شفقنا :
في يوليو ٢٠٢٥ قال ترامب لأعضاء حكومته: «بريكس تأسست من أجل الإضرار بنا، لقد شُكلت بريكس لتقويض دولارنا وإزاحته من مكانته كعملة معيارية عالمية».
وقد أثار هذا التحذير الصريح قلقا متزايدا لدى الولايات المتحدة، إذ إن بريكس، التي كانت في الماضي مجرد مجموعة رخوة من الأسواق الناشئة تشمل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، قد توسعت في السنوات الأخيرة بشكل كبير لتتحدى المؤسسات التي يقودها الغرب وتهدد الهيمنة المالية الأمريكية. والسؤال الجوهري الآن: إلى أي مدى ستكون بريكس فعالة كأداة لتحقيق هذا الهدف؟
لم يكن إنشاء بريكس صدفة، بل جاء كتعبير عن تراكم مشاعر تعود جذورها إلى حقبة الحرب الباردة والنضالات المناهضة للاستعمار. فقد أعطى تأسيس حركة عدم الانحياز عام ١٩٦١ في بلغراد شكلا مؤسسيا لرغبة الدول حديثة الاستقلال في الإفلات من ثنائية الاصطفاف مع الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي.
لكن مفهوم «الحياد» اكتسب معاني متعددة، إذ جعلت هذه الدول السيادة والاستقلال أولوية، فيما كان الحياد بالنسبة لكثير منها يعني معارضة غير مباشرة للولايات المتحدة. وخلال السبعينيات، أعلنت العديد من الحكومات أنها غير منحازة، لكنها في الواقع اعتمدت على دعم الاتحاد السوفيتي.
استمرت هذه الديناميات خلال أزمات الديون في الثمانينيات، وسقوط الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١، ثم مرحلة الأحادية القطبية في منتصف التسعينيات. وفي مطلع الألفية الجديدة، عززت الصين هذا الخطاب عبر تقديم نفسها بوصفها حامية للعالم النامي، وتوسيع علاقاتها مع أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والدعوة إلى نظام متعدد الأقطاب كبديل للهيمنة المالية الغربية. هذا التحول أتاح لبريكس أن تصبح التعبير المؤسسي عن تراكم هذا الاستياء. أما روسيا، التي تضررت بشدة من اضطرابات التسعينيات، فقد تبنت بريكس كإطار للمقاومة.
وقد كان إنشاء «بنك التنمية الجديد» التابع لبريكس عام ٢٠١٤، وتوسيع اتفاقيات تبادل العملات الثنائية، والترويج التدريجي للتجارة القائمة على اليوان، جميعها أدوات صُممت لتقويض مركزية الدولار، مع تقديم هذا المشروع بوصفه إصلاحيا لا ثوريا. إن جدول الأعمال المالي لبريكس، الذي يركز على تعزيز التجارة بعيدا عن الدولار، وتنويع الاحتياطيات، وإنشاء مؤسسات موازية، حوّل إحساس عدم الانحياز التاريخي إلى تهديد مادي للمصالح الأمريكية.
البرازيل تتعامل مع هذه التحولات بمرونة أكبر، إذ تحافظ على حيادها وتسعى لتعزيز نفوذها الدولي من دون قطع روابطها مع واشنطن أو بروكسل. أما الهند، التي كانت من مؤسسي حركة عدم الانحياز، فما زالت تعلي من شأن استقلالها. غير أن تنافسها مع الصين، الذي تصاعد مع اشتباكات لاداخ عام ٢٠٢٠، حدّ من استعدادها لقبول هياكل توسع نفوذ بكين، رغم استثمارها في إطار بريكس.
بريكس تركز اليوم على الخليج بوصفه ساحة مركزية لمواجهة هيمنة الدولار التي رسخت النفوذ الأمريكي منذ السبعينيات. تقود الصين هذا التحدي عبر الضغط على منتجي النفط الخليجيين لتسوية جزء من مبيعاتهم باليوان.
وفي الوقت ذاته، فإن دور شركة هواوي في وضع معايير الاتصالات الإقليمية قد يتيح للصين إنشاء مسارات بديلة للمدفوعات وتبادل البيانات بعيدا عن الرقابة الغربية. كما شجعت بكين صناديق الثروة السيادية في أبو ظبي والرياض والدوحة على الاستثمار في منصات اليوان والعملات الرقمية وأنظمة التجارة المعتمدة على تكنولوجيا السجلات الموزعة.
روسيا وإيران بدورهما تسعيان لإضعاف هيمنة الدولار في المنطقة. فروسيا تنفذ صفقات تسليح وطاقة واستثمار مع إيران بالروبل والريال، ما يقلل من تعرضها للعقوبات الأمريكية.
أما إيران، فتعزز اقتصادها من خلال ترتيبات المقايضة، وتحويل الذهب، وشبكات العملات الرقمية التي تلتف على القنوات المصرفية التقليدية. وتُظهر هذه الأنظمة المالية الموازية للشركاء المحتملين لبريكس أن التجارة يمكن أن تستمر خارج منظومة الدولار، حتى في ظل الضغط الأمريكي الشديد.
تهدف دول بريكس إلى تقليص اعتماد الخليج على الدولار، وإضعاف تأثير العقوبات الأمريكية وأدوات الإكراه الاقتصادي الغربية. كما تعمل بريكس على توسيع نفوذها عبر شراكات رسمية مع دول الخليج.
فقد انضمت الإمارات العربية المتحدة، الحليف الأمني الوثيق للولايات المتحدة وأحد المراكز المالية الحيوية، إلى بريكس عام ٢٠٢٣. هذا القرار لا يعني قطع العلاقات مع واشنطن، بل يعكس حسابات أبو ظبي بأن الانضمام إلى بريكس يحقق مكاسب ملموسة بتكلفة محدودة. والسعودية بدورها تجري حسابات مشابهة. ورغم أنها لم تنضم رسميا إلى بريكس، إلا أنها تشارك في القمم، وتبحث في بيع النفط باليوان، وتطور أطر استثمارية مع الصين.
إن انفتاح الرياض وأبو ظبي على بريكس يمنح هذا التكتل شرعية إضافية، ويبرهن على إمكانية التوفيق بين العضوية في بريكس والحفاظ على الشراكات الأمنية مع الولايات المتحدة. ومن خلال جذب حلفاء الخليج، بدأت بكين وموسكو في تقويض السردية الأساسية للنظام المالي الذي تقوده أمريكا.
إذا فشلت واشنطن في الرد بفعالية، فقد يصبح الخليج مختبرا للبدائل المالية المدعومة من بريكس، ويعمل الحلفاء التقليديون لأمريكا بوصفهم لاعبين في نظام اقتصادي عالمي موازٍ. لقد كان الدولار طويلا أحد أقوى الأصول الاستراتيجية للولايات المتحدة. والحفاظ على مركزيته يتيح لها مراقبة المعاملات العالمية، وفرض القوانين على شبكات الجريمة المنظمة، والمنظمات الإرهابية، وغيرها من التهديدات العابرة للحدود. كما يشكل أداة دبلوماسية رئيسية في المنافسة بين القوى الكبرى.
أما بريكس، فمن خلال بناء قنوات مالية بديلة، فهي تهدد بإضعاف هذه الهيمنة. وستواصل هذا التكتل مساعيه لإقامة نظام مالي مناهض للولايات المتحدة، في الوقت الذي يقدم نفسه فيه بوصفه بطلا للحياد وعدم الانحياز وتعددية الأقطاب.
المصدر: موقع بازار