عربي بوست :
بدأ هطول الأمطار مع تهديدات السماء الغاضبة بالرعد، لكن شخصاً واحداً كان يتحسس طريقه وسط أنقاض مركز احتجاز مدينة ذمار في شمالي اليمن الذي يُسيطر عليه الحوثيون.
كان اسمه مصطفى العدل. ورغم مصرع شقيقه أحمد، حارس الأمن، هنا حين تعرَّض الموقع مؤخراً لقصفٍ جوي شرس، لكنه لا يزال موظفاً لحراسة الأنقاض. وفي المساء، ينام داخل أقل المباني تضرُّراً. ولا يُبالي بالأمطار على حد قوله، لأنَّها غسلت آثار الدماء.
وقال الشاب (22 عاماً) لصحيفة Guardian البريطانية، وفمه مليء بمُنشِّط القات، وهو يُشير إلى الطابق الثاني مما كان مبنى الحراس في الماضي: «يُمكنك رؤية بطانية أحمد الزرقاء في الأعلى. كان هناك قرابة الـ200 شخص هنا، والآن لا يقطن المكان سوى الأشباح».
والعدل هو واحدٌ من عشرات الأشخاص الذين التقتهم صحيفة Guardian خلال رحلتها النادرة بطول ستة آلاف كيلومتر، داخل الأراضي اليمنية التي يُسيطر عليها الحوثيون والحكومة والانفصاليون، والذين وصفوا كيف غيَّرت سنوات الحرب -التي تجاوزت الأربع سنوات- حياتهم إلى غير رجعة. والمعاناة واضحةٌ في كل مكان. ولكن المرتفعات التي يُسيطر عليها المُعارضون شمال اليمن هي موقع تجذُّر أسوأ كارثةٍ إنسانية في العالم، حيث يلوح شبح الكوليرا والجوع والقصف السعودي في الأفق طوال الوقت.
قصف عشوائي للمدنيين في الأسواق والأعراس والمستشفيات
وكان الهجوم المسائي على ذمار ليلة الأول من سبتمبر/أيلول هو الأكثر فتكاً هذا العام حتى الآن، وقد شنَّه تحالف الذي تقوده السعودية من 20 دولة عربية تُقاتل من أجل إعادة الرئيس اليمني المخلوع عبدربه منصور هادي، وذلك بحسب موقع Yemen Data Project الذي يُعَدُّ قاعدة بيانات لتتبُّع الحرب. إذ كان مستوى العنف مروعاً، حتى بالنسبة لصراعٍ بات معروفاً بالقصف العشوائي للمدنيين في الأسواق والأعراس والمستشفيات.
ولقي 100 شخصٍ على الأقل مصرعهم، في ما قال شهود العيان إنَّها سبع غارات جوية دكَّت المنطقة. واستغرق انتشال كافة الجثث، التي اخترقها حديد الجدران نتيجة الانفجارات، خمسة أيامٍ من العمل.
ومع تحوُّل حرم الكلية المجتمعية إلى مركز احتجازٍ غير رسمي، كان لا بد لموقع ذمار أن يكون مُدرجاً على قائمة التحالف لعدم القصف. فضلاً عن أنَّ الهجوم استهدف رجالهم: إذ قال علي أحمد العباسي (39 عاماً)، وهو أحد الناجين، من سريره في المستشفى إنَّ قرابة نصف السجناء المُحتجزين كانوا من جنود هادي، والنصف الآخر من المدنيين الذين قبض عليهم الحوثيون.
ووُضِعَت صور وجوه الموتى المُحترقة والمُغطاة بالدماء على جدارٍ قُرب المدخل حتى تأتي الأسر وتتعرَّف إليها. وفي بعض الحالات لم تكُن هناك وجوه مُتبقية، بل مُجرد أيادٍ ليس أكثر.
وأضاف العباسي للغارديان: «زارنا الصليب الأحمر قبل ثلاثة أشهر. ولا شكّ أنَّ التحالف كان يعلم بوجودنا هُناك».
وأنكر التحالف أنَّه ضرب مركز احتجاز، قائلاً إنَّه قصف موقعاً عسكرياً يستخدمه الحوثيون لاستعادة الطائرات بدون طيار والصواريخ.
الموت يهبط من السماء في أي لحظة
وتضرب عمليات القصف من النوع الذي وقع في ذمار، والتي قد تُمثِّل جرائم حرب، شمالي اليمن بشكلٍ منتظم يُثير القلق. وتحظى مُحافظة صعدة، معقل الحوثيين على حدود المملكة العربية السعودية، بنصيب الأسد من عمليات القصف. ولا يُوجد شارعٌ، داخل البلدة التي تحمل نفس الاسم، خالٍ من آثار القصف: إذ اختفى مبنى البريد، والسوق المركزي، وعددٌ لا يُحصى من منازل المدنيين.
ويهبط الموت من السماء في أي لحظة. وأثناء تناول الغداء المُكوَّن من الدجاج والأرز وفتة العسل الحلوة، هزَّت الجلجلة الواضحة لصاروخٍ قريب نوافذ المطعم. لكن زبائن المطعم لم يكترثوا بطنين الطائرات الحربية السعودية، حتى حين حلقت عائدةً من أجل ضربةٍ ثانية وثالثة ورابعة.
لكن استراتيجية الأرض المحروقة لم تُقرِّب السعودية من النصر في هذه الحرب على الإطلاق. إذ أطلق ولي عهدها محمد بن سلمان، حين كان وزيراً للدفاع، عملية عاصفة الحزم في مارس/آذار عام 2015؛ وذلك في أعقاب سيطرة الحوثيين المدعومين من قِبَل إيران على العاصمة صنعاء، ليُجبروا هادي على الفرار إلى الرياض.
لكن الحوثيين، المعروفين رسمياً باسم أنصار الله، هم حركةٌ مُسلَّحة ذات خبرةٍ تمتد لعقود. وبمساعدة طهران، صاروا يمتلكون الآن تقنية الطائرات بدون طيار المُتطورة، ويستطيعون شنّ هجمات عابرة للحدود تضرب عمق المملكة، وتستهدف أصولها المتمثلة في حقول النفط والقواعد العسكرية والمطارات.
وتُعرَض المشاهد «البطولية» للحوثيين باستمرار على قناة المسيرة التلفزيونية الخاصة بهم، مرفقةً بأغنيات الحرب الحوثية التي تُعرف باسم «زوامل»، والتي تعلق بالأذن لدرجة أنَّ جنود القوات الموالية للحكومة يعشقون الاستماع إليها كما تفول الغارديان. إذ تسخر كلمات تلك الزوامل من الأمير محمد، وتتوعَّده بإرسال المزيد من الهدايا الحوثية عبر الحدود.
حرب فيتنام خاصة بالسعودية
تقول الغارديان، إن البعض يصف حرب اليمن الآن بأنَّها «حرب فيتنام» الخاصة بالمملكة العربية السعودية. ولكن الحقيقة هي أنَّ مأزق الرياض الحالي سيكون أسوأ من فيتنام؛ في حال غياب الإمدادات الثابتة من الأسلحة والمركبات والخبرات التقنية، والتي تُوفِّرها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية.
واليمنيون يُدركون جيداً بلد منشأ القنابل التي تتساقط فوق رؤوسهم. إذ يُمكن بسهولةٍ تتبُّع المعلومات التقنية والأرقام المسلسلة، على أجزاء الصواريخ التي تنجو من الانفجارات، وصولاً إلى صُنَّاع الأسلحة الغربيين.
وداخل وكالة إزالة الألغام والقنابل بصنعاء، تتلألأ الأسلحة المُنتشلة من مواقع عمليات القصف تحت أشعة الشمس الساخنة. ومن بين تلك الأسلحة، تجد أجزاء محرك لأربعة أجهزة استشعار من داخل قنابل عنقودية، وهي المتفجرات المحرمة دولياً لأنَّ ذخائرها الداخلية الصغيرة، التي تنطلق عند الانفجار، تُسبِّب ضرراً عشوائياً على مساحةٍ كبيرة. وتقول الملصقات عليها إنَّها من صناعة شركة Goodrich Corporation الأمريكية، في مدينة ولفرهامبتون البريطانية.
وأوقفت شركة Goodrich Corporation عملياتها منذ عام 2012، لكن ليس معلوماً ما إذا كانت الأجزاء وقت تصنيعها، الذي ربما يكون سابقاً لحظر القنبلة العنقودية، مخصصةً للاستخدام في قنبلة أم أنَّها وُضِعَت داخلها. ولا تزال شركة Collins Aerospace، التي تأسَّست بعد أن ضمَّت الشركة الأم لـGoodrich Corporation جميع شركاتها الفرعية، تُدير عملياتها من المواقع القائم في مدينة ولفرهامبتون.
وبغض النظر عن موجات الغارات الجوية، تبدو مدينة صنعاء وكأنَّها تعيش حياةً طبيعية من الأعلى، وهي المدينة التي تشتهر بعمارتها الساحرة التي يعود تاريخها إلى 2,500 عامٍ مضت، والتي تتمثَّل في منازل الزنجبيل الشاهقة. إذ أدَّى الحوثيون عملاً جيداً في إبعاد تنظيم القاعدة عن أراضيهم، فباتت الشوارع أكثر نظافةً ونظاماً من أيّ مكانٍ آخر في البلاد.
هدوء نسبي له ثمن كبير
لكن هذا الهدوء النسبي له ثمنه: فبحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، وهي واحدةٌ من منظمات حقوق الإنسان القليلة التي لا تزال تعمل داخل البلاد؛ يتعرَّض المُعارضون للسجن والتعذيب باستمرار، كما تتعرَّض أقلية البهائيين الدينية للمحاكمة بتهمة التجسُّس لصالح إسرائيل.
ويُبقي الحصار الذي فرضته السعودية، على المجال الجوي والحدود البرية والبحرية لليمن الذي يُسيطر عليه الحوثيون، شمال البلاد على حافة الهاوية باستمرار. إذ أمَّنت القيادة الحوثية في صنعاء خطوط إمدادٍ برية قادمة من عمان، بحسب مصدرٍ دبلوماسي، مما يعني أنَّ بإمكانهم الصمود. لكن اليمنيين العاديين يُعانون بشدة. وتمتلئ أسواق صنعاء بالمنتجات الغذائية، لكن انهيار الاقتصاد يعني أنَّ أسعار الغذاء والوقود تضاعفت مقارنةً بفترة ما قبل الحرب.
وتعتمد نسبة 8% من السكان -أي قرابة الـ24 مليون شخص- الآن بالكامل على المعونة من أجل البقاء على قيد الحياة. ونصف هذا الرقم صار الآن على شفا المجاعة. إذ تقول الأمم المتحدة إنَّه بحلول نهاية العام الجاري، سيصل إجمالي عدد الوفيات نتيجة القتال والمرض إلى 230 ألف حالة وفاة، أي 0.8% من إجمالي السكان.
الموت يخيّم على المستشفيات
وتزدحم كل مستشفيات المدينة بمرضى سوء التغذية والكوليرا، القادمين من العائلات التي تقطُن المحافظات المُجاورة، والذين جمعوا الأموال معاً لإرسال ذويهم لتلقِّي العلاج المُناسب في العاصمة.
وفي مستشفى السبعين للأمومة والطفولة، تقول جميلة محمد حمد (36 عاماً) إنَّ الكوليرا الآن تزور عائلتها سنوياً مع بداية فصل الشتاء. وفقد ابنتها التي كانت تبلغ من العمر ثلاثة أعوامٍ في الصيف الماضي. وها قد عادت الآن إلى خيمة الكوليرا في مستشفى السبعين، وهي تدعو الله أن تنجو ابنة شقيقتها التي تبلغ من العمر عامين. وكانت الفتاة الصغيرة، قسيمة، ترقد على ظهرها وتُحدِّق بشرودٍ إلى سقف الخيمة، بينما يتصبَّب العرق من شعرها المُجعَّد على جبهتها.
ويموت الرجال أيضاً. إذ تُغطِّي الملصقات الخضراء المليئة بالورود لمن قُتلوا في المعارك، أو الأبرياء الذين قضوا نحبهم في الغارات الجوية، جدران المنازل والشركات والسيارات ولافتات الشوارع كما يفعل حزب الله في لبنان. وتأتي صور «الشهداء» مرفقةً بالصرخة الحوثية، التي تُرسم مُظلَّلةً باللونين الأحمر والأخضر على كل سطحٍ تقريباً. «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام».
وخرج الحوثيون إلى العلن في التسعينيات، بوصفهم حركةً احتجاجيةً دينية وُلِدَت لمعارضة محاولات الرياض لنشر الوهابية -وهي العقيدة الإسلامية السنية المُتشدِّدة، على حدود أراضي الطائفة الزيدية الشيعية في اليمن. وحين بدت أجندتهم السياسية مُشوَّشةٌ في محادثات السلام الفاشلة؛ تحوَّلوا إلى منظمةٍ عسكرية متطورة. وتعمَّق تعاطف الكثيرين في الشمال مع القضية الحوثية، بالتزامن مع عمليات الحصار والقصف السعودي الذي قيَّد الحياة اليومية لمجتمعاتٍ بأكملها. ومع عدم قدرتهم على إطعام عائلاتهم، نظراً لقلة الوظائف وارتفاع معدلات التضخُّم؛ يشعر بعض الرجال أنَّه لا خيار أمامهم سوى الانضمام إلى الحركة والحصول على راتب المُقاتلين الذي يُقدَّر بـ100 دولارٍ شهرياً.
مقابر الأطفال تتحول إلى محجّ
ولا يوجد مكانٌ يشعر بالظلم الشديد أكثر من ضحيان، القرية الصغيرة في محافظة صعدة، حيث استهدفت غارةٌ جوية سعودية حافلةً مليئةً بالأولاد الصغار في طريقهم إلى رحلةٍ مدرسية العام الماضي، مما خلَّف 44 قتيلاً. وجرى التعرُّف على القنبلة، بعد إطلاع صحيفة Guardian على جزءٍ من الصاروخ، بأنَّها من فئة MK-82. وقال خبراء الذخائر إنَّها من قنابل Paveway المُوجَّهة بالليزر، والتي تصنعها شركة Lockheed Martin الأمريكية. وأرجأت الشركة الإجابة عن الأسئلة إلى البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية. لكن وزارة الخارجية قالت إنَّها لا تمتلك تعليقاً على المسألة.
وفي موقع الهجوم، يُرفرف 44 وجهاً صغيراً الآن فوق لافتةٍ بطول الشارع، إلى جانب جداريةٍ تقول: «أمريكا تقتل أطفال اليمن».
وفي مقبرة المدينة، تحوَّلت مقابر الأطفال إلى مكان أشبه بأماكن الحج. وكاد يوسف الأمير (12 عاماً) أن يكون جزءاً من تلك الرحلة المدرسية المصيرية: لكنه الآن يزور قبور أصدقائه كل ظهيرةٍ تقريباً بعد المدرسة.
وأخرج يوسف الجنبية، وهو خنجرٌ احتفالي يمني، من حزامه ليقطع لوحاً بلاستيكياً يُغطِّي الهيكل المُتهالك للحافلة، التي تستقر الآن بجوار الأطفال. وكان دوي إحدى المُقاتلات السعودية يهدر في السماء، أثناء حديثه عن افتقاده لأصدقائه.
وفي قسم الشهداء من المقبرة، يُوجد قبران محفوران حديثاً . وقال حارس المقبرة إنَّه لم يكُن يتوقع جنازات مُتشحة باللون الأخضر اليوم، لكنه يعلم أنَّه سيستمر في استقبال المزيد منها.