ساسة بوست :
نادرًا ما تظل الحرب الأهلية شأنًا داخليًّا بحتًا
نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريرًا لـ ديفيد كامف، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية، سلَّط فيه الضوء على مستجدات الحرب الأهلية الجارية في إثيوبيا؛ ثاني أكبر دول أفريقيا من حيث عدد السكان بعد نيجيريا والعاشرة من حيث المساحة وتقع في القرن الأفريقي. وقد طرح الكاتب عدة تساؤلات بشأن التنبؤ بإمكانية تدخل بعض الأطراف الخارجية في الحروب الأهلية، ولماذا لا يُرجَى أي خير من هذه التدخلات، مستدلًا بعدة حروب أهلية لم تضع أوزارها بعد بسبب تدخل جهات خارجية.
إقليم تيجراي: نشأة الصراع في إثيوبيا
في بداية التقرير، أشار الكاتب إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أصدر أمرًا بدخول القوات الإثيوبية إلى إقليم تيجراي، الواقع في شمال البلاد، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني)، متَّهمًا قيادات أحد الفصائل الإثيوبية القوية (جبهة تحرير شعب تيجراي) بالخيانة العظمى. وزعمت الحكومة يوم السبت أن جيشها سيطر على مدينة ميكيلي عاصمة إقليم تيجراي. وفي يوم الاثنين، اتَّهمت قادة تيجراي قوات الحكومة الإثيوبية بشن «حملة إبادة جماعية» ضد سكان الإقليم.
يقول الكاتب إنه منذ أن تولى آبي أحمد شؤون البلاد، بدأت مكونات التوترات بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيجراي، والتي كانت في السابق قوة سياسية مهيمنة على النظام الإثيوبي، تختمر وتتشكل. واندلع الصراع بينهما بُعَيد ادِّعاء أحمد أن جبهة تحرير شعب تيجراي تجاوزت «الخط الأحمر» عندما هاجم أهالي تيجراي قاعدة عسكرية تابعة للجيش الفيدرالي الإثيوبي في أوائل نوفمبر. وتزايدت المخاوف من ارتكاب جرائم وحشية جماعية بعد انتهاء مهلة الـ 72 ساعة التي منحها أحمد لقادة جبهة تحرير شعب تيجراي للاستسلام في الأسبوع الماضي.
أسئلة ذات دلالة
وتساءل الكاتب: هل من الممكن أن يتحول هجوم رئيس الوزراء الإثيوبي إلى حرب أهلية شاملة، وهل من الممكن أن تمتد هذه الحرب إلى الدول المجاورة؟ لقد فرَّ عشرات الآلاف من المدنيين إلى دولة السودان، وهو ما يُهدد استقرارها. وأفادت تقارير أخرى، في وقت سابق من الشهر المنصرم، أن قوات تيجراي أطلقت صواريخ متعددة على دولة إريتريا، وهي خصم لجبهة تحرير شعب تيجراي منذ مدة طويلة. وإذا قررت السودان أو إريتريا التدخل في هذه الحرب الأهلية، فقد تحذو أطرافٌ خارجية أخرى حذوَهما.
وأوضح الكاتب قائلًا: إن بحثي يشرح أسباب إمكانية التنبؤ بحدوث تدخل أجنبي في الصراع الدائر على الأراضي الإثيوبية، والأسباب التي تؤدي إلى تفاقم الأوضاع السيئة لتتحول إلى الأسوأ بعد تدخلات جيوش الأطراف الخارجية.
طبيعة الحروب الأهلية
لفت الكاتب إلى أن الأطراف الخارجية غالبًا ما تتدخَّل في المعارك التي تندلع داخل دول أخرى، ويزداد تطفل الغرباء الذين يَحْشُرون أنوفهم في هذه الصراعات. وتكشف المعطيات أن تدخلات القوى الخارجية في الحروب الأهلية تزايدت خلال السنوات الأخيرة، سواء من حيث الأرقام أو نسبة الحروب الجارية.
وقد شكَّل التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، خلال الحرب الباردة، معظم التدخلات في شؤون الدول الأخرى. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أوْلَت الدول جُلَّ اهتمامها لإيجاد تسويات تفاوضية بين الأطراف المتنازعة ونشر قوات حفظ السلام للحفاظ على السلام. لكن الولايات المتحدة والقوى الإقليمية والدول المجاورة لم تعد تتردد كثيرًا في التدخل في شؤون غيرها من الدول بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وبعد بداية ظهور دلالات عديدة على ضعف النظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. واليوم، تضم غالبية الحروب الأهلية الشاملة جيوشًا أجنبية ومجموعاتٍ مسلحة ومقاتلينَ أجانب -كما يقول الكاتب.
لماذا تتدخَّل الجيوش الأجنبية؟
وأوضح الكاتب أن الجيوش الأجنبية لا تلعب دور المشاهد البريء في الحروب الأهلية. وقد اجتذبت الصراعات الداخلية جيوشًا خارجية بالفعل خلال العام الماضي أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية. وربما قلَّلنا في السابق من تقدير حجم التدخل الخارجي في الصراعات الأفريقية على وجه التحديد.
وذكر الكاتب أن أحد أسباب هذه التدخلات الخارجية يتمثل في الآثار السيئة الناجمة عن النزاعات المحلية التي لم يُكبح جماحُها بعناية داخل حدود إحدى الدول التي مزقتها الحرب. وقد يتسلل اللاجئون والمتمردون بسهولة إلى خارج الحدود الوطنية، ناهيك عن تهريب الأسلحة والمخدرات وغيرها من المواد غير المشروعة، وهو ما يُهدد استقرار الدول المجاورة.
وحقَّقت أعداد اللاجئين الذين يعيشون في الخارج رقمًا قياسيًّا في ظل الحروب الأهلية الأخيرة التي أدَّت إلى نزوح أعدادٍ أكبر من الأعداد التي سُجِّلت في عقود سابقة، وقد سُجِّلت أعلى إحصائية لأعداد اللاجئين الذين يعيشون في الخارج في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وتُمثل أعداد اللاجئين الهائلة خطرًا على الدول المضيفة الأكثر ضعفًا. وقد تؤدي الضغوط الواقعة على الموارد الاقتصادية أو التهديدات التي يتعرض لها الأمن الداخلي أو التغيرات الطارئة على التركيبة السكانية المحلية أو العداوات والأحقاد الحديثة بين الشعوب إلى إيجاد دوافع للتدخل الخارجي.
وألمح الكاتب إلى أن إقليم تيجراي استوعب قرابة 100 ألف لاجئ من الشعب الإريتري في أعقاب حرب سابقة، وقد يُهجَّر عديدٌ منهم من الإقليم مرةً أخرى. وأفادت التقارير أن الوتيرة المتسارعة التي ينزح بها الإثيوبيين حاليًا إلى السودان تكتسح منظمات الإغاثة، ومن المرجح أن تشهد أعداد هؤلاء الذين ينشدون السلامة ويبحثون عن مأوى قفزات كبيرة. وتمر السودان بمرحلة انتقالية هشَّة بعدما أطاحت الاحتجاجات الشعبية، في العام الماضي، بالديكتاتور الذي حكم البلاد لمدة طويلة، ولذلك تقف السودان في موقف لا تُحسَد عليه بسبب تدفق اللاجئين من إثيوبيا إليها.
ونوَّه التقرير إلى أن الصراعات الأهلية تؤثر أيضًا على اقتصادات الدول المجاورة. إذ تُشير الأبحاث إلى أن الآثار الاقتصادية السلبية يمكن أن تمتد مئات الأميال خارج حدود البلاد التي تعيش في حالة حرب، إلى جانب ما ينتج عنها من خسائر في الاستثمار الإقليمي وزيادة في التجارة غير المشروعة. ولذلك تهتم الدولة المجاورة بالصراعات الدائرة في المناطق القريبة منها.
الحروب الأهلية تضاعف مخاطر اندلاع الحروب بين الدول
يرى المحللون أن أحد أفضل المؤشرات على قُرْب اندلاع حرب أهلية هو وجود ثمة حرب أهلية أخرى تدور رحاها في منطقة مجاورة. وقد تؤدي الآثار السلبية العابرة للحدود إلى تفاقم التوترات المحلية وإثارة الصراعات الداخلية في دول أخرى. وبذلك، تتفشى عدوى النزاعات لاحقًا.
وألمح الكاتب إلى أن الجيوش الخارجية التي تتدخل لمنع التداعيات السلبية قد تثير نزاعًا دوليًّا شاملًا. وبالمثل، ربما ترى الأنظمة الحاكمة، التي تشن معارك داخلية، أن هناك مبررًا لشن حملات لمكافحة التمرد عبر الحدود أو مهاجمة الخصوم الأجانب الذين يدعمون مجموعات المعارضة. يقول إيدين صالحيان، الباحث في العلوم السياسية، «إن أكثر من نصف الجماعات المتمردة تعتمد على ملاذات خارجية أثناء الحروب الأهلية، لذلك تريد الحكومات في كثير من الأحيان ملاحقة أعدائها في الخارج».
الغرباء يميلون إلى إفساد الأمور
وتابع الكاتب قائلًا: جرت العادة أن أي قوة عسكرية خارجية تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة تتسبب في إلحاق الضرر بالأمن الداخلي والدولي. ولا يخفى على أحد حقيقة أن تدخل عديد من القوى الخارجية في تلك الصراعات الدائرة في سوريا واليمن، على سبيل المثال، لا يُبشر بزوال المعارك الجارية في هذه الدول قريبًا.
يقول الكاتب: لقد اعتدنا أن تؤدي التدخلات إلى تحفيز الدول المنافسة للقيام بمزيد من التدخلات. وأظهر بحثي هذا أنه بمجرد دخول عديد من القوات الأجنبية المتنازعة على خط النزاع الداخلي لإحدى الدول، فإن الحروب الأهلية تدوم طويلًا. ونظرًا لصعوبة إرضاء عدد كافٍ من الناس وإِسْعَادهم أثناء المفاوضات عبر التوصل إلى حلول وسط، فإن الحلول الممكنة تغدو أكثر تعقيدًا بسبب تورط مزيد من الأطراف ذات المصالح الشخصية وغير المشتركة.
وخلُص الكاتب إلى أنه حتى إذا وافقت الأطراف المتنازعة على تحقيق السلام وإلقاء السلاح، تُضاعف التدخلات من احتمالات تكرار النزاعات من جديد، وهذا ما كان عليه الحال في أفغانستان والكونغو والصومال.
وقد تشهد الصراعات المحلية تصاعدًا سريعًا وتتحول إلى حروب بالوكالة، عندما تستفيد قوة عظمى من توريط غيرها من الدول في خوض صراعات جديدة. وخير مثال على ذلك، الحرب التي تدور رحاها الآن في ليبيا، إذ أدَّى عدد القوى الخارجية الهائل (مصر وفرنسا والأردن وقطر وروسيا والسودان والمملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة) إلى تحويل الصراع إلى أوضاعٍ مختلفة تمامًا عما كانت عليه في البداية. وفي الغالب تدوم الحروب بالوكالة طويلًا، كما أنها دائمًا ما تتحول إلى صراعات واسعة النطاق.
سياسة
«المونيتور»: هل تؤثر الأزمة بإثيوبيا في العلاقة بين مصر والإمارات؟
المؤشرات لا تُبشر بخير لإثيوبيا
وفي ختام تقريره، أكَّد الكاتب على أن تدخلات القوى الخارجية لا تتسبب جميعها بالتأكيد في تفاقم الأمور وتحويلها إلى الأسوأ. إذ توصَّلت معظم الدراسات إلى أن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تؤدي دورًا فعالًا، على الرغم من أنها ليست مثالية بطبيعتها الحالية، وتميل هذه القوات إلى الحد من أعداد الوفيات بين المدنيين وتقصير أمد الحروب وإطالة حالة السلام والحيلولة دون انتشار الصراع إلى دول أخرى. ومع ذلك، لا نشهد النتائج نفسها تتحقق عندما تتورط قوى عسكرية خارجية في نزاع داخلي في إحدى البلدان.
وباختصار، تؤدي التدخلات إلى إثارة مزيد من التدخلات وتسفر عن إطالة أمد الحروب الأهلية، إلى جانب أنها تضاعف من فرص اندلاع الحروب بين الدول. وبالنسبة لإثيوبيا، لا شيء من هذا يُبشر بخير. وقد تصبح إريتريا والسودان ومصر وغيرها من الدول المجاورة أطرافًا فاعلة أساسية في اندلاع حرب أهلية شاملة في إثيوبيا من دون أن تلوح لها نهاية في الأفق.