"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

موسى بن ميمون : تجديد اليهودية من رحم النسق الإسلامي في بلاط صلاح الدين الأيوبي

المعرفة :

موسى بن ميمون : تجديد اليهودية من رحم النسق الإسلامي

«موسى بن ميمون» العالم والفيلسوف والطبيب اليهودي الشهير بـ «ميمونيديس»
«موسى بن ميمون» العالم والفيلسوف والطبيب اليهودي الشهير بـ «ميمونيديس»

«الحاخام، الفيلسوف، الطبيب، الفيزيائي». كلها صفات ووظائف عُرف بها «أبو عمران موسى بن ميمون بن عبيد الله القرطبي»، الشخصية الدينية والفكرية اليهودية الأشهر والأكثر تأثيرًا خلال العصر الوسيط في أوساط يهود المشرق العربي والأندلس، والذي تجاوزت شهرته وامتد تأثيره إلى الغرب الأوروبي النصراني، وبات معروفًا في الأوساط العلمية والفكرية الأوروبية بـ (Maimonides). أما في الأوساط اليهودية فقد عُرف اسمه اختصارًا لجملة (رِبي موسى بن ميمون) بـ «רמב״ם رمبام»، في حين اشتهر عند العرب بلقب «الرئيس»، نظرًا لترؤسه الشئون الدينية والسياسية للطائفة اليهودية في عدة أمصار عربية خلال العصر الوسيط، لا سيما في مصر.
بنظرة سريعة على سيرة ابن ميمون، الفكرية أو حتى الشخصية، نجدها (شائكة) جدًّا؛ فذلك النابغة اليهودي المولود في قرطبة الأندلسية، وصاحب المكانة القوية في بلاط صلاح الدين الأيوبي في مصر، والمدفون في طبريا الفلسطينية، حفلت سيرته بالكثير من الشكوك، سواء حول شخصيته أو آرائه العلمية والدينية، كونه أهم مجدد ديني لليهودية خلال العصر الوسيط، معتمدًا في ذلك على العقلانية الإسلامية، فصار مثارًا للشك عند اليهود؛ لأنَّه حاز ثقة صلاح الدين الأيوبي وتبحر في الإسلام وعلومه، كما ارتاب فيه المسلمون لأنهم رأوا في كتاباته الفلسفية الدينية هدمًا لأصول أي دين، سواء اليهودية أو الإسلام.

موسى الثاني

تُلخِّص هذه العبارة المنقوشة على قبر ابن ميمون المكانة الكبيرة التي يحظى بها في الفكر الديني اليهودي؛ إذ يعتبره اليهود أعظم من حمل اسم «موسى» بعد النبي موسى عليه السلام [1]، وهو ما تدل عليه مؤلفاته الفكرية والدينية في اليهودية، التي حاول من خلالها إحياء اليهودية على أسس تشريعية وفكرية تضعها في نسق فكري يتوافق مع روح العصر الذي عاش ونشأ فيه فكريًّا ودينيًّا، ومن أهمها كتاباه «دلالة الحائرين» الذي طُبع في باريس من عام 1865م إلى 1866م مع ترجمة فرنسية، وكتاب «مشنا التوراة» الذي تعود أقدم نسخة مخطوطة له إلى إيطاليا عام 1400م.

تعكس سيرة ابن ميمون الشخصية مدى تشبعه بالبيئة الثقافية والفكرية في العالم الإسلامي الذي ساده خلال العصر الوسيط قيم التسامح والعيش المشترك مع أتباع الديانات الأخرى، لا سيما اليهود منهم، ما مكنهم – أي اليهود – من إنتاج أرقى إنتاج علمي وفكري وديني على مر تاريخهم، لدرجة أطلقت على هذه الحقبة في كتاباتهم العلمية والفكر مصطلح (תור הזהב) أي العصر الذهبي للفكر اليهودي [2].

فقد ولد ابن ميمون في قرطبة الأندلسية عام 1135 م، وتوفي في القاهرة عام 1204م، وفي عام 1159م انتقلت عائلته إلى مدينة فاس المغربية حيث درس في جامعة القرويين التي كانت من كبريات الجامعات الإسلامية آنذاك فتشبع فيها بالعلوم الإسلامية والفلسفية، وبعدها انتقل مع عائلته إلى فلسطين في سنة 1165م، ولكن في نهاية المطاف استقروا في مصر التي عاش فيها حتى وفاته [3].

عمل ابن ميمون في مصر نقيبًا للطائفة اليهودية، وطبيبًا لصلاح الدين الأيوبي ولعائلته؛ إذ كان أوحد من في زمانه في صناعة الطب ومتفننًا في العلوم، وله معرفة جيدة بعلم الفلسفة أيضًا، وإلى الآن ما يزال يوجد معبد قائم باسمه في العباسية بالقاهرة تخليدًا لبراعته وحكمته وسعة علمه [4].

ومن اللافت في سيرته الذاتية أنه لم يكن حازقًا في علوم الدين والطب والفيزياء والفلك وحسب، بل إنه كان صاحب حنكة سياسية أيضًا جعلت صلاح الدين الأيوبي يتمسك به في بلاطه ويجعله من المقربين، فحينما حرر القدس من الصليبيين عام 1187م، أقنعه ابن ميمون بالسماح لليهود بالعودة إليها مرة أخرى، وهو ما عزز من المكانة السياسية لصلاح الدين الأيوبي بين الطوائف اليهودية في العالم الاسلامي، كما أن المكانة الدينية الرفيعة التي كان يحظى بها ابن ميمون بين أبناء جلدته من اليهود، مكنت صلاح الدين الأيوبي بالاستعانة به لإخماد ثورات وتمرد اليهود في اليمن الذي كان يحدث من حين لآخر [5].

أما عن أعماله الفكرية والدينية، فمن أبرزها وأهمها على الإطلاق كتابه «شرح المشنا»، والذي نشره في البدابة في القاهرة باسم كتاب «السراج»، وهو ما رفعه إلى منزلة رفيعة بين علماء الدين والمعرفة، وذلك بفضل ما يمتاز به هذا العمل من الوضوح وغزارة المادة وصدق الأحكام. وكذلك كتابه «مشنا التوراة»، وقد رتب فيه نظامًا منطقيًّا، وإيجازًا واضحًا لكل ما حوته أسفار سيدنا موسى الخمسة من القوانين. إذ يقول في مقدمة الكتاب: «لقد سميت هذا الكتاب مشنا التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة، أي أسفار موسى الخمسة لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر»[6].

تأثير الإسلام

من موسى إلى موسى، لم يقم مثل موسى.

كان لنشأة ابن ميمون في بيئة إسلامية مزدهرة فكريًّا ومتسامحة دينيًّا، أكبر الأثر على فكره وكتاباته الدينية والفلسفية مثله في ذلك مثل بقية أقرانه من العلماء والمفكرين ورجال الدين اليهود الذين نشئوا في ظل الحضارة الإسلامية، لدرجة أن البعض وصف ابن ميمون بأنه فيلسوف إسلامي وليس يهوديًّا، فالدارس للثقافة الإسلامية حين يقرأ كتابه “دلالة الحائرين” يرى أن ابن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية [7].

في هذا الصدد يقول الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون، ما نصه: (ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثرًا بالغ الحد حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة)[8].

فقد أخذ ابن ميمون العلم على أيدي ثلاثة من أبرز العلماء المسلمين في عصره، وهم ابن الأفلح، وابن الصائغ، وابن رشد، حين عكف – كما يذكر ابن ميمون نفسه – على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة 13 سنة، وهو ما تجلى في تأثره بفكر ابن رشد تحديدًا لاسيما في كتابه “دلالة الحائرين”. كما كان معجبًا ومتأثرًا جدًّا بالفارابي، ورأى أن كتبه في المنطق هي الأرقى والأفضل [9].

ويظهر في كتابه دلالة الحائرين اقتباسه الكثير من الكلمات العربية والإسلامية التي مصدرها القرآن الكريم، والمؤلفات الفقهية الإسلامية لا سيما ما يتعلق بقصة الخلق وما يعرف بغوامض العلم الإلهي، فقد وضعه على غرار بعض المؤلفات الفلسفية الإسلامية التي هدفت للتوفيق بين الفلسفة والشريعة؛ ليؤكد بعض الآراء الدينية [10]؛ إذ حاول تعريف اليهود بأصول دينهم وإعادة إحيائها مرة أخرى، لكن على نسق إسلامي، بشكل يتوافق مع الفكر الفلسفي الذي كان سائدًا خلال العصر الوسيط.

وتجلى تأثر ابن ميمون بالفكر الإسلامي أيضًا في هذا الكتاب، في رفضه التفسير الحرفي لنصوص التوراة، ودعوته إلى إعمال العقل فيها وإعادة تفسير المعاني ما وراء النص، إضافة إلى تأويله بعض النصوص ووضعه تفسيرًا عقليًّا وفسلفيًّا لها، ولهذا يعتبره اليهود واضع أساس التفسير العقلي لليهود على أسس إسلامية [11].

من أبرز مظاهر تأثره بالفكر الإسلامي أيضًا تلك التي تبدو في كتابه الشهير «مشناة التوراة»، والتي ورد بها مبادئ الإيمان الثلاثة عشر الشهيرة التي وضعها ابن ميمون للديانة اليهودية، والتي بات لزامًا على كل يهودي أن يؤمن بها جميعًا، وهي:

1. الله موجود، وهو المدبر للمخلوقات كلِّها، والصانع لكل شيء فيما مضى والآن وفيما سيأتي.

2. لا يشبه الله في وحدانيته شيء، وهو وحده الإله منذ الأزل وإلى الأبد.

3. الله روح وليس جسمًا، ولا شبيه له على الإطلاق.

4. الله أزلي، فهو الأول والآخر.

5. الله وحده من ينبغي أن يُعبد، ولا جدير بالعبادة غيره.

6. الوحي لا يأتي إلا عبر أنبياء الله، وكلامهم كلُّه حق.

7. نبوة موسى حق، وهو أبو الأنبياء جميعًا، من جاء منهم قبله، ومَن جاء بعده.

8. التوراة التي بين أيدينا اليوم هي التي أوحى الله بها إلى موسى.

9. التوراة التي جاء بها موسى لا يمكن استبدالها ولا تغييرها، سواء كان ذلك بالإضافة أو الحذف.

10. معرفة الله بأفكار البشر وأفعالهم.

11. يجزي الله الحافظين لوصاياه، ويعاقب مخالفيها.

12. مجيء المسيح اليهودي (الماشيح) مهما طال انتظاره.

13. قيامة الموتى بإرادة الله.

وتبيِّن هذه العقائد بوضوح تأثر ابن ميمون بعلم التوحيد، وعلوم الكلام، والمتصوفة المسلمين. فقد وصل بالعقائد اليهودية في هذه الأصول الثلاثة عشر إلى المستوى الفكري الموازي لنتائج علم التوحيد وعلوم الكلام عند أئمة المسلمين، كما أن تأثره بها واضحٌ أشد الوضوح، فالخالق عنده كما يبدو في الأصل الأول من هذه الأصول قد خُلعت عليه ربوبية فلسفية لا تكتفي بما كان يكتفي به القصص البسيط في سِفر التكوين بالتوراة، بل وضعت من حوله الشروط والاحتياطات، فهو وحدَه الذي خلق والذي يخلق، حتى يتم النص على اختصاصه بهذه القدرة [12].

المراجع
  1. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الموجزة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2006 م، المجلد الأول، ص 343.
  2. אלי בר-נביא (עורך), תולדות עם ישראל, תל אביב: הוצאת ידיעות אחרונות, 1994, עמ’ 100–103.
  3. إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون..حياته ومصنفاته، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ، الطبعة الأولى 1936، ص 4.
  4. نفس المرجع.
  5. فاطمة نادي، موسى بن ميمون أن تكون يهوديا في دولة الخلافة الإسلامية، موقع ساسة بوست، 19 سبتمبر 2018.
  6. إسرائيل ولفنسون، المرجع السابق. ص 13.
  7. محمد عبود، موسى بن ميمون…اليهودي -المسلم، المصري اليوم، 15 مارس 2010.
  8. إسرائيل ولفنسون، المرجع السابق.
  9. محمد حلمي عبدالوهاب، موسى بن ميمون..حلقة وصل في تاريخ الفلسفة الانسانية، صحيفة الحياة، 5 فبراير 2016.
  10. حسن حسن كامل ابراهيم، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الاسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، القاهرة، 2003، ص 45-53.
  11. نفس المرجع.
  12. حسن ظاظا ، الفكر الديني الإسرائيلي. أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971 ، ص 159 – 160.

رابط :

https://www.ida2at.com/moses-ben-maimon-renewing-judaism-womb-islamic-style/

اقرأ أيضاً :

موسى بن ميمون: يهودي في بلاط صلاح الدين

موسى بن ميمون: يهودي في بلاط صلاح الدين
صورة عاصف الخالدي
كاتب أردني
2019-02-10

سيرةٌ شائكة تلك التي تتعلق بموسى بن ميمون، المفكر والفيلسوف اليهودي والعربي في الآن ذاته، الذي وقف في بلاط صلاح الدين الأيوبي حياً ذات يوم، وحجز لنفسه قبراً في أرض طبريا ميتاً، في يومٍ آخر، وما بينهما، حفلت سيرته التاريخية بشكوكٍ عديدة، كونه مجدداً دينياً اتخذ العقلانية الإسلامية مساراً للتجديد، فصار مثاراً للشك عند اليهود؛ لأنّه حاز ثقة صلاح الدين، كما ارتاب فيه المسلمون؛ لأنّه وفق بعض الروايات التاريخية، دعا إلى أن يعيش اليهود في فلسطين، فما هي حقيقة هذا الرجل حقاً؟

من موسى إلى موسى!

يرى اليهود أنّ موسى بن ميمون، يعد أعظم شخص حمل هذا الاسم، بعد النبي موسى، عليه السلام، ويعتبرونه ثاني أعظم رجلٍ في تاريخهم؛ حيث توجد عبارةٌ منقوشةٌ على قبره القابع في مدينة طبريا، تقول “من موسى إلى موسى، لم يقم مثل موسى”.

يعتبر اليهود أنّ ابن ميمون أعظم شخصٍ حمل هذا الاسم بعد النبي موسى وثاني أعظم رجل في تاريخهم

لكن لابن ميمون، تاريخٌ كامل في ظلال الإسلام، لم يكن فيه يهودياً بقدر ما كان إسلامي الأسلوب والفكر على الأقل، وقد ولد أبو عمران موسى بن ميمون (1135-1204م) في قرطبة بالأندلس، حيث كان والده قاضياً في الكنائس هناك. وتلقى تعاليم الديانة اليهودية على يد والده، بينما تتلمذ كمفكرٍ على يد مفكرين مسلمين كابن الأفلح وابن رشد، كما تلقى علوماً مختلفة في الطب والفلك واللغة والرياضيات. إلى أن رحلت عائلته عن الأندلس هرباً من الموحدين، واتجهت إلى فاس في المغرب، ثم إلى القاهرة عاصمة مصر.
وقبل هروبه من حكم الموحدين الذين خيّروا يهود الأندلس بين الإسلام أو النفي، كان هو وعائلته وطائفته، يمارسون طقوسهم الدينية والفكرية في الأندلس بكل حرية، حتى أن كتاب اليهود الديني “التلمود” كان متاحاً في قرطبة بينما كانت مدنٌ أوروبية عديدة آنذاك، تحرق أي نسخةٍ منه، وتهدد كل يهوديٍ يعيش على أرضٍ مسيحية. وربما كان لهذا تأثيرٌ بالغ على علاقة بين ميمون بالإسلام، وبصلاح الدين الأيوبي فيما بعد.

اقرأ أيضاً: 10 معلومات عن عيد “حانوكا” الذي احتفل به اليهود المصريون للمرة الأولى
وما إن استقر في القاهرة، حتى بدأ صيته يذيع بين اليهود هناك، بعد تأليفه كتاب “شرح المشناه” وهو تعليقاتٌ وتوضيحات حول التوراة الشفوية التي نزلت على النبي موسى، عليه السلام، كما كتب عدة مقالاتٍ وشروحاتٍ فلسفية أخرى، من أهمها كتاب “دلالة الحائرين”، الذي “انتقد فيه ابن ميمون قيام اليهود بإطلاق صفاتٍ بشريةٍ على الإله، الذي لا يشبه البشر، وذلك مثلاً بالقول أنّه قوي، لكن الأصح برأي بن ميمون القول إنّ الإله لا يفتقر إلى القوة ولا تعوزه أي قوةٍ مهما كانت، لكنه ليس قوياً وكفى كالبشر”، وفقاً لدراسة نشرت عن ابن ميمون في موقع “حكمة” بتاريخ 20 آذار (مارس) 2018.

 ابن ميمون عربي بفلسفته وحضارته

ابن ميمون عربي بفلسفته وحضارته

وعموماً، رُفض الكتاب في أحيانٍ كثيرةٍ من الحاخامات اليهود؛ لأنّه قدّم تفسيرات فلسفية لتعاليم التوراة، لم تكن متطابقة مع التفسير الحرفي له كما فهمها الأحبار عن النبي موسى، عليه السلام، وذلك بحسب رؤية حاخامات اليهود، إضافةً إلى أنّ تلك الرؤى الفلسفية تقترب من أفكار أرسطو وأفلاطون، التي كان شرحها أستاذه غير المباشر؛ ابن رشد.

هاجم الحاخامات ابن ميمون لتفسيره التوراة فلسفياً بينما اتهمه مسلمون بالسعي لإقامة اليهود في فلسطين

وبهذا الخصوص، يرى الكاتب والمؤرخ إسرائيل ولفنسون، في كتابه “ابن ميمون، حياته ومصنفاته”، أن ابن ميمون، أفضل علماء اليهود في عصره “كانت أعماله الفلسفية والدينية، تؤشر بوضوح إلى الفلسفة الإسلامية… بل هو واحد من فلاسفة الإسلام، لأن الفلسفة الإسلامية لم تكن تفرق بين عرقٍ أو جنسٍ أو دين، كما إن كل من عاش على أرض العرب، كان عربياً، وكان في دراسته لمسألة صفات الله مثلاً، أقرب إلى المعتزلة منه إلى الأشاعرة”. وهو ما أكسب الفيلسوف اليهودي قيمة إنسانية على ما يبدو، لأنّه يعد فيلسوفاً إسلامياً من الناحيتين الحضارية والثقافية،  إلا أنّ أحقاداً عديدةً طالته كذلك، سواء من اليهود أنفسهم، أو من بعض المسلمين، فلماذا؟
في بلاط صلاح الدين
حين استقر ابن ميمون في القاهرة تماماً، ترد روايةٌ عن أنه أسلم في فاس، وسرعان ما ارتد عن الإسلام في القاهرة، غير أنّه كان معروفاً آنذاك، أنّ الهروب من الأندلس والإقامة في فاس، تتطلب من المرء أن يكون مسلماً، وإلا فإنّه سوف تتم ملاحقته ونفيه، مما جعل سبب إسلامه إجبارياً ربما، لكن هذا لا يسيء إلى صورة الإسلام في سياقه التاريخي؛ لأنّ عودة ابن ميمون إلى دينه، وترك الخيارات له ليؤمن بما يشاء، دلّت على تسامح الإسلام وقوته في ذلك العصر، إذ ما إن قدم العام 1166 ميلادية، حتى كان ابن ميمون جزءاً من فلاسفة الإسلام لا عليهم، وربما بقيت فقط كتبه الفكرية حول ديانته (اليهودية) هي تلك التي لم تحظ بالاهتمام الكبير عربياً.

اقرأ أيضاً: يهود ومسلمون مغاربة يتبركون من نفس الأولياء

كما أنّ الناصر صلاح الدين، وكما يرد في مقدمة كتاب ولفنسون، كان ينوي تحرير فلسطين، وأدرك قبلاً “معنى وحدة مدن وبلاد العرب في الداخل، قبل خوض معركةٍ مع الخارج، لذلك استعان هو ووزيره الفاضل، برجل كابن ميمون، حتى يساعد في منع أي ثوراتٍ لليهود، كما في اليمن مثلاً، وبصفته رئيساً لهم، ومقيماً في القاهرة عاصمة الخلافة، كان لابن ميمون دور إيجابي”.

من مخطوطات كتبها ابن ميمون

من مخطوطات كتبها ابن ميمون

كما يشير كتاب ولفنسون إلى أنّ “صلاح الدين أدرك ذكاء وحنكة ابن ميمون السياسية، ولا بد أنّه استفاد من فكره واستشاره، وربما جعله واسطة للحوار بينه وبين الغربيين إن صح التعبير”. غير أنّ رواية أخرى مثيرة للجدل، تتحدث عن دورٍ مبكر لابن ميمون في إقامة اليهود بفلسطين، وذلك وفقاً لموقع “jewish encyclopedia”.

ولفنسون: ابن ميمون أفضل فيلسوف يهودي في عصره وتشير أعماله إلى الفلسفة الإسلامية وتأثره بها

لقد تحررت فلسطين في الوقت الذي كان ابن ميمون حياً فيه، وكانت تهم مثل “أنّه يلقى حظوةً لدى الناصر صلاح الدين من أجل حماية يهود مصر، ومن أجل إقناعه بأن يعيش اليهود في فلسطين” تهماً تاريخيةً لا يمكن إثباتها، لأسبابٍ واضحة تتعلق برأي صلاح الدين، الذي كان يرى أنّ القدس تحديداً، مدينة سماوية، أي يمكن للديانات الثلاث أن تتعايش فيها، لكن دون أن يحتلها أحدٌ كما فعل الصليبيون. كما أنّها من الطبيعي أن تكون رمزاً للمسلمين وهي تقع جغرافياً في قلب أراضي العرب والمسلمين.
وبحسب الموقع ذاته، فإن ابن ميمون اتهم كذلك بالتعصب، إذ “لم يكن يحب أن يُكتب أي شيءٍ عن الدين اليهودي، بغير اللغة العبرية،  كما طالته اتهاماتٌ أخرى، منها أنّه كان مستفيداً من القضاء على ما تبقى من الفاطمية في العالم الإسلامي، من أجل تسهيل إقامة اليهود في فلسطين”.
وبالمقابل، يرى الموقع ودون إنكار، وكما يرى الشيخ والكاتب المصري المعروف مصطفى عبد الرازق في مقدمة الطبعة العربية لكتاب إسرائيل ولفنسون “أن ابن ميمون فيلسوف إسلامي الشكل والموضوع، ولقي خلافاتٍ عديدة مع حاخامات اليهود في زمنه، لأنه كان متشدداً بشأن توحيد عبادة الله، ومحو أي آثارٍ وثنية في الدين، وله رؤى فلسفية في الدين، لاهوتية ربما، لكنها غير متعصبة”.

اقرأ أيضاً: قصة اليهود العرب.. كيف سقطوا في قبضة الصهيونية؟
ولعل ابن ميمون، كتب كتبه ومقالاته إيماناً منه أنّ الإيمان يجب أن يتسق مع العقل، متأثراً بفكر ابن رشد المسلم، أما فكرة قربه من السلطة، فربما كانت مثالاً على التعايش لا على الاستغلال أو الخداع من أجل مصالح اليهود في العيش بفلسطين مثلاً، بل إنّ تلك الرواية المتعلقة بعودة اليهود إلى فلسطين في زمن صلاح الدين، تبدو مجرد تأصيلٍ لأساطير الصهاينة اليوم، عن قدم أحقيتهم بفلسطين وطموحاتهم التاريخية بها. فيما تشير مؤلفات ابن ميمون وعقليته الفلسفية، إلى أنّه لم يكن رجل الخلاص الجماعي لليهود، إنما تأثر بفلسفة الإسلام، ودعا إلى إيمانٍ عقلانيٍ وعلميٍ وحضاريٍ غير متعصب، ولا شيء أكثر.

حفريات

رابط :

https://www.hafryat.com/ar/blog