وسط أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة، يقف مبنى دار الكسوة الشريفة شاهدًا صامتًا على مجدٍ اندثر هنا، كانت تُنسج كسوة الكعبة يدويًا على مدى عامٍ كامل، بخيوط الذهب وأقمشة الخيامية السوداء، لتخرج في موكب مهيب يحمل توقيع مصر الروحي إلى بيت الله الحرام، لكنّ هذا المبنى العريق، الذي تأسس في عهد محمد علي باشا عام 1816م، بات اليوم مقرًا لتجميع «الكراكيب» ومخزنًا مهجورًا تابعًا لوزارة الأوقاف، بعد أن تنكرت له الوزارات التي كانت تتفاخر به يومًا.
ماضٍ مهيب.. وحاضر موجع
يعود إنشاء دار الكسوة إلى عام 1233 هـ (1816م)، عندما قرر محمد علي باشا تخصيص دار لصناعة الكسوة، وضمها إلى مصنع الغزل والنسيج الذي كان يُعرف بورشة الخرنفش للأقمشة. شهدت الدار في تلك الحقبة تطورًا كبيرًا في تقنيات الصناعة، حتى صارت قبلة للمهرة من الصناع في أوروبا والعالم الإسلامي. واستمرت مصر في إرسال الكسوة حتى عام 1962، حين توقف ذلك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
ورغم تسجيل المبنى كأثر إسلامي وفقًا لما ورد في «الوقائع المصرية – العدد 200 في أول سبتمبر سنة 2015»، إلا أن واقع الدار يناقض تمامًا قيمتها التاريخية والدينية.
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
جولة في محيط الأطلال
قامت «المصري اليوم» بجولة في محيط دار الكسوة، غير أن أبوابها المغلقة منذ سنوات حالت دون الدخول. المشهد من الخارج يُوحِي بالأسى: باب حديدي بديل عن الباب الأثري، جدران تآكلت بفعل الزمن، وسكان الحي يستعيدون ذكريات الدار التي طُمست ملامحها.
الحاج صابر، أحد سكان حي الخرنفش، قال: «كان العمال ينسجون الكسوة بخيوط الذهب على مدار سنة، تخرج بعدها الكسوة في زفة من الحارة، وكان احتفالًا كبيرًا، لكن الآن تحولت الدار لمخزن مهمل».
أما عم محمد، صاحب محل بالمنطقة، فأضاف متحسرا: «سمعت كتيرا عن الاحتفالات اللي كانت بتحصل جوه، وكان بيحضرها رؤساء، لكن ما بقاش حد بيهتم، حتى المسجد اللي كان جواها اتقفل، والمكان بقى مخزن لدواليب وكراسي قديمة”.
قال أحد الأهالي العاملين بالمنطقة، ويعمل مكوجيًا: «المكان ده ما اتسلمش من الأوقاف إلا في شتوية السنة اللي فاتت، وقبل كده كان مقفول من الستينات ومجرد مخزن تابع لهم. جم شوية بعد ما استلموه، نظّفوه كده على خفيف، وبعدين اختفوا تاني».
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
وتابع: «أنا شايف إنه مش محتاج جهد كبير، مجرد فتحه وتنضيف بسيط، وبعدها يقدر يستقبل الزوار من مصر وبرّه مصر. ده معلم ديني وأثري مهم، وكان بيطلع منه كسوة الكعبة اللي بتتشرف بيها مصر قدام العالم. يا ريت وزارة السياحة والآثار تهتم وتفتحه للناس».
آمال بتحويلها إلى مزار سياحي
رغم تسجيل الدار كمبنى أثري، وتسليمه لوزارة السياحة والآثار، إلا أن ترميمها لم يبدأ بعد. سكان الحي، يناشدون الجهات المعنية لتأهيله كمتحف أو مزار سياحي يُبرز الدور المصري في خدمة الحرمين الشريفين.
إحدى الروايات المتداولة في الشارع، يؤكدها سكان كُثُر، أن المكان ظل مغلقًا لعقود منذ ستينيات القرن الماضي، وظل يُستخدم كمخزن، قبل أن يتم استلامه رسميًا في الشتاء الماضي. لكن رغم هذا التطور، لم تواكبه خطوات جادة لإعادة الحياة إليه، إلا بمحاولة تنظيف سريعة انقطعت فجأة.
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
إهمال لا يليق بالتاريخ
الوصف المعماري الوارد في المستندات الرسمية يُشير إلى مبنى ثري بتفاصيله: من بوابة كبيرة تؤدي إلى ساحة مكشوفة، إلى قاعات مزينة بالشبابيك الخشبية، وسلالم تؤدي إلى قاعات واسعة كانت تُستخدم لحياكة الكسوة، وسطح يستوعب التجفيف وصناعة الزينة. إلا أن كل هذه الكنوز مطمورة تحت ركام الإهمال، بينما تتراكم فوقها طبقات من الغياب المؤسسي.
أزقة حي الخرنفش العتيق بالقاهرة
فهل يُعقل أن تظل دار نسجت كسوة الكعبة يدويًا، لعقود طويلة، طيّ النسيان؟.. سؤال يبحث عن إجابة من المسؤولين في وزارة السياحة والآثار.