تقع مدينة الاسكندرية الأصلية، تحت نتاج ألفي سنة من التطور الحضري. وصلت أجزاء معابدها ومبانيها الأثرية إلى القاهرة، ولندن ونيويورك، أمّا ما تبقى منها فدمّرته الزلازل والغزوات، أو غُمر في مياه المتوسط.
لفهم تاريخ الاسكندرية القديمة، توجّب على علماء الآثار دراسة مدينة الاسكندرية التي نعرفها اليوم، وفهم الخرافات والأساطير الشعبية المتناقضة المحيطة بها. قليلة هي المدن التي ترتبط بها الأساطير كالاسكندرية، لأن مدن العالم القديم في معظمها لم تحاول جمع التاريخ في مكانٍ واحد، مثلما فعلت هذه المدينة، فهي كتبت فصلاً جديداً من التاريخ الحضري. “كانت الإسكندرية أعظم بوتقة فكرية عرفها العالم” يقول جاستين بولار Justin Pollard وهاورد ريد Howard Reid، مؤلفا كتاب يتعلق بـأصل المدن القديمة، ويضيفان “صيغت الأسس التي سيقوم عليها العالم الجديد، بالأفكار وليس بالحجارة، في أروقة تلك المدينة”.
شاركغردكانت الإسكندرية أعظم بوتقة فكرية عرفها العالم، في أروقتها صيغت الأسس التي سيقوم عليها العالم الجديد
ولكن تأثير هذه المدينة على الحياة المعاصرة يكمن في تصميمها. فقد تصّور كبير المعماريين لدى الاسكندر دينوقراطس تصميم المدينة على شكل ملعب كرة قدم، يجمع بين المساحات الخاصة والعامة وبين اليابسة والبحر. وقال إي إم فورستر EM Forster الذي أصبح من أهم المؤرخين الذين أبدوا اهتماماً بتاريخ الاسكندرية: “إنّ المدينة أفضل ما أفرزته الحضارة الهلنيسية”. ولكن تحفة دينوقراطس غرقت من دون أن يبقى منها أي أثر، قبل أن توضع أول أساساتها.
خريطة مدينة الإسكندرية
وفي غياب الطبشور لتحديد شكل الطرق المستقبلية والمنازل وأقنية المياه، لجأ دينوقراطس إلى استعمال الطحين. ولكن حالما قام المساحون بحساب الزوايا، والعمّال بنثر الطحين المطلوب، انقضّت أسرابٌ من طيور البحر على الطحين المخصص لوضع مخطط المدينة. اعتبر كثيرون أن ذلك نذير شؤم على المدينة، التي ستحمل اسم الاسكندر. ولكن عرّافي الاسكندر اعتبروا ذلك إشارة إلى أن الاسكندرية ستكون مصدر رزقٍ للكوكب بأسره.
استمر العمل، وحددت الأماكن التي سيبنى عليها قصر الاسكندر، والمعابد للآلهة اليونانية والمصرية، والمنطقة التي تضم متاجر ومراكز للتجمع، قبل واقعة الطيور. وحددت المساحات السكنية، وأماكن بناء جدران الدعم. وجرّت الماء إلى المدينة من نهر النيل عبر جداول صغيرة تمر من تحت الشوارع الرئيسية، لتزويد منازل الأثرياء بالماء العذب.
كانت خطة دينوقراطس لبناء الاسكندرية منسوخةً عن الأشكال التقليدية التي تتخذها المدن اليونانية التي يعرفها. فهو كان تلميذ هيبوداموس، الرجل المسؤول عن بناء ميناء أثينا العظيم في بيرايوس، وهو معروفٌ أيضاً بأبي التخطيط الحضري. وبحسب أرسطو، أبدع هيبوداموس في فن تشييد المدن، لكنه انتقد الطريقة التي عاش بها، وتحدث بازدراء عن شعره والحلي التي يرتديها.
آمن هيبوداموس ومدرسته بأن تصميم المدن يعني أكثر من رسم حدودها، بل يتوجب التفكير في الطريقة التي ستعمل بها المدينة على الصعيد السياسي والثقافي واللوجيستي. كان يرى أن الشوارع ليست منتجات ملحقة بالمنازل والمحلات، إنما نقاط مركزية بحد ذاتها، بل تحفة من تحف الإدارة الحضرية الفعالة.
قيّدت أعمال هيبودامس بشكلٍ كبير بالمشاريع المحدودة، أمّا دينوقراطس، فقُدم له في مدينة الإسكندرية ورقة بيضاء، وفرصة ليحول إبداعاته إلى واقع لم يُرَ من قبل.
تكمن عبقرية دينوقراطس في مدّ خطوط تصميمه لتتعدى المياه. فبنى جسراً عرضه 600 قدم معروف باسم Heptastadion وهو أطول بسبع مرّات من الملعب اليوناني. وأدى تشييده إلى خلق مساحة لبناء مرفأين على جانبه. كان الانسجام بين عناصر المدينة المتعددة متقنًا.
ميناء الإسكندرية
تقول الدكتورة جوديث ماكينزي Dr Judith McKenzie من كلية الآثار في جامعة أوكسفورد وكاتبة “هندسة الاسكندرية”: “لدينا الجسر الضخم ومرفأان على جانبيه ومنارةٌ تطل عليهما. إنّها خطةٌ متكاملة ولقد نجحت”.
لا يقف نجاح الاسكندرية على جذورها الفينيقية، بل على تأثرها بالحضارة المصرية أيضاً. انتقلت حكاية الاسكندر والصندوق الذهبي بين الأجيال، لكن اختيار موقع المدينة، كان ثمرة خبرات ومعرفة المحليين، كما فعل هوميروس بالضبط. لم تخلق المدينة الجديدة رابطًا مميزاً بين المملكة الفرعونية والامبراطورية اليونانية، المهتمة بالتجارة البحرية، فحسب بل صممت طرقاتها بطريقةٍ تزيد من دورة رياح البحر إلى حدها الأقصى، كما شكلت أبنيتها مزيجاً فريداً بين الهندسة المعمارية الشرقية والغربية. تم استعمال التصميم ذي الأضلع الثماني نفسه للمنارة في بناء بضع منارات في أنحاء مصر، والعديد من أبراج كنيسة كريستوفر رن Christopher Wren في بريطانيا.
وفي السنوات اللاحقة، وبعد أن ذاع صيت الاسكندرية، تم تشييد أشهر مبانيها وهو الـMusaeum أو معبد الآلهة، الذي جمع أبرز العلماء من جميع التخصصات الأكاديمية. أما المكتبة في الداخل، فيعتقد أنها الأضخم على الإطلاق، وقد ضمنت استمراريتها من خلال مصادرة كل كتاب يتم العثور عليه على أي سفينة تدخل مرفأ المدينة.
لم يحيَ الاسكندر ليرى هذه المعجزة بنفسه. بعد أن بدأ دينوقراطس بوضع خطوط الطحين سافر الاسكندر ليستشير الحكماء في سيوة الواقعة في وسط الصحراء الغربية في مصر، ثم توجه إلى الشرق ليبدأ حملاته التوسعية في بلاد فارس والهند. وبعد عقد من الزمن مات في بابل، وأعدّ خليفته بطليموس الأول خطة لخطف جثمان الاسكندر، خلال نقله إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه شمال اليونان، وإحضاره إلى الاسكندرية، حيث وضع في تابوتٍ ضخم.
يمثل مصير جثة الاسكندر نقطةً سوداء في تاريخ الاسكندرية، الذي لم يتمحور حول التطور الفكري والحداثة الحضرية، بل تمحور حول تسخير المدينة لتكون مثلاً للسلطة الاستبدادية وترسيخ الحكم الإلهي. أراد بطليموس موت الاسكندر لتشريع حكمه. وشيدت تلك المدينة في الأساس لتضمن للمواطنين المستقلين الحق في اتخاذ القرار، طبعاً إن لم يكونوا من النساء أو الأجانب أو العبيد. إلّا أن الاسكندرية أصبحت مركزاً للحكم الديكتاتوري الحضري.
يقول المؤرخ الحضري لويس مامفورد Lewis Mumford في كتاب “المدينة في التاريخ“: في المدينة القديمة كان لكل مواطن دور حيوي يقوم به، أما في المدينة الجديدة، فاعتادوا تلقي الأوامر ونفذوا ما طلب منهم”. بالنسبة لمامفورد فإن القانون والجمالية المتجذرة في الاسكندرية من الخارج، يعكسان تزعزع مفهوم الحرية التي وعدت بها تلك المدن.
علماً أن الإشكال القائم حول إذا كان تصميم مدننا يخدم سكانها أو حكامها، استمر على مر العقود وغيّر شكل الاسكندرية اليوم.
تعتبر الاسكندرية موطنًا لـ5 ملايين نسمة، وثاني أكبر مدينة من حيث المساحة، في بلدٍ عانى من التمرد والثورة الحضرية في السنوات القليلة الماضية. لكنها تبقى في واجهة الرؤى التنافسية لما يجب أن يكون عليه التخطيط الحضري.
في العام الماضي كشف عن خطة لإعادة إعمار المنارة القديمة في موقعها الأصلي، كجزء من مشروع إعادة تطوير يشمل إنشاء مراكز تسوق جديدة وفنادق فخمة. أصرّ المنتقدون على أن المقترحات فشلت في الأخذ بعين الاعتبار الاقتصاد المعقد للمدينة والتاريخ العمراني الهش. وأكدوا أن القرار اتخذ من دون موافقة السكان. يقول عمرو علي محلل السياسات الحضرية في مصر: “المشكلة لا تكمن في تضخيم التاريخ الثقافي الغني للاسكندرية، بل في ماهية الجوانب التاريخية للمدينة التي سيتم تسويقها على حساب مصلحة العامّة”.
وبحسب علي، سيكون ضربًا من ضروب الحكمة إن قام من هم في مواقع السلطة في الإسكندرية بمراجعة التفاصيل المتعلقة بمنارة المدينة القديمة، التي انتهى تشييدها بعد سنوات على وقوف الاسكندر على شواطئها، واتخاذه القرار ببناء مدينة في ذاك الموقع. وكما كان من المعتاد قام سوستراتوس المهندس المشرف على مشروع البناء، بكتابة كلمة إهداء المنارة إلى العائلة الحاكمة على لوحةٍ من الجص وضعت إلى جانب المدخل.
ولكن تحت هذه اللوحة حفر سوستراتوس سرًا كلمة إهداء: “لكل أولئك الذين ركبوا الأمواج”. وحتى يومنا هذا لا يزال السؤال المتعلق بالمستفيد الحقيقي من المساحات الحضرية قائماً.
ترجمة عن المقال الذي نشر باللغة الإنغليزية على موقع صحيفة The Guardian تحت عنوان: How Alexandria laid foundations for the modern world لـJack Shenker.