Elqalamcenter.com

"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

الحرب الأخرى: أشكال الخداع الداعشي في مجلة “نور الجهاد” في موزمبيق

المستقبل :

الحرب الأخرى .. أشكال الخداع الداعشي في مجلة “نور الجهاد” في موزمبيق

أ.د حمدي عبد الرحمن :

26 سبتمبر، 2025

في الأشهر الأخيرة، وصلت ولاية موزمبيق التابعة لتنظيم داعش الارهابي إلى مرحلة جديدة مثيرة للقلق، فقد تم الإعلان عن إصدار مجلتها الدعائية الخاصة باللغة العربية “نور الجهاد”. ويشير هذا التطور إلى أكثر من مجرد إعادة صياغة شكلية للتمرد المحلي؛ فهو يعكس تطلع ولاية موزمبيق إلى أن يكون لها صوت مميز داخل شبكة داعش الأوسع، ويُظهر براعة الجماعة المتزايدة في الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة لدعم عمليات التجنيد، وإضفاء الشرعية على طموحاتها الإقليمية، واستقطاب المقاتلين الأجانب. وبعيداً عن كونه ظاهرة محلية؛ فإن ظهور “نور الجهاد” له تداعيات عميقة على ديناميكيات الأمن في جنوب وشرق إفريقيا، ويُمثل تذكيراً جاداً بأن التطرف لم يعد يقتصر على البؤر الساخنة التقليدية في منطقة الساحل أو القرن الإفريقي.

ومن خلال متابعة وسائل الحرب الدعائية لتنظيم داعش بشكل عام نجد أن إصدار “نور الجهاد” يمارس ثلاثة أشكال من الخداع التي تؤثر في الجمهور المستهدف: أولاً: خداع المحتوى، والذي يشمل تقديم معلومات مغلوطة أو محرفة حول الوقائع أو الأحداث نفسها، مثل المبالغة في حجم الانتصارات أو إخفاء الهزائم لجعل الواقع يبدو أكثر إيجابية أو قوة. وثانياً: خداع المصدر، والذي يتمثل في إخفاء هوية المتحدّثين أو الجهات التي تصدر الرسالة الدعائية، أو الادّعاء بأنها جاءت من مصادر شرعية أو محايدة؛ بهدف زيادة مصداقيتها على نحو زائف. وثالثاً: خداع الانتشار، وهو يقوم على استخدام أساليب تقنية أو تنظيمية لنشر الرسالة الدعائية بشكل واسع وممنهج أوسع من المتوقع، كالتلاعب بالخوارزميات على وسائل التواصل أو إنشاء شبكات وهمية للتضخيم المنهجي للمحتوى. ولا شك أن فهم هذه الأساليب يوفر إطاراً أساسياً للبحث المستقبلي وتحسين جهود مكافحة الدعاية الإرهابية.

دلالات إصدار “نور الجهاد”:

يستحضر اسم المجلة  “نور الجهاد” صور وخطابات منشورات داعش الأولى في العراق وسوريا، مثل “دابق” و”رومية”، والتي أسهمت بدور محوري في جذب الشباب المسلمين من أوروبا وخارجها. ومن خلال تبني هذا النموذج، تُعلن ولاية موزمبيق عن نيتها في أن يتم الاعتراف بها كولاية متكاملة ذات دعم مركزي. كما تُظهر جودة إنتاج المجلة المرئي، وعناوينها الفرعية باللغة العربية، واستخدامها لتقنيات تصميم احترافية، كيف تجاوزت الولاية مرحلة توزيع المنشورات العشوائية ومقاطع الهواتف المحمولة المهتزة. فهي تُركز على تماسك السرد، مُقدمةً قصصاً عن “انتصارات” في ساحات المعارك، وخطباً مُناهضة للحكومة، وروايات إنسانية عن المقاتلين وعائلاتهم؛ وهو محتوى زائف مُعدٌّ لإثارة الخوف والإعجاب في آنٍ واحد. وبذلك، لا تصل المجلة إلى الشباب الموزمبيقيين المهمشين فحسب، بل أيضاً إلى المُجندين المُحتملين في شرق إفريقيا الناطقة باللغة السواحلية ومجتمعات الشتات المُتحدثة بالعربية.

دور الدعاية في مسرح العمليات:

إن الدعاية ليست حدثاً ثانوياً في حركات التمرد الحديثة؛ بل هي مضاعف عملياتي يُعزز مكاسب ساحة المعركة ويُحافظ على الزخم عند تباطؤ الصراع المفتوح. وبالنسبة لولاية موزمبيق، تُحقق “نور الجهاد” عدة أهداف استراتيجية في آن واحد. فمن جهة توفر غطاءً من الشرعية المحلية؛ إذ من خلال توفير مبرر أيديولوجي للهجمات على المنشآت الحكومية والمدنيين، تُرسي المجلة سردية أخلاقية تُصوّر الدولة الموزمبيقية على أنها فاسدة ومعادية للإسلام بشكل لا رجعة فيه. وتستغل هذه السردية المظالم القديمة في مقاطعة كابو ديلغادو؛ حيث تشعر المجتمعات المحلية بالتجاهل من مشاريع الغاز الطبيعي الضخمة والتهميش من قِبل نخبة مابوتو.

ومن جهة أخرى تُعد حافزاً لتجنيد أعضاء جدد حيث تُبرز إصدارات “نور الجهاد” المطبوعة والإلكترونية عالية الجودة الحياة فيما يُسمى بدولة الخلافة – مع صور لكوادر مسلحة، وتدريبات، وأعمال خيرية متواضعة- مما يخلق وهماً بوجود دولة شبه فاعلة. ولا يخفى أن هذه الصور تجذب الشباب الذين لا يرون سوى بدائل اقتصادية محدودة في منطقة تتجاوز فيها نسبة بطالة الشباب 25%. أضف إلى ذلك تسعى هذه الدعاية إلى تأسيس شبكة من التضامن الإقليمي. فمن خلال النشر باللغة العربية ونشر رسائل باللغة السواحلية، تُقدم حركة داعش نفسها كجزء من صراع إسلامي شامل، وتربط مصيرها بمصير فروع داعش في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وحوض بحيرة تشاد. ولعل ذلك يعطي دافعاً قوياً للتجنيد عبر الحدود وتبادل التكتيكات، من الكمائن الصغيرة إلى العبوات الناسفة المرتجلة.

ثمة إمكانية أيضاً لجمع التبرعات والتحالفات. وليس خافياً أن أساليب الدعاية تستهدف قلوب وعقول المانحين. ومن المرجح أن يُسهم المتعاطفون الأثرياء من أنصار تيار الإسلام السياسي في العالم العربي أو أوروبا عندما يرون منتجاً احترافياً يُصوّر حركة “داعش” الإسلامية في موزمبيق كامتداد فعال للجهاد العالمي. ومن المرجح أن تُموّل هذه الأموال عمليات شراء الأسلحة، وترشو المسؤولين المحليين، وتُحافظ على هياكل الحكم الأساسية في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة.

تداعيات على موزمبيق والجنوب الإفريقي:

يُفاقم صعود “نور الجهاد” أزمة أمنية مُتفاقمة أصلاً في شمال موزمبيق؛ حيث نزح أكثر من 800 ألف مدني، ولم تُحقق قوة مكافحة الإرهاب الإقليمية – التي تضم قوات رواندية، وقوات من مجموعة التنمية لجنوب إفريقيا، وقوات وطنية- سوى نجاحات مُتقطعة. ويُنذر صدور المجلة بالعديد من التحديات:

1. تصاعد العنف: مع تجدد الروح المعنوية وهذه السرديات الدعائية الزائفة، من المُرجح أن تُكثّف حركة داعش في موزمبيق هجماتها ضد المواقع العسكرية والبنية التحتية الحيوية. لقد أثبت هجوم الجماعة في مارس 2025 على بالما – بوابة مشروع للغاز الطبيعي المسال بقيمة 20 مليار دولار- قدرتها على تعطيل أسواق الطاقة العالمية وثني المستثمرين الدوليين. ويُضفي إصدار “نور الجهاد” الشرعية على مثل هذه الهجمات؛ مما يضمن تصوير الاعتداءات الجديدة كجزء من صراع أوسع نطاقاً بدلاً من كونها جرائم معزولة.

2. إنهاك سلطة الدولة: لطالما كانت قدرة مابوتو على بسط نفوذها في كابو ديلغادو محدودة. اليوم، ومع حشد دعاية داعش للمجندين المحليين وإحراج القوات الحكومية، تُخاطر الدولة بالتنازل عن المزيد من الأراضي أو إجبارها على الدخول في تحالفات مؤقتة مع متعاقدين عسكريين من القطاع الخاص؛ وهو ترتيب يُقوض المساءلة ويُفاقم الفساد.

3. التداعيات الإنسانية: مع تصاعد العنف، تضيق الممرات الإنسانية. ويواجه المدنيون العالقون بين الأطراف المتحاربة انعدام الأمن الغذائي والتجنيد القسري والفظائع التي تُعيد إلى الأذهان أحلك فصول حملات داعش في بلاد الشام. وتُقدر الأمم المتحدة أن ما يقرب من 60 ألف شخص إضافي قد نزحوا في منتصف عام 2025؛ مما يُعكس المكاسب الهشة التي تحققت في المجتمعات التي عادت إلى ديارها مؤقتاً. ومن جهة أخرى يُصبح إيصال المساعدات أكثر خطورة عندما يدّعي المتمردون أنهم يُحققون “العدالة” وتُعد القوات الحكومية مُفترسة بنفس القدر.

4. الامتداد عبر الحدود: أبلغت تنزانيا عن تزايد الهجمات على نقاط التفتيش وضربات العبوات الناسفة التي اتهمت فيها كوادر آتية من موزمبيق. وبالمثل، تُبرز تقارير خلايا التجنيد في كينيا وأوغندا الامتداد الإقليمي لخطاب داعش. ولذلك تُوفر “نور الجهاد” الرابط الأيديولوجي الذي يجعل عبور الحدود غير المحكمة أمراً مُستساغاً للمقاتلين المُحتملين؛ مما يُحوّل أزمة موزمبيق إلى مصدر قلق أمني قاري.

تداعيات أوسع:

يُتيح انتشار “نور الجهاد” في موزمبيق نافذة على استراتيجية داعش الكبرى المُتطورة؛ إذ بعد فقدان خلافته الإقليمية في سوريا والعراق، تحوّل داعش نحو نموذج “الولايات” اللامركزية التي تسعى لتحقيق أهداف محلية مع الحفاظ على الوحدة الأيديولوجية. وبالفعل يُشرف مركز داعش الآن على مجموعة من الفروع في جميع أنحاء إفريقيا وآسيا، بدءاً من ولاية غرب إفريقيا وصولاً إلى ولاية شرق آسيا في الفلبين. ويُؤكد إدراج موزمبيق في هذه المجموعة مرونة الشبكة وقدرتها على استغلال المناطق غير الخاضعة للحكم.

ومن خلال الاستفادة من إخفاقات الفترة 2017-2019، يعمل مركز داعش المركزي الآن كحاضنة للدعاية؛ حيث يوزع اللافتات ومقاطع الفيديو على وسائل الإعلام الإقليمية التي تُكيّف بدورها المحتوى ليناسب اللغات المحلية والمظالم. ويُقلل هذا المنهج اللامركزي من خطر انهيار الشبكة تماماً في حال تعطل الذراع الإعلامي الرئيسي. ويؤمن التنظيم مصادر دخل متنوعة، فبينما اعتمد داعش في الشرق الأوسط بشكل كبير على “فرض الضرائب” على السكان المحليين؛ يمزج تنظيم ولاية موزمبيق بين نهب الموارد (الأخشاب والفحم) وتحويلات المغتربين، وربما التبرعات من دول أخرى. وعليه تُضفي “نور الجهاد” الشرعية على دعوات جمع هذه التبرعات من خلال الاستفادة من الشبكات الجهادية العابرة للحدود.

ما العمل؟

في مواجهة التطور الإعلامي الذي يشهده تنظيم داعش الإرهابي، يتعين على الجهات المعنية الإقليمية والدولية إعادة تقييم استراتيجياتها بشكل جذري.

أولاً: لا تكفي حرب المعلومات التقليدية عبر منصات التواصل الاجتماعي؛ بل ينبغي تطوير سرديات مضادة متعددة اللغات – البرتغالية، والعربية، والسواحلية- بمشاركة أصوات محلية مرموقة مثل الأئمة، والشيوخ التقليديين، وقادة المجتمع المدني، لمعالجة الدوافع الاجتماعية والاقتصادية والهوياتية التي يستغلها تنظيم داعش.

ثانياً: تتطلب المقاربة الأمنية انتقالاً من العمليات العسكرية الصرفة إلى سياسات أمنية مجتمعية، عبر الاستثمار في الشرطة المجتمعية والقوات المساعدة المجندة محلياً مع ضمان الرقابة الصارمة والمساءلة الفورية عن الانتهاكات، وذلك لتقويض سردية «ننقذكم من الدولة» التي ينشرها التنظيم.

ثالثاً: في مجال التنمية، يجب على الحكومة والشركاء الدوليين تبني مبادرات تنموية عادلة تضمن تقاسماً شفافاً لإيرادات الغاز والتعدين في المناطق الغنية بالموارد، إلى جانب حصص توظيف حقيقية للشباب المحلي ومشاريع صغيرة مملوكة للمجتمعات، لتقليل المظالم الاقتصادية التي تدفع نحو التجنيد.

رابعاً: لا بد من تعزيز التعاون الاستخباراتي الإقليمي بإنشاء فرقة عمل دائمة لمكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا، تتولى مراكز مشتركة لدمج المعلومات الاستخباراتية ودوريات حدودية وأطراً قانونية منسقة لملاحقة المقاتلين الأجانب؛ ما يسد الملاذات الآمنة في المناطق النائية التي تغذي صفوف التنظيم. أخيراً: يتعين على منظمات مثل الإنتربول ولجنة مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة إعطاء الأولوية لرصد القنوات المشفرة والبث عبر الأقمار الاصطناعية وخدمات الطباعة عند الطلب التي توزع «نور الجهاد»؛ إذ إن تعطيل هذه اللوجستيات سيدمر قدرة التنظيم على إبراز قوته إعلامياً وتوسيع رقعة تأثيره خارج الحدود.

ختاماً، يمكن القول إن إطلاق ولاية موزمبيق التابعة لتنظيم داعش لمجلة “نور الجهاد” يمثل منعطفاً خطراً في أمن منطقة الجنوب الإفريقي وجهود محاربة الإرهاب بشكل عام. فمن خلال إتقانها فن الدعاية على غرار داعش، ارتقت ولاية موزمبيق بنفسها من حركة تمرد مهمشة إلى جهة فاعلة تحظى باهتمام دولي، قادرة على التأثير في المقاتلين الأجانب، وتقويض شرعية الدولة، وتعطيل أسواق الطاقة العالمية. ويُخفي العرض التقديمي الأنيق للمجلة الحقائق المروعة على الأرض: النزوح الجماعي، والفظائع التي تُرتكب بحق المدنيين، والعسكرة البطيئة للحياة اليومية في كابو ديلغادو. ومع ذلك، وبينما تُظهر “نور الجهاد” براعة ولاية موزمبيق التكتيكية؛ فإنها تُتيح أيضاً فرصة سانحة. فالدعاية تزدهر في فضاء فراغ المعلومات. ومن خلال ملء هذا الفراغ بسرديات موثوقة ومجتمعية عن السلام والشفافية والعدالة الاجتماعية، يُمكن للسلطات الموزمبيقية وشركائها تقويض جاذبية المتمردين. وعليه لا يكمن التعويل في سحق التمرد على القوة العنيفة وحدها، وإنما أدوات القوة الناعمة كذلك من أجل التغلب على أيديولوجية تدّعي أنها تُنير الظلام. وعليه يمكن من خلال مقاربة متكاملة – تتلاقى فيها التنمية وإصلاح الحكم والتعاون الأمني والاتصالات الاستراتيجية- إخماد بريق “نور الجهاد” وإضاءة طريق التنمية نحو استقرارٍ دائمٍ في موزمبيق وما حولها.

رابط :

https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/10487