"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

كبرى مدن الرومان في المغرب.. تاريخ مدينة وليلي منذ ما قبل الميلاد

على بعد نصف ساعة بالسيارة من مدينة مكناس الإسماعيلية في المغرب، تحديدًا على سفح جبل زرهون، تتراءى للناظر مجموعة أطلال أثرية، مزينة بالفسيفساء الملونة وتماثيل الرخام والمنقوشات الرومانية على أعمدة الجدران القديمة، تُخبرك أن هذا المكان كان يومًا نابضًا بالحياة المترفة.

إنها أطلال مدينة وليلي الرومانية، المسماة باللاتينية (Volubilis)، والمصنفة ضمن التراث العالمي من قبل اليونسكو.

تاريخ مدينة وليلي

كانت المنطقة حول مدينة وليلي مأهولة بالسكان على الأقل منذ أواخر العصر الحجري الحديث، أي قبل حوالي 5000 عام، إذ وجدت الحفريات الأثرية في الموقع أن فخارًا من العصر الحجري الحديث يضاهي القطع الموجودة في أيبيريا.

تاريخ

منذ 8 شهور
«ناشيونال إنترست»: حرب الرومان على قرطاج.. حين دمرت الوحشية حضارة عظيمة

بحلول القرن الثالث قبل الميلاد، كان القرطاجيون يعمرون المكان، كما يتضح من بقايا معبد للإله البوني بعل واكتشافات فخار وحجارة منقوشة باللغة الفينيقية.

لكن بعد سقوط قرطاج، عام 146 قبل الميلاد، أصبحت المدينة تابعة للرومان، واستمر رغم ذلك النفوذ الفينيقي بالمنطقة، إلى أن وضع الإمبراطور الروماني أغسطس ملك نوميديا الأمازيغي الأصل، جوبا الثاني، على عرش المقاطعة الموريتانية التي كانت تضم شمال المغرب، في عام 25 قبل الميلاد.

وكان جوبا الثاني قد تلقى تعليمه في روما وتزوج من كليوباترا سيلين الثانية، ابنة مارك أنطوني وكليوباترا، وأراد إنشاء مدينة ملكية في وليلي على طريقة العمارة الرومانية.

بحلول عام 44 ميلادية، ضمّ الحاكم الروماني كلوديوس مقاطعة موريتانيا تحت حكم الرومان مباشرة، لتتطور المدينة بشكل كبير وتزدهر ثروتها، وجذبت الكثير من الناس إليها، فكانت تصدر زيت الزيتون والقمح إلى روما، كما كانت تصدر الحيوانات البرية مثل الأسود والنمور لمواجهة المصارعين في ساحات المجالدين، الشائعة آنذاك في الإمبراطورية الرومانية.

وصفها المؤرخ بومبونيوس ميلا في القرن الأول الميلادي، بأنها كانت واحدة من «أغنى مدن المقاطعة الموريتانية الرومانية».

ظلت المدينة دائما معرضة لتهديدات القبائل المحلية، إذ كانت تقع في أقصى الحدود الرومانية في مقاطعة موريتانية؛ مما جعلها منطقة أمامية في مواجهة الهجمات القبلية المعادية، ومع ذلك ظلّت صامدة بفضل الحصون العسكرية الدفاعية التي كانت تحيط بها.

غير أنه في عام 280 ميلادية، انهار الحكم الروماني عندما تفككت الإمبراطورية بسبب الحروب الداخلية والاغتيالات والانقلابات، لتنتهي سيطرة روما على المدينة في أعقاب الفوضى، وتسقط وليلي في أيدي القبائل المحلية عام 285 ميلادية. ولم تستعدها روما أبدًا، بالرغم من أن الإمبراطورية الرومانية جمعت شتاتها فيما بعد، وذلك لبعدها الكبير عن روما.

مجموعة من الصور من مدينة وليلي التاريخية.

وعندما وصل العرب عام 708 ميلادية، وجدوا مدينة وليلي مأهولة بسكان يونانيين، وأمازيغ، ومسيحيين، ويهود، يتحدثون جميعًا اللغة اللاتينية، ثم انضافت إليها قبائل عربية، وأصبحت المدينة تحت الحكم الإسلامي، وتوثق قطع نقدية إسلامية يرجع تاريخها إلى القرن الثامن تلك الحقبة للمدينة.

اتخذها إدريس بن عبد الله، مؤسس سلالة دولة الأدارسة في المغرب، مقرّا له، بيد أنه في القرن الحادي عشر ميلادي تخلى عن وليلي، ونقل مقر السلطة إلى فاس، كما نُقل الكثير من سكانها المحليين إلى بلدة مولاي إدريس زرهون الجديدة، التي تبعد حوالي 5 كم عن مدينة وليلي.

منذ ذلك الحين، تعرضت عمارة مدينة وليلي إلى النهب والتخريب بشكل مستمر، ومع ذلك ظلت بناياتها الضخمة سليمة إلى حد كبير حتى دمرها زلزال لشبونة في منتصف القرن الثامن عشر، ونُهب بلاطها ورخامها لبناء قصور السلطان مولاي إسماعيل في مكناس.

آثار تظهر الحياة الرغيدة لسكان مدينة وليلي

لم يتم اكتشاف موقع مدينة وليلي، المدينة التاريخية القديمة، إلا في بداية القرن العشرين، خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب، حينئذ عكف علماء الآثار الفرنسيون على التنقيب في الموقع وترميم بقايا الأطلال، لتطفو على السطح من جديد آثار مدينة رومانية كانت في يوم ما نابضة بالحياة والترف.

وهي اليوم تصنف أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو؛ لكونها «مثالًا محفوظًا جيدًا بشكل استثنائي لمدينة استعمارية رومانية كبيرة على أطراف الإمبراطورية».

كانت مدينة وليلي في أوج ذروتها تحت الحكم الروماني، تغطي مساحة 42 هكتارًا ويقطنها 20 ألف نسمة، وتظهر الآثار الباقية العمارة الباذخة التي كانت تزين المدينة.

عند دخول الموقع الأثري، يقودك الطريق المبلط إلى داخل المدينة، حيث تحيط بك الأطلال المزينة بالفسيفساء من الجانبين، بعضها يعود للمنازل الفخمة المبنية على الطريقة الرومانية، وأخرى تعود للمرافق العامة من قبيل المحكمة والمعبد الروماني ومنصة إلقاء الخطب السياسية، فيما تصطف التماثيل الرخامية على جانبي الطريق.

في الجوار توجد أطلال الحمامات العامة، التي جرى توسيعها وتزيينها بأوامر من الإمبراطور جالينوس، وتعطي مؤشرًا على الحياة اليومية لساكنة مدينة وليلي، حيث كان الناس يستلقون على البلاط الحجري الساخن، ويغتسلون داخل مسابح مستطيلة، يزودها نظام قنوات معقد، يجلب المياه من النبع في التلال خلف المدينة ليزود الحمامات والمنازل بالماء، في حين تتدفق مياه الصرف الصحي في النهر القريب.

وفي الأمام يظهر قوس النصر للإمبراطور كركلا، الذي شُيد عام 217 تكريمًا للإمبراطور كركلا ووالدته جوليا دومنا، إلا أنه فقد قسمه العلوي بعد زلزال لشبونة في القرن الثامن عشر، ولكن لا يزال نصبًا رائعًا من كتل كبيرة من الحجر المحلي، تغطي جدرانه ميداليات وتماثيل وبقايا أعمدة.

تاريخ وفلسفة

منذ سنة واحدة
«معجونين بالدماء».. هكذا بلغت سادية أباطرة روما القديمة حد الجنون

فيما تنتشر آثار لمعاصر زيت الزيتون والمخابز في أنحاء وليلي، إذ كانت بساتين الزيتون والقمح تغطي محيط المدينة، وتزود السكان بالخبز والزيت ويصدرونها كذلك إلى خارج وليلي، كما كانوا يستعملون الزيت لإنارة المصابيح وبقايا الزيتون وقودًا لتسخين الحمامات.

كما كانت المدينة مُسوّرة بخمسة حصون دفاعية، تحميها من هجمات القبائل المحلية، التي كانت ترى في المدينة مصدرا كبيرا للغنائم بسبب ثرائها وتوافر الغذاء الوفير لديها. بل احتوت وليلي على مساحات لسباق العربات الرومانية؛ مما يشير إلى أن حياة المدينة لم تكن خالية من الترفيه والترويح عن النفس.

كان سكان مدينة وليلي يتلقون خدمات عمومية راقية من حمامات عمومية وصرف الصحي وطرق مبلطة، منذ نحو ألفي عام، وكانوا يعيشون حياة مرفهة بشكل أفضل بكثير مما يعيشه كثير من المغاربة اليوم بالعالم القروي، الذين لا يزال معظمهم إلى اليوم يفتقدون مياه الصرف الصحي في القرن الواحد والعشرين.