات بلاده في العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية نهاية عام 2021، وكان هذا إعلانًا غير مسبوق نظرا لمحدودية الدور الفرنسي في العراق سابقا.
ونجحت باريس سابقًا في الحفاظ على علاقات إيجابية مع بغداد وتجنبت تحمل الإرث المدمر الذي يرتبط بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة في العراق، بسبب معارضتها لغزو العراق عام 2003.
لعب دور المنقذ
إذا بقيت القوات الفرنسية وحدها فسوف تكافح لتحمل ثقل الوصاية على العراق في ظل وجود 800 جندي فقط متمركز في البلاد، وهي القوات التي نُشرت بالأساس لأغراض مكافحة الإرهاب مع صعود تنظيم “الدولة الإسلامية”. علاوة على ذلك، سيتوجب على فرنسا منافسة قوى مثل إيران والصين، لذلك ستواجه باريس تحديًا في ملء الفراغ الذي سيخلّفه رحيل واشنطن.
وتعد حملة العلاقات العامة الفرنسية تجاه بغداد استمرارًا لـ”دور البطل” الذي يحب “ماكرون” أن يلعبه في مثل هذه الأزمات. واتهم المنتقدون “ماكرون” بمحاولة رسم صورة “المنقذ الأبيض” بعد أن زار لبنان، الذي كان مستعمرة فرنسية سابقة، في أغسطس/آب 2020 في أعقاب انفجار مرفأ بيروت. ويبدو أن العراق، الذي لا يزال يواجه عدم الاستقرار، هو الهدف القادم لفرنسا.
وتولي فرنسا أيضًا اهتمامًا خاصًا بليبيا. وبالرغم من وقف إطلاق النار الذي تم الإعلان عنه في أكتوبر/تشرين الأول 2020، فإن طريق ليبيا نحو التحول الديمقراطي لا يزال وعرًا. ومن المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني على التوالي.
ولكن مع استمرار الخلاف الدائر بين حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية في طرابلس ومجلس النواب في طبرق (يعكس الانقسامات القديمة بين شرق وغرب ليبيا) عرضت فرنسا استضافة مؤتمر في نوفمبر/تشرين الثاني لضمان سير عملية الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول كما كان مقررا.
وخلال هذا الإعلان، قال وزير الخارجية الفرنسي “جان يفيس لي دريان” إن بلاده تريد إجراء الانتخابات وفق جدولها الزمني، وشدد على ضرورة “رحيل القوات الأجنبية والمرتزقة”، وذلك خلال مؤتمر صحفي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول.
ولا يعد السعي للنفوذ على المستقبل السياسي في ليبيا شيئا جديدا بالنسبة لفرنسا، التي قادت تدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011 لدعم المعارضة الليبية ضد “معمر القذافي”. وبالإضافة إلى ذلك، قدمت باريس الدعم السياسي والعسكري للجنرال الليبي “خليفة حفتر” خلال حملته للاستيلاء على العاصمة طرابلس.
وبالرغم من التناقض الظاهري، بالنظر إلى تورط باريس في تأجيج الصراع الليبي وسعيها الآن لرعاية مبادرات السلام، إلا إن هذا يأتي في سياق برجماتي لضمان أن تصبح فرنسا لاعبا مهيمنا في العملية السياسية في البلاد.
المصالح الاقتصادية والجيوسياسية
وتأتي رغبة فرنسا في رعاية مستقبل هذه البلدان في سياق مصالحها السياسية والاقتصادية. وشهد “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” الذي عقد في 28 أغسطس/آب، تطلع فرنسا لتقديم نفسها كـ “شريك للحكومة العراقية وراعي لمصالح العراق الإقليمية والدولية”، وفقا لمسؤول عراقي.
وفي 7 سبتمبر/أيلول، أعلنت وزارة النفط العراقية أنها عقدت صفقة مع شركة “توتال” الفرنسية بقيمة بقيمة 27 مليار دولار، بما في ذلك 10 مليارات دولار في البنية التحتية، والتي ستسمح لاحقا بتمويل المرحلة الثانية من الاستثمارات بقيمة 17 مليار دولار.
كما يضمن دعم فرنسا لاستقرار ليبيا وبناء العلاقات مع الجهات الفاعلة السياسية الرئيسية أن تتمكن الشركات الفرنسية من العمل هناك بحرية.
وفي يونيو/حزيران الماضي، التقى ممثلو جمعية “أرباب العمل” الفرنسية، وهي أكبر اتحاد يجمع أرباب العمل في فرنسا، مع كبار المسؤولين الليبيين بما في ذلك رئيس الوزراء المؤقت “عبدالحميد الدبيبة” للنقاش حول عملية إعادة الإعمار.
وقبل ذلك، بدأت “توتال” محادثات جديدة مع الحكومة الانتقالية الليبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، لإعادة تطوير حقول النفط في البلاد.
ولا يمكن إهمال دور التنافس المحتدم مع تركيا في سياسة فرنسا الإقليمية الهادفة لزيادة النفوذ. وفي عام 2020، أدى تدخل أنقرة لصد هجوم “حفتر” إلى تحفيز محاولات فرنسا في كل من ليبيا وشرق البحر المتوسط لمواجهة التحركات التركية. كما إن عرض تركيا للمساعدة في إعادة إعمار ليبيا يهدد أيضا مصالح باريس في ليبيا.
وبالرغم من محالولات تخفيف التوتر بين البلدين خلال العام الجاري، لا يزال التنافس التركي الفرنسي واضحا، وهو ما تجلى في الخلاف الأخير بين باريس والجزائر (بعد أن أشار ماكرون إلى أن الجزائر لم تكن أمة أبدًا قبل أن تستعمرها فرنسا) حيث زعم أن “الدعاية التركية” وراء معارضة الجزائر لفرنسا.
ومن الواضح أن أهداف السياسة الخارجية الفرنسية لا تهدف فقط إلى تعزيز قوتها الناعمة ونفوذها الجيوسياسي، ولكنها تهدف أيضًا لتحدي من تراهم منافسيها. وفي هذه الأثناء، فإن أجندة فرنسا لا تراعي شعوب المنطقة.
وفي حين أنه من المهم بالفعل توفير الأمن في بلدان مثل ليبيا والعراق التي شهدت صراعات وعدم استقرار، فينبغي على فرنسا أن تضمن مواءمة سياستها الخارجية مع جهود الأمم المتحدة لدعم الاستقرار الحقيقي في هذه البلدان.