التجربة الأولى في كل شيء تقريباً تُصيبنا بالدهشة والغرابة، فالبشر الذين استخدموا القطار والطيارة والإنترنت وغير ذلك، لأول مرة، شعروا بذلك، وأيضاً الذين جرّبوا أول قبلة وأول ضمة…
في منزل أحد أقاربنا في المدينة، جرّبت لأول مرة في حياتي التحدث على الهاتف. كان الأمر مدهشاً وغريباً وغير مفهوم بالنسبة إليّ. كيف يمكن للصوت أن ينتقل عبر سلك معدني؟! حين عدت إلى القرية، رحت أتباهى أمام أقراني بذلك، في وقت لم يكن هناك أي هاتف في قريتنا التي لم تكن تتجاوز عشرة منازل حينذاك.
بعد عدة سنوات، وصل الهاتف إلى كل منازل القرية تقريباً. وخلال الأشهر الأولى، لم يكن يرن الهاتف سوى مرة أو مرتين خلال اليوم، ولم يكن مسموحاً أن يرد عليه أحد طالما أن والدي في المنزل، وفي حال غيابه تتولى مهمة الرد أمي أو إخوتي.
مع الوقت، أصبح أبي يطلب من أحد إخوتي الرد في حال لم تكن لديه رغبة في ذلك، وكان محظوظاً مَن يقع عليه الاختيار. بالنسبة إليّ، وبما أنني الأصغر في العائلة، كنتُ محروماً تماماً من الاتصال أو الرد، وفي حال ضُبطت وأنا أقوم بمكالمة ما يوبّخني الجميع.
ابن عمي الذي يقع منزله على بعد حوالي مئة متر من منزلنا كان محروماً مثلي من استعمال الهاتف، وعلى مدار عدة أسابيع كنّا ننسق معاً لإجراء مكالمة هاتفية. وفي إحدى المرات، ذهبت راكضاً لأخبره أن والدي أخذ جميع إخوتي للعمل في الحقل، فتفاجأت بأن عمي فعل الأمر نفسه، وهذا ما جعلني أعود راكضاً إلى المنزل لأجري معه مكالمة هاتفية طويلة تحدثنا فيها عن قضايا غاية في الأهمية.
لم يكن الهاتف المحمول والكمبيوتر أقل دهشة بالنسبة إليّ من الهاتف الأرضي، أما الإنترنت فكانت دهشتي بها مختلفة لدرجة أنني اتهمت أحد أقاربي الذي كان يشرح لي ما هو الإنترنت بالكذب حين قال إنه يمكنني من خلال تطبيق أن أتحدث مع أي شخص في العالم بالصوت والصورة. ما قاله كنتُ قد شاهدته فقط في برامج الأطفال وأفلام الخيال العلمي.
مع بداية دخول الهواتف المحمولة والكمبيوتر والإنترنت إلى قريتنا، وفي إحدى الجلسات، وُجّه سؤال إلى أحد الشيوخ: ما رأيك بما وصلت إليه البشرية من اختراعات وخاصة الإنترنت والهواتف المحمولة؟ وكان جوابه بالنسبة إليّ لا يقل دهشة وغرابة عن أول مرة تحدثت فيها على الهاتف الأرضي. قال: كل الاختراعات والاكتشافات العلمية مذكورة في القرآن، والعلماء الأجانب أخذوها منه، فمثلاً السيارات والطيارات والمركبات الفضائية ذكرت في سورة النحل {[6] وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [7] وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، والمقصود بقوله “ويخلق ما لا تعلمون” هو كل ما تركبونه الآن وستركبونه في المستقبل.
قال الشيخ: كل الاختراعات والاكتشافات العلمية مذكورة في القرآن، والعلماء الأجانب أخذوها منه، وأضاف أن أي اكتشاف يخالف القرآن هو باطل حتماً، وعلى سبيل المثال القول إن الأرض كروية هو باطل
ثم تابع كلامه: التنقل بسرعة الضوء ذكره القرآن قبل المدعو آينشاتين، في قصة النبي سليمان، حين طلب أن يحضروا له عرش بلقيس، إذ قال الله في الآية 40 من سورة النمل {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، ولو لم يكن الذي عنده علم الكتاب يتحرك بسرعة الضوء لما استطاع أن يجلب عرش بلقيس لسليمان قبل أن يرتد طرفه.
بالطبع، كان من بين الحضور أشخاص لم يقنعهم كلامه، ولكنهم كانوا خائفين من الرد عليه لاعتبارات دينية واجتماعية.
كل الاكتشافات العلمية، أكمل الشيخ كلامه، التي لم تُذكر في القرآن قد تكون صحيحة ولكن أي اكتشاف يخالف القرآن فهو باطل حتماً، وعلى سبيل المثال القول إن الأرض كروية هو باطل، لأن الله سبحانه وتعالى قال في الآية 20 من سورة الغاشية {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ولم يقل كيف كُوِّرَت أو دُوِّرت. أما الذرّة التي تتكون منها القنبلة الذرية فقد ذكرها الله سبحانه وتعالى.
قلت للشيخ: حين تقول إن كل الاكتشافات والاختراعات العلمية موجودة في القرآن هذا اعتراف منك بأننا أغبياء وجاهلون، فالقرآن كتاب المسلمين وعلماؤنا لم يستطيعوا أن يخترعوا شيئاً في حين أن العلماء الأجانب فعلوا ذلك
وبما أنني أتحدر من عائلة متدينة ووالدي شيخ، لم أكن أخشى الشيخ المتحدث كالآخرين، ما جعلني أقاطعه قائلاً: العلم يقول إن الأرض مدورة، وقد أثبت ذلك بعدة طرق علمية ومنطقية فكيف يمكن أن تثبت أنت بأنها مسطحة؟ رد بهدوء: يا بني! الله قال في القرآن إنها مسطحة فإن لم تقتنع بكلام الله فهذا شأنك. وبهدف تأليب الموجودين عليّ، قال: أتشكّك بكلام الله؟! ابتسمت وبهدوء قلت: أنا لا أشكك بصحة الآية بل أناقش فكرتك الخاطئة التي تحاول إثباتها على أنها حقيقة مطلقة مستنداً إلى القرآن، فهذه الآية وما شابهها من الآيات حول الأرض لها معنى آخر مغاير تماماً لما قلته.
نظر إليّ مستهزئاً وقال: “تفضل لشوف شو هالمعنى يلي حضرتك بتعرفو ونحنا ما منعرفو”. قلت: إن كل ما ورد في القرآن عن الأرض من كلمات كـ”سُطِحت” التي جاءت في سورة الغاشية، وكلمة “دحاها” كما جاء في الآية 30 من سورة النازعات ا{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، و”بساطاً” كما في الآية 19 من سورة نوح {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً} وغير ذلك، لا تنفي كروية الأرض ولا تثبت أنها مسطحة بحسب رأي كثيرين من رجال الدين ومفسري القرآن؛ لأن المقصود بهذه الكلمات ليس شكل الأرض بكليتها وإنما اليابسة التي خلقها الله وبسطها فوق الماء وجعلها صالحة للحياة البرية.
وقبل أن يتكلم قلت له: اسمح لي أن أكمل حتى النهاية وبعدها سأسمعك حتى الصباح. ألم يقل الله في الآية 34 من سورة لقمان {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}؟ ما رأيك إنْ قلت لك إنه من خلال التصوير بالموجات فوق الصوتية يمكن معرفة إنْ كان المولود في الرحم ذكراً أم أنثى، وهذا مثبت وملموس على أرض الواقع، فهل يمكن أن نقول إن هذا الأمر خاطئ لأن القرآن يقول عكس ذلك؟ أم أن هناك تفسيراً آخر للآية؟
وتابعت: أيها الشيخ، حين تقول إن كل الاكتشافات والاختراعات العلمية التي وصل إليها العلماء الأجانب موجودة في القرآن هذا اعتراف منك بأننا أغبياء وجاهلون، فالقرآن كتاب المسلمين وعلماؤنا لم يستطيعوا أن يخترعوا شيئاً في حين أن العلماء الأجانب فعلوا ذلك.
نظر إليّ وباستهزاء وقال: كلامك كله بلا معنى ولم يقنعني. أجبته: أنا لا أحاول إقناعك بل أحاول لفت انتباهك إلى رأي آخر غير رأيك.