قبل سبعة أعوام من الآن، وبالتزامن مع ما تلى ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في مصر من وقائع، أخذ اسم «عبد الفتاح السيسي»، مدير المخابرات الحربية آنذاك، يتردد في حوارات رموز الثورة، والقوي السياسية، بعد سلسلة اللقاءات التي جمعتهم به آنذاك؛ بصفته مُمثل المجلس العسكري للحوار مع رموز القوى السياسية، وحينها، تحول أصغر أعضاء المجلس العسكري إلى أيقونة؛ فهو الرجل الذي يدعم الثورة، ويلتقي رموزها، ويسمع لهم على مدار الساعات الطويلة دون ملل أو مقاطعة.
ظل الرجل مواظبًا على حضوره في المشهد السياسي، يحتضن الجميع في مرحلة ما قبل 30 يونيو (حزيران) 2013، حتى عزل الإخوان، وتدرج في سُلم الصعود للسلطة؛ ليصبح رئيسًا للجمهورية لولاية أولى، ويُرشح نفسه – دون منافس حقيقي – لولايته الثانية.
دعم «السيسي» للثورة المصرية تحول لاحقًا إلى مطاردة وحصار وتهميش؛ ليعود هؤلاء الرموز، الذين ذاعت روايات مقابلاتهم مع الرجل، إلى التهميش بعدما حوصرت آمالهم التي طال قهرها وقمعها باسم شعارات كبرى وقيم خالدة ومصالح عليا.
يرسم التقرير التالي صورة كاملة عن مراحل علاقة «السيسي» بثورة يناير، كيف انتقلت من مرحلة الدعم والاحتواء إلى التهميش والاحتقار لرموزها وسيرتها التي تعهد في آخر مؤتمر له بعدم السماح بوقوع ماحدث قبل سبعة سنوات في إشارة مباشرة لها.
حين ظهر «السيسي» مبتسمًا وسط شباب الثورة
في فبراير (شباط) 2011، وعلى السلالم المؤدية لإحدى المباني العسكرية، وقف اللواء – آنذاك – «عبد الفتاح السيسي» رفقة صهره وعضو المجلس العسكري، محمود حجازي، يبتسم للكاميرا وسط مجموعة من نشطاء الثورة، يرفع بعضهم علامات النصر كدلالة تعبيرية على مكاسبهم من سلسلة الاجتماعات مع قيادات المجلس العسكري، وعلى رأسهم «السيسي»، الذي اختير كممثل عن المجلس في الحوار مع مختلف القوى الوطنية إبان ثورة يناير.
لاحقًا، وحسبما ذكر بعض الشباب، نقض «السيسي» وعوده التي قطعها لهم، وتحولت ذكرى الثورة إلى واحدة من منغصات حياتهم، بينما ذهب بعض هؤلاء الحالمين إلى غياهب السجون، وأكثرهم مقيم في حالة إحباط واكتئاب، وأقلهم لايزال يقاوم في المنفي.
محمد عباس، واحد من هؤلاء الشباب الذى التقاهم السيسي، يذكر مشهد السيسي آنذاك حين ظهر فى هيئة الرجل «المتصوف»، الذي يستمع لهم، وتتقاطع رغبته مع رغباتهم، ويحذرهم من مساعي الإخوان لسرقة ثورتهم.
مرة أخرى، يُكرر «السيسي» حديثه قبل عامين عن استدعاء ثورة يناير كضرورة وطنية تأخرت، حسبما أكد فى مقابلة له مع شباب الإعلاميين بالقصر الرئاسي أواخر 2014 حين خاطب الحضور: «ثورة 25 يناير تأخرت 15 عامًا، وكان يفترض أن تقوم قبل ذلك بكثير».
لم تعُد ذكرى الثورة تمر فى نقاش عام دون أن يُقحمها «السيسي» كوسيلة ترهيب للداعين لها، أو ربط صناعها بـ«الأشرار» متناسيًا ابتساماته المعهودة في اجتماعاته مع رموزها، أو تعهداته التى قطعها على نفسه بحمايتها من كُل طامع.
خلال فعاليات اليوم الثاني لمؤتمر «حكاية وطن» لاستعراض حصاد فترة «السيسي» الرئاسية الأولى قال: «أنا مسؤول أمام الله، وأمامكم، إني أحافظ على البلد دي، ويستحيل إسقاطها مرة تانية.. أنا كنت مدير مخابرات حربية في 2011، وعارف اللي كان بيحصل».
وأضاف: «أنا مش عاوز كلام أصعب، أحداث 2011 دفعنا تمنها، وبندفع تمنها، ولم يكن لدينا خيار آخر لإعادة بناء وتأهيل الدولة إلا من خلال المسار اللي مشينا فيه.. مش مظاهرتين يهدوا بلد، نروح نحاصر مجلس الوزراء، ونحاصر مجلس النواب، وخلصت مصر.. آه كان فيه أصحاب نوايا طيبة، لكن كمان كان فيه أشرار، وبيستهدفوا إسقاط الدولة».
من جديد، أتت ذكرى ثورة 25 يناير في إحدي خُطب السيسي الارتجالية التي يُطلق فيها الخيال لأفكاره، وقال في 31 يناير خلال افتتاحه لحقل غاز طبيعي، إن ما حدث في مصر منذ سبع أو ثماني سنوات لن يتكرر ثانية، وإنه قد يطلب من المصريين النزول مرة أخرى لإعطائه تفويضًا ثانيًا لمواجهة من وصفهم بالأشرار ومن يرغبون بالعبث في أمن مصر.
«السيسي» ورموز يناير.. من الاحتواء إلى الحصار
على مدار الأيام التي تلت تنحي مبارك، كان السيسي – مدير المخابرات الحربية آنذاك – وجهًا معروفًا لكافة رموز الثورة السياسية والإعلامية، بعدما اتفق المجلس العسكري على اختياره للتفاوض مع رموز الثورة على ملامح مسار آمن، امتدت اجتماعات «السيسي» حينها ساعات طوال، حسبما أكدت شهادات من التقوه خلال تلك الفترة، كان يسمع منهم دون مقاطعتهم، يناقشهم، يستعرض وجهات نظر تؤيد المسار الثوري، يؤكد أنه يحمل ودًا كبيرًا للثورة التى أنهت سنوات الفساد والتهميش.
انطبعت صورة ذهنية للسيسي داخل أذهان من التقوه بأنه الرجل الذي يقبل بالرأي والرأي الآخر، ولا يُمارس عليهم وصاية العسكري الذي يأمر فيُستجاب له. على العكس؛ فهو رجل يدعم الثورة، ويؤيدها بشكل كامل، ويعتبر سنوات مبارك أحد عوامل رجوع مصر خطوات للوراء، فضلًا عن تأكيده الدائم بأنه مؤيد تمامًا لعدم إقحام المؤسسة العسكرية في السياسة، والتزامًا بدورها المهني لعدم إضعاف جاهزيتها، أو انعكاس ذلك على ضعف دورها.
أحد من التقوا السيسي مرات عديدة فى أعقاب ثورة 25 يناير، كان الإعلامي يسري فودة، الذى عبر عن انطباعاته عن الرجل فى مقابلة مع جريدة «الشروق» المصرية قائلًا:«التقيت الفريق أول عبدالفتاح السيسى ثلاث مرات فقط، منها مرة فى مرحلة مبكرة جدا من ثورة 25 يناير خلال الـ18 يومًا الأولى مع مجموعة من الزملاء الإعلاميين والمثقفين، ثم التقيته مرتين أخيرتين خلال العامين الماضيين، وكان رأيى فيه من أول يوم، مثل كثيرين، أنه إنسان مهني وطني، ولديه القدرة على رؤية عميقة للمجال الذى يعمل به».
لاحقًا، تحول «فودة» لأحد خصوم السيسي، وأحد المستهدفين من جانب وسائل الإعلام المملوكة للأجهزة الأمنية بوصفه «خائن»، ويعمل لصالح «جهات أجنبية ممولة»، وانتقل لاحقًا للعمل في قناة «دويتش فيله» الألمانية من برلين، بعدما مُنع من تقديم أي برامج بعد أحداث الثالث من يوليو (تموز) 2013.
الروائي علاء الأسواني كذلك، وهو أحد المحسوبين على الثورة والمنظرين لها، ذكر في مقابلة ببرنامج المشهد على قناة «بي بي سي» وقائع بعض هذه المقابلات، قائلًا: «التقيت مع اللواء السيسي واللواء العصار بعد الثورة، واتكلمنا، وأخذت انطباعًا من واقع هذه المقابلات أن المجلس العسكري كان مع الثورة تمامًا، حتى أني في هذه الجلسة أوضحت لهم أهمية الأخذ في الاعتبار الوسائل التاريخية للثورة المضادة، وتعاملوا مع ذلك بجدية، وأخذ يكتب لمدة 30 دقيقة هذه الوسائل كدليل على الاهتمام بذلك».
«كيف رأيته حين كان لواءً؟» يجيب «الأسواني» بعدما تحول هو الآخر لأحد المغضوب عليهم من جانب السلطة الحالية، قائلًا: «رجل مخابرات، بمعني أن من يلتقيه لن يستطيع أن يقرأ أفكاره، هو يبدو رجل مُهذبًا جدًا، حتى أنه أوصلني لسيارتي في لقائي الثاني به، لكن من الصعب أن تعرف فيما يفكر».
واحد آخر ممن واظب السيسي على لقائهم على مدار ساعات ممتدة، كان عبد الله السناوي، الذي لطالما امتدح القدرات الخاصة لأصغر أعضاء المجلس العسكري آنذاك، وحماسه الكبير لقيام ثورة 25 يناير.
يروي السناوي – الذي رأى في السيسي ما لم يره فى كافة أعضاء المجلس العسكري، من دعم الثورة، وتأييد لمنع تسييس المؤسسة العسكرية – قائلًا في إحدي مقالاته: «متحدث طلق، تفكيره مرتب، واضح فى أفكاره، عنده عمق استراتيجى ظاهر فى حديثه عن الإقليم والتحديات فيه، يدرك أن المشكلة الاقتصادية هى الأولى بالرعاية، وأنها المنطقة الرخوة التى تتولد فيها وحولها سلسلة متوقعة من الأزمات».
كحال أقرانه يبدو «السناوي» – صاحب الميول الناصرية، وواحدًا من أكثر المُقربين من «السيسي» سابقًا – اليوم في موقع مخالف لما كان عليه سابقًا، بعدما سلكت مقالاته نهجًا ناقدًا، وبات وجهًا غير مرغوب فيه في وسائل الإعلام التي لم تكن تحتفي به.
ينضم لهذه القائمة التى أخذت انطباعات سابقة عن «السيسي»كداعم للثورة، ومؤيد لها، قبل أن تتبدل آراؤه، ويُهمش كُل من دعموه فى بدايات صعوده، «جمال الجمل»، الكاتب الصحافي المصري، الذي تلقى مكالمة هاتفية يوم التاسع من سبتمبر(أيلول) عام 2014، من الرئيس السيسي؛ لمناقشة القضايا التي طرحها في مقالاته بجريدة «التحرير».
ونقل «الجمل» عنه أنه لا يضيق من النقد ما دام في حدود المصلحة العامة، ودون الإضرار بالبلد، قبل أن يتم منعه من الكتابة، وتصدر جريدة «المصري اليوم» بيانًا يوضح أن «الجمل» لم يعد من قائمة كتابها، وسط تسريبات تربط بين هذه الخطوة والقبض على مالكها بسبب كتابات «الجمل».
فى كُل هذا الوقائع السابقة، كان السيسي «العسكري الملائكي»، الذي يدعم الثورة، ويلتقي رموزها السياسية والإعلامية، ويجد فى حدوثها أمرًا استثنائيًا لصالح استنهاض البلد، وقطع الطريق أمام فساد «مبارك» وأعوانه، ويرى أهمية منع تسييس المؤسسة العسكرية، قبل أن تمُر سنوات، وينكشف تبدل وجهات نظر الرجل، الذي بات يتعامل مع كُل من ارتبط بهذه الثورة بالسجن، والترهيب، والتضييق، أو المنع من السفر.
السيسي والديمقراطية.. التنظير لا يحاكي الواقع
لا يقتصر تبدُل آراء وأفعال «السيسي» تجاه ثورة 25 يناير، فحسب، بل يمتد إلى بعض الأطروحات التي طرحها خلال فترة دراسته خارج مصر في شكل دراسات أثناء فترة عمله بالمؤسسة العسكرية، قبل أن ينقلب عليها، وتصبح في محل الملغاة بعدما صعد إلى منصب السلطة.
تنكشف هذه التناقضات من واقع قراءة البحث المنشور له أثناء دراسته بكلية الحرب فى الولايات المتحدة عام 2006، والذي جاء بعنوان «الديمقراطية فى الشرق الأوسط»، ويتكون من سبع صفحات. يقول السيسي في دراسته: «هناك العديد من القادة المستبدين يدّعون أنهم يؤيدون نظم الحكم الديمقراطية، لكنهم لا يرغبون فى التخلي عن السلطة، وبعضهم لديه أسباب وجيهة لذلك؛ فبعض البلاد غير معدة، أو منظمة بطريقة تجعلها تدعم حكومة ديمقراطية».تمتد انتقادات السيسي لتشمل طريقة تعامل الدولة مع وسائل الإعلام، فـ«الحكومة تمارس السيطرة المفرطة على وسائل الإعلام، وبالتالي لم تعد وسائل الإعلام تقدم أي دور خدمي للمجتمع، فعند وجود حالات فساد في الحكومة، فمن المحتمل ألا يتم تناولها. وعلى هذا النحو، يقود الإعلام الجماهير إلى الاعتقاد بأن حكوماتهم جيدة، وتقوم بدورها نحو كافة المواطنين، لكن الكثير من المواطنين فى الشارع يستطيعون معرفة الحقيقة بوسائل أخرى، وفي هذه الحالة، فإن وسائل الإعلام ستكون عقبة أمام أي شكل ديمقراطي للحكومة».
يبدو حديث «السيسي» متناقضًا مع استحواذ سلطاته على كافة وسائل الإعلام، وتأميمها لصالح أجهزة أمنية، وتحولها لآلة دعائية للسيسي وحكومته، دون اعتبار لنظرياته حول الديمقراطية في رسالته البحثية حين كان يدرُس في أمريكا، ووفقًا لورقة بحثية منشورة في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، للباحث الأمريكي إيريك تايجر، فإن «ورقة السيسي تحاكي الحجج التي كان يروَّج لها في عهد مبارك. فهي تنحو باللائمة في الأساس فيما يتعلق باستمرار الاستبداد في الشرق الأوسط على القوى الخارجية. وقد كتب السيسي يقول: «في ضوء احتياطات النفط والغاز الطبيعي الهائلة، فإن الشرق الأوسط يواجه ضغوطًا مستمرة لتلبية أجندات دول متعددة قد لا تتفق مع احتياجات أو متطلبات شعوب الشرق الأوسط».