تطرح صفقة الدجاج المجمد الفاسد، التي استوردتها الحكومة المصرية –ذاتها وليس عبر وكلاء-، ثم أنباء توجيه جيش الكيان الصهيوني ضربات إلى شبه جزيرة سيناء، أجوبة أكثر مما تحتاج لتساؤلات، فمن الثابت أن الدولة المصرية في عهد السيسي انزلقت إلى قعر هاوية لا قرار لها، منذرة بعاصفة غضب بلا ضابط، وهي واقعة حتمًا.
الدولة طوال عهد مبارك الطويل اعتبرها المصريون حصناً آمناً، أمام تغوّل القطاع الخاص المرتبط بالخارج، والساعي دومًا إلى مراكمة الملايين، ثم المليارات، منذ عهد أنور السادات، صاحب ضربة الانفتاح، التي أدت إلى تراجع دور أذرع الدولة كفاعل في الحياة اليومية للمصريين، وإحلال رأسمالية غير وطنية محلها، في إطار تحقيق تبعية كاملة للغرب، الولايات المتحدة خاصة، وتعميقها كلما مر الوقت.
ويشهد البلد المنكوب بـ”كامب ديفيد”، وملاحقها غير السرية، تراجعًا على كل المستويات، وصل إلى حد قيام الجيش بدور “التاجر”، في سعي محموم لاقتسام كعكة الأرباح من السوق المحلية، ومزاحمة طبقة رجال الأعمال، التي أنشأها نظاما السادات ومبارك، ومن ثم، تخلي المؤسسة العسكرية تدريجيًا –بحكم طبيعة عملية التجارة- عن عقيدتها القتالية، وانسايقها لصراع على جيوب المصريين.
شهدنا خلال العامين الأخيرين ما لا يمكن وصفه بالكلمات، من مهانة تتجاوز التوصيفات، ورأى المصري –العادي غير المسيس- جنرالات جيشه، في مجلس النواب، يدافعون باستماتة عن صفقة لبيع أراض مصرية لآل سعود، وحارب الممثلون لمصلحة التفريط بجزيرتي تيران وصنافير، ووقف الضلع المسلح الآخر للدولة –الشرطة- ليقمع بالنار كل من فكر في النزول دفاعًا عن مصرية الوطن، واستعان النظام ببعض القضاة التابعين له، ليقتل –في المستقبل- أي تفكير في الخروج عليه، بسيف السجن والغرامات.
ضربات الجيش الصهيوني في سيناء، إن وقعت، ترسم منتهى طريق التبعية، الذي بدأه السادات، واستكمله من جاء بعده، الدولة المصرية في لحظة حرب واقعة داخل حدودها لم تجد إلا الاستعانة بالصهاينة لتوجيه ضربات جوية ضد إرهابيين، يعلم كل ذي عقل أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أصحاب فضل زرعهم داخل الأوطان العربية، فأي جنون أو سقوط وصلنا له!
النظام المصري، في هذه اللحظة، ارتضى أن يتراجع أمام كل تحد وطني، فمن سيناء إلى إثيوبيا، ومن دور مفقود في ليبيا إلى مشاركة تلطخ جبين الوطن في اليمن، وحلفاء النظام يعلمون أنه أرخص من أن يجرؤ على الرفض، وأحقر من أن ينال ما يريد، فالحملات الإعلامية السعودية، أو التلويح بوقف إمداده بالبترول، كفيلة بتمييع رفضه في أي ملف، وإدارة السيسي لأزمة سد النهضة مثلًا، لم تترك مجالًا إلا لتأكيد رغبته في تمتين حكمه والدفاع عن كرسيه، مقابل التنازل عن أي شيء.
ومن سيناء إلى أزمة الدواجن الفاسدة، ليس ثمة فرق، فالمتابع للشأن الاقتصادي المصري، منذ هبوط جمال مبارك على الساحة، يعلم أن رحى معركة تدور – تخفت حينًا وتشتعل أحيانًا- بين جنرالات المؤسسة العسكرية وطبقة الرأسماليين المدعومة غربيًا، على تحديد حصة كل منهما في السوق المحلية، وبشكل أوضح، على “وكالة الأجنبي” في السوق المصرية.
الرأسمالية المحلية الوكيلة للأجنبي، قامت في عهد السادات نفسه، باستيراد دواجن فاسدة، في افتتاح لعودتها إلى السوق المصرية وانتهاء سيطرة القطاع العام على عمليات التجارة الخارجية –تصديرًا واستيرادًا- ما كان مؤشرًا على المستقبل الذي ينتظر مصر خلال سنوات التمكين لصنائع الولايات المتحدة من مفاصل مصر، وإعادة رسم المشهد، بما يؤدي مع الوقت إلى خلق سلطة ومعارضة من نفس القماشة، لا ترى في الغرب إلا القبلة والمرتجى، وتبتعد كلتاهما عن الشارع بنفس الدرجة، وتتعامل مع الاستقلال الوطني والدور الإقليمي بوصفها ارثا ثقيلا مكبلا، وجب التخلص منه.
ينزف القلب وهو يكتب –اضطرارًا- عن نوع الحروب التي أدمن ضباط “كامب ديفيد” خوضها، وبدلًا من الثبات في ساحات البذل والشرف، يستميت الواحد منهم على توكيد أحقيتهم كأفراد ينتمون للمؤسسة العسكرية، في إدارة المشروعات التجارية وأنشطة المقاولات، كما قالها مساعد وزير الدفاع الأسبق، اللواء محمود نصر، دون مواربة: “مشروعات الجيش هي عرق وزارة الدفاع، ولن نسمح لأحد بالتدخل فيها”.
كمواطن أولًا، فان مشروعات الجيش إن كانت بديلا للأجنبي، ومتخاصمة مع السيطرة الأمريكية، فمن الواجب تأييدها، والدفاع عنها، كونها ابتداءً تصب مرة أخرى في شرايين الاقتصاد المحلي، وتفتح المجال للتشغيل، وتضع شروطًا أفضل من القطاع الخاص لتشغيل الشركات الصغيرة والمتوسطة كمقاولي باطن في المشروعات الضخمة.
لكن الاشتغال بالتجارة له أحكام على السلوك، كما ينضح في سعي التاجر لمضاعفة أمواله، وإعلاء الربح كقيمة، بما ينتح في النهاية شخصا يميل للرقمنة وحساب كل شيء، بالطبع إلا من رحم ربي، وبالتالي فان التجارة كمهنة لا تتناسب مع قدسية حمل شرف الدفاع عن الأوطان، ولا تتسق مع دولة توجب عليها أن تتجه ضد ما يريد لها أعداؤها، أي إلى قطاعات الاقتصاد الحقيقي، من صناعة وتجارة.
الأزمة أن حماة “كامب ديفيد” وضعونا في طرف الحلبة، بلا خيارات تقريبًا، فلا نحن نريد دعم استغلال محلي، يستقوي بالأجنبي، وينزح أموالنا ومصادر ثرواتنا للخارج، ولا نحن نريد أن يتورط الجيش في دور “البائع الوطني”، وكيلًا أيضًا عن الطرف الخارجي نفسه.
في ظل تبعية كاملة لكل أطراف الصراع، لا يمكننا إلا رفض كل من يستغل ويربح على حساب الوطن.
من الدواجن الفاسدة إلى سيناء.. وطن على حافة الموت
العهد: