عربي21 :
وعلى الرغم من أن الصورة التي تم إنتاجها عن الكتاب تتبنى أطروحة الرغبة في الانفتاح والتواصل مع الآخر الأوروبي، كما يؤكد مترجم الكتاب في مقدمته، فإنّ الروح العسكرية العدائية مسيطرة على الكتاب في العديد من المواضع.
أهمية مزعومة
حينما استلم إبراهيم باشا داماد منصب الصدر الأعظم عام 1718م، في عهد السلطان أحمد الثالث، كانت الدولة العثمانية خارجة للتو من معارك خسرت فيها الكثير من الأراضي في أوروبا الشرقية، كما أنها كانت تواجه خصمًا جديدًا وقويًا تمثّل في روسيا القيصرية، ما دفع الوزير الجديد إلى اتباع سياسة السلم والتصالح مع العالم الأوروبي، تمثّلت بتحسين العلاقات مع أوروبا وإرسال السفراء إلى بلاطات أوروبا، وكان معنيًا في الوقت نفسه بتطوير وتحديث القوة العسكرية للجيش العثماني، الأمر الذي جعله يطلب من هؤلاء السفراء أن يكتبوا تقارير تتضمن مشاهداتهم لمظاهر التفوق والتقدم في أوروبا، خاصة في مجال العلوم العسكرية. وقد برز التقرير/ الرحلة الذي بين أيدينا -لصاحبه محمد جلبي عن رحلته إلى فرنسا- باعتباره أفضل التقارير، من حيث المحتوى والمضمون، التي تقدم بها السفراء عن رحلاتهم.
وينسب إلى كتاب “جنة النساء والكافرين” أو “سفارة نامة فرنسا” دور كبير في إحداث تغيير في سبيل الانفتاح وتحقيق النهضة. ويصفه المترجم بأنه “يعبّر عن روح الانفتاح التي عرفتها إستامبول في بداية القرن الثامن عشر، والرغبة في التعرف إلى مظاهر الحياة الفرنسية، والأثر الذي أحدثه لدى الطبقة الحاكمة في تلك الآونة”. فقد شرعت هذه الطبقة في بناء القصور والبيوت على نمط العمران الفرنسي، وفي تقليد الحياة في هذه القصور؛ فقد شيّد السلطان قصر “السعادة” وفق تصاميم قصر مونتان بلو في باريس، وكذلك فعلت حاشية السلطان، وشهدت استامبول احتفالات ليلية تضاء فيها الشموع وتطلق الألعاب النارية على غرار احتفالات الفرنسيين، وظهور الرسومات بدلاً من الموزاييك في القصور، وراجت السلع الأوروبية، وبدأ الناس يعتادون هذه السلع. وبالرغم من أن المؤرخة ثريا فاروقي تعترف بسوء محتوى هذه التقارير فإنها تذهب إلى القول بأن هذه السفارات دليل على تغيّر العقلية، أي أنها تقر بأن روح الانفتاح هي الجذر الذي يحرك هذه السفارات، وهذا ما سنضعه موضع الاختبار في هذا المقال.
وفي الحقيقة إننا لا نعدم بعض الأمثلة في الكتاب التي من الممكن أن تقودنا إلى ذلك الاستنتاج؛ فهو ينقل لنا بعضا من مشاهد التفوق والتقدم التي شهدتها فرنسا، من ذلك عندما يصف لنا قنال لونقدوق الفرنسي والآلية المتطورة التي تجعل المسافرين يعبرون المدن دون أن تطأ أقدامهم اليابسة، وهو أحيانًا يعي الفارق الهائل بين العثمانين والفرنسيين فيخبرنا بأن بلوغ الغاية غير ممكن بدون أعمال كبيرة وأنّ أعمالا مماثلة للقنال والمشاريع الفرنسية لن تتم إلا بجهود جبّارة. وأيضًا وصفه لنزل العناية بالجنود الجرحى الذي يضم ثلاثة آلاف مريض ويتوفر على كل ما يلزم من أطباء وأدوية، كما يسترسل في وصف كيفية العناية الفائقة بالجرحى والنظام الصارم والدقة في كل أمر حتى في إعداد الطعام ومواعيد تقديمه. غير أن الجزء الأكبر من الرحلة ذهب لوصف القشور وأشياء سطحية سنتعرّض لها…
صوت العسكري وعقله
يلاحظ قارئ النّص مشهدًا حاضرًا يتكرر في ثنايا النّص، وهو المشهد الذي يرضي العقلية العسكرية الكامنة في نفس العثماني؛ إنه مشهد احتفاء يقابله محمد أفندي جلبي بالاحتفاء النّصي ويكاد يكرره في فقرة من النّص، بل إنني أزعم أنه يشكل خمسين بالمئة من النّص، إنه مشهد احتفاء الفرنسيين به وإظهارهم الاحترام له. ويشكل هذا المشهد ظاهرة لافتة ومميِّزة للنّص، فهو منذ وصوله شواطئ فرنسا يعبّر عن فرحته بهذا الاستقبال الذي يرضي غروره العسكري: “رمت عمارتنا المرساة في مرفأ المشفى… وبعد ذلك حضر قبودان (قبطان) من طرف وكيل الأميرال ليستعلم عن صحتي، ويهنئني بسلامة وصولي. وأبدى السعادة التي استشعرها كل الحضور، وخاطبني قائلاً: إنهم ينتظرون قدومي منذ وقت طويل”. وأيضًا: “… ووصلنا بعون الله وقت العصر إلى مدينة ست. وسرعان ما حضر أينطاطان المدينة قرب مركبي ليهنئني بوصولي. وأخبرنا للتو أن أعد لي القصر”، وأيضًا: “ذهبت في اليوم التالي لمقابلة أرشيوق ده قامبري، الذي يشغل منصب الوزير، قدم لي القهوة والحلوى وأكرمني وأكثر في التعظيم”. وقد تستوقفنا بعض العبارات من مثل: “في كل الأماكن التي مررت بها، الشخصيات الكبرى لم تتخلّف عن الحضور لرؤيتي يحملون إلي الهدايا الصغيرة من الفواكه والمربيات”. وعن زيارته لمدينة ليون يقول: “وقد حصلت فيها على كل تشريف، وحاكم المقاطعة المارشال دويلروا….. كان حريصا على أن يلبي كل رغباتي. كذلك فإن ابن المارشال… والذي يملك النفوذ والسلطة زارني مرتين، ودعاني لزيارته، حيث قدم لي وجبة رائعة”.
اقرأ أيضا: كيف نحلل الحكاية؟.. كتاب جديد للعراقي عبد الستار جبر
وإذا كان هذا التقرير مقدمًا للصدر الأعظم ويفترض أن ينقل إليه كل كبيرة وصغيرة، وهذا الافتراض على سبيل البحث عن عذر مقبول يدفع بكاتب النّص إلى التركيز على هذا الجانب وتكراره، فإنه لم يقم بهذا النقل الأمين الذي افترضناه، وذلك باعترافه أثناء حديثه عن الوصي على عرش فرنسا: “وقد قلت له بعد ذلك: إن رؤية شخص من علية القوم أنستني مصاعب رحلتي الطويلة في البر والبحر. ولم أقل ذلك إلا صادقًا. فإذا توجّب علي أن أذكر كل ما عانيته من مشقة من تولوتة إلى باريس، فإن ورقات باتساع السموات لا تكفي لتدوينها”. إن هذه الغبطة التي يظهرها السفير بصدد مواقف الاحتفاء به سرعان ما تختفي عند أول إشارة أو بادرة لغياب هذا الاحتفاء، لتنقلب الحال بما يهدد بقطيعة دبلوماسية. كما كان بإمكان السفير أن يلّخص مشاهد الاحتفاء بصفحتين أو ثلاث.
وعندما تقطع السفينة التركية عباب البحر في رحلتهم إلى فرنسا لا يحضر التاريخ العثماني إلا مرة واحدة، وهو حضور مرتبط بالعقلية العسكرية التي لا تعرف إلا التخريب، وذلك عندما يمر بجزيرة إيطالية صغيرة بين تونس ومالطة: “هذه الجزيرة عبارة عن صحراء ليس فيها سوى الحجارة. وكان عسكر المرحوم علي باشا قد خرب قلعتها ودمرها، وليس فيها حاليًا من سكان سوى الراهب وثلاثة رجال يعيشون من صدقات المارين بها…”. إن هذا العقل العسكري الانكشاري الذي أعاق تقدم الدولة العثمانية طوال سنوات –والسفير انكشاري سابق- لن يكون سببا في تقدمها، والتاريخ يضرب لنا الكثير من الأمثلة على ذلك، منها: تحريم استخدام الطباعة لعقود طويلة، وقيام فرقة إنكشارية بتدمير مرصد غلاطة عام 1580م الذي كان يتفوّق على المراصد الأوروبية، وتحريم كتب الفلسفة والفلك، لقد كانت هذه العقلية العسكرية نصيرة التعصب.
خطأ مطبعي
من بين المميزات التي تتوفر في محمد جلبي، والتي أدت إلى اختياره سفيرًا دون غيره، أنه كان إنكشاريًا وأنه كان دبلوماسيًا مفاوضًا في معاهدة باساروفيتز (1718م). في حين تفرّد النّص بميزة أنه أول نص كتبه عثماني عن رحلة قام بها إلى فرنسا، وأن هذا النّص شكّل نقطة انفتاح على العالم الأوروبي، مما كان له الأثر على الطبقة الحاكمة في استامبول. بيد أنّ هذه المميزات بحاجة إلى فحص؛ فماذا يعني أن يكون الشخص عضوًا مفاوضًا في معاهدة عثمانية في القرن الثامن عشر؟ علمًا أن هذه المعاهدات جميعها لم تكن في صالح الدولة العثمانية، بل إنها خسرت العديد من أراضيها في أوروبا الشرقية بموجب هذه المعاهدات. هذا من جهة كفاءة صاحب النّص، أمّا من جهة النّص وأثره في الانفتاح على أوروبا فإننا سنتعرّض له من ثلاث زوايا:
-إن كل انزياح في الذهنية يترتب عليه انزياح في النّص، والنّص يقوم على ثبات العقلية العسكرية للسفير العثماني، وبالتالي لن نتوقع منه أن يحمل بذور التغيّر.
-إنّ فرنسا كانت تشهد نهضة علمية عظيمة، غير أن الطبقة الحاكمة وحدها كانت المستفيدة من ثمار هذا التقدم؛ الأمر الذي تسبب –بعد سبعين عامًا تقريبًا- بسقوط النظام الملكي في فرنسا، نتيجة حتمية لبذخ هذه الطبقة إزاء الفقر المدقع للشعب.
-لو افترضنا أن السفير محمد جلبي كان يسعى إلى نقل أسباب التقدم والتفوق الفرنسي إلى بلاده، فإنه قد وقع في خطأ قاتل وهو أنه قد خصص الكثير من صفحات سفارته لوصف القصور والحدائق والاحتفالات فاحشة البذخ والإسراف…الخ. ما أريد قوله إن الخطأ يكمن في أنه نقل إليهم أسباب انهيار النظام الملكي… وهو ما انعكس على الدولة العثمانية وعجّل بسقوط ثلاثي الانفتاح (السلطان- الوزير- السفير) إذ انتفض الجيش الإنكشاري -احتجاجًا على حياة البذخ في القصور- انتفاضةً أدت إلى عزل السلطان وقطع رأس الوزير ونفي سفيرنا محمد أفندي صاحب الفضل في النهضة المزعومة.
المصادر والمراجع:
– محمد جلبي، جنّة النساء والكافرين، ترجمة وتقديم: خالد زيادة، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2014.
– ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي، دار المدار الإسلامي، 2008م.
– خليل إينالجك، تاريخ الدولة العثمانية: من النشوء إلى الانحدار، دار المدار الإسلامي، ط2، 2014.