راي اليوم :
د. حامد أبو العز :

في غمرة الحرب المفتوحة بين أوكرانيا وروسيا، جاءت عملية “شبكة العنكبوت” التي نفّذتها طائرات مسيّرة واستهدفت خمسة مطارات عسكرية روسية، كمفاجأة استراتيجية كاسحة قلبت كثيرا من المسلّمات. تمّ تدمير أو إعطاب أكثر من أربعين طائرة عسكرية روسية، من بينها قاذفات استراتيجية وطائرات إنذار مبكر، في هجوم يُقال إنه أُطلق من داخل الأراضي الروسية، باستخدام مسيّرات صغيرة تم تهريبها وتخزينها لأسابيع قبل إطلاقها دفعة واحدة. الرواية الرسمية تُشير إلى أن جهاز الأمن الأوكراني هو مَن خطّط ونفّذ الهجوم، لكن تحليلًا أعمق للوقائع والقرائن يطرح فرضية أكثر جذرية وهي أنّ أوكرانيا كانت واجهة فقط لعملية نفذها، أو على الأقل هندسها، جهاز الموساد الإسرائيلي كما فعل في عمليته في أصفهان في إيران.
بعيدًا عن التحليل العاطفي أو الطرح التآمري، تستند هذه الفرضية إلى مزيج نادر من التشابه التقني، والقدرة العملياتية، والفراغ التفسيري الذي لا يمكن ملؤه إلا بفهم السياقات الاستخباراتية العابرة للحدود. وأول ما يلفت النظر هو أن هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها طائرات مسيّرة هجومية صغيرة تُهرّب إلى الداخل وتُطلق من نقاط قريبة من الهدف دون أن تتمكن أجهزة الدفاع من رصدها مسبقًا. هذا النمط، بل هذه البصمة، سبق وأن تكرّرت في عمليات شهيرة نُسبت إلى الموساد، داخل دول مغلقة أمنيا ومعادية له أيديولوجيا. التشابه هنا لا يمكن اعتباره عرضيا.
في عملية “شبكة العنكبوت”، لم تُطلق الطائرات المسيّرة من خارج روسيا، كما هو الحال في الضربات الأوكرانية التقليدية، بل نُقلت هذه الطائرات إلى العمق الروسي بوسائل مدنية، واختبأت داخل شاحنات تجارية، ثم أُطلقت من نقاط قريبة من المدارج الجوية، بشكل منسّق ومتزامن، ما أحدث عنصر المفاجأة الكامل. إنّ مجرد القدرة على تهريب أكثر من مئة مسيّرة عبر حدود العدو، وتخزينها وتشغيلها دون أن تُكتشف، هو في حد ذاته إنجاز استخباراتي لا يقل أهمية عن التفجير نفسه.
أوجه الشبه بين عملية العنكبوت وعملية أصفهان في إيران واضحة للغاية من حيث نوع الطائرات، دقة الاستهداف، وتكتيكات التخفي والتسلل، وکل ذلك يُرجّح أن تكون الجهة المنفذة واحدة أو على الأقل مدعومة بنفس البنية الاستخباراتية والتقنية. وعند الأخذ بعين الاعتبار الأدلة التقنية والقرائن الظرفية التي تحيط بالعملية الأوكرانية، فإن فرضية تورط الموساد في هذه الضربة ضد روسيا لا تبدو مستبعدة، بل تكتسب وجاهة تحليلية، خاصة في ظل التنسيق العميق بين أجهزة الاستخبارات الغربية والإسرائيلية في مثل هذه العمليات عالية التعقيد.
ولتعزيز هذه الفرضية، يبرز السؤال المركزي: هل لدى أوكرانيا جهاز استخبارات ميداني بهذه القدرة؟ بل الأهم، لو كانت تمتلكه فعلا، فلماذا لم تستخدم هذه الورقة سابقا؟
هذا السؤال لا يمكن تجاوزه دون الاعتراف بأن أوكرانيا، منذ بدء الحرب، لم تظهر سوى كقوة دفاعية ذات طبيعة جيوتكتيكية محدودة، مدعومة بغربٍ يزوّدها بالسلاح والمعلومات. لم تُظهر كييف أبدًا أنها تمتلك شبكة لوجستية قادرة على اختراق العمق الروسي بهذا المستوى من التعقيد والتنسيق، ولا جهازا استخباريا يستطيع تجنيد خلايا أو فرق إطلاق داخل روسيا تعمل على هذا النحو المحترف. إن تأجيل تنفيذ هذه الضربة حتى هذا التوقيت، رغم توافر الأهداف من شهور، لا يمكن فهمه ضمن منطق الاستراتيجية الأوكرانية، بقدر ما يمكن تفسيره من خلال منطق طرف ثالث، يملك هذه القدرة منذ وقت طويل، وينتظر لحظة مناسبة لتفعيلها.