وأشارت الصحيفة إلى أنه “قبل 5 سنوات عندما شلّ الوباء الاقتصاد العالمي، لجأ الاقتصاديون المنهكون إلى تدابير جديدة، مثل بيانات التنقل وحجوزات المطاعم، لتتبع الإغلاق آنيا”.
وتابعت: “الآن، يتوق العالم لتقييم الضرر الناجم عن الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها ترامب على الواردات الصينية، ويلجأ الخبراء الاقتصاديون مجدداً إلى أساليب مبتكرة”.
وذكرت أن نتائجهم تشير إلى أن “أكبر اقتصاد في العالم لم يتعاف بعد، والأسوأ لم يأتِ، وفق تحليل معمق أجرته، لأدوات التحليل الأكثر مطقة لاستقراء المستقبل”، مضيفة أنه “حتى قبل تطبيق العديد من الرسوم الجمركية، فإن استطلاعات الرأي أظهرت أن المستهلكين والشركات الأمريكية كانوا قلقين بالفعل”.
ووفقاً لمسح أجراه “فرع دالاس للاحتياطي الفدرالي”، انخفض إنتاج المصنّعين إلى أدنى مستوى قياسي في أبريل، لكن مثل هذه الإحصاءات قد تكون مضللة، ويسمح الأمريكيون لآرائهم السياسية بالتأثير على نظرتهم لأداء الاقتصاد.
ونوهت الصحيفة إلى أنه خلال رئاسة جو بايدن، أفادوا مراراً بانخفاض الثقة مع استمرار الإنفاق، ما جعل القراءات أقل قدرة على التنبؤ. من ناحية أخرى، تُشير البيانات “الثابتة”، مثل تقديرات الرواتب والناتج المحلي الإجمالي، إلى عالمٍ لم يعد موجوداً.
وتعكس أرقام الوظائف القوية لشهر مارس سلوك الشركات في وقتٍ ظلت فيه تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية غامضة، وتهدف البيانات الآنية إلى تجنب كلا المأزقين من خلال توفير صورة آنية للنشاط الاقتصادي على مستوى العالم.
ولفتت إلى أن “العديد من مؤشرات حقبة كوفيد-19 غير ذات صلة أو لم تعد تُنشر. لحسن الحظ، يتم تتبع التجارة العالمية بدقة. تنطلق السفن قبل أسابيع من وصولها، وتبث مواقعها عبر الأقمار الصناعية وتقدم قائمة بما تحتويه. قد تشير بعض البيانات إلى تأثير محدود للحرب التجارية حتى الآن”.
في الأسبوع المنتهي في 25 أبريل، وصلت 10 سفن حاويات، محملة بـ 555 ألف طن من البضائع، إلى موانئ لوس أنغلوس ولونغ بيتش – بوابات الدخول المفضلة لأمريكا للبضائع من الصين. وهذا يُعادل تقريباً نفس الفترة من العام الماضي. لكن الإبحار بين الصين والساحل الغربي لأمريكا يستغرق ما بين أسبوعين و40 يوماً. العديد من سفن الشحن التي تصل الآن تنطلق قبل بدء الرسوم الجمركية.
وتبدو مؤشرات أخرى أكثر إثارة للقلق. فقد انخفضت حجوزات الرحلات الجديدة بين الصين وأمريكا بنسبة 45 في المئة على أساس سنوي في الأسبوع الذي بدأ في 14 أبريل، وفقاً لشركة فيزيون للبيانات. وارتفع عدد الرحلات البحرية الفارغة، عند تجاوز سفينة ميناء أو قيام شركة نقل بعدد أقل من السفن على مسار معين لتحقيق التوازن في الخدمة، إلى 40 في المئة من جميع الرحلات المجدولة.
وتشير بيانات الأسعار إلى إعادة تنظيم تدفقات التجارة. فقد انخفضت تكلفة الإبحار بين شنغهاي ولوس أنجلس بنحو 1000 دولار أمريكي في الشهر الماضي، وفقاً لشركة فريتوس للخدمات اللوجستية، حيث انتقلت الشركات من «الاستباق» في تطبيق التعريفات الجمركية – باستيراد كميات أكبر من المعتاد قبل الموعد النهائي للتنفيذ – إلى تجنبها. وارتفع سعر نقل البضائع من فيتنام إلى أمريكا بنسبة مماثلة، ما يشير إلى أن المستوردين كانوا يبحثون عن موردين بديلين.
هل يمكن أن تكون بعض هذه التحذيرات كاذبة؟
بيانات الشحن موسمية ومتقلبة: على سبيل المثال، الانخفاض بنسبة 30 في المئة على أساس سنوي في الحجوزات المجدولة إلى لوس أنغلوس، هو ضمن التباين الأسبوعي الطبيعي. أما الموانئ الأصغر، مثل ميناء سياتل، فلا تشهد سوى سفينة شحن واحدة تصل يومياً في المتوسط.
قد لا يكون مرور بضعة أيام دون رؤية سفينة تصل أمراً غير معتاد. كما أن المؤشرات عالية التردد الأكثر شيوعاً لا تشير إلى أن الاقتصاد قد توقف بالفعل. ووفقاً لبنك باركليز، بلغ الإنفاق ببطاقات الائتمان وفرص العمل في أميركا نفس المستويات تقريباً في أبريل كما في الشهر نفسه من عام 2024.
ولكن الألم قادم على الأرجح. قد تستغرق الصدمات التجارية بعض الوقت لتنتشر في الاقتصاد، بحسب «ذا إيكونوميست»: ستكون بعض الشركات قد بنت مخزونات قبل دخول التعريفات حيز التنفيذ. وقد ارتفع الطلب على المستودعات الجمركية، التي تسمح بتخزين البضائع بالقرب من الموانئ ودفع الجمارك بمجرد الإفراج عنها.
وتختار العديد من الشركات عدم رفع الأسعار – وهو أمرٌ ينبغي عليها فعله نظرياً، لترشيد مخزوناتها – إما لأنها مُلزمة بعقودٍ سابقة أو ترغب في الحفاظ على علاقاتها مع العملاء في حال تراجع السيد ترامب. وقد تُجبر على القيام بذلك قريباً.
يقول بيتر ساند من شركة زينيتا للاستشارات اللوجستية إن حالة عدم اليقين التي أحدثتها سياسة ترامب الجمركية غير المنتظمة قد فاجأت العديد من شركات الشحن، حتى بعد عقدٍ من الزمان شهدها وهي تكافح في وجه عواصف ناجمة عن الجائحة، وانسداد قناة السويس، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر. سيؤثر ذلك سلباً على التجارة والاقتصاد الأوسع حتى لو ألغت أمريكا أشد إجراءاتها العقابية. ستصل السفن التي لم تغادر في الوقت المحدد متأخرةً، أو لن تصل على الإطلاق. ستُستنفد المخزونات. ستُجمّد العديد من الشركات خطط الاستثمار والتوظيف التي قد تتأخر في إعادة تشغيلها. لم تُعانِ أمريكا بعد من عاصفة تجارية ذاتية، لكن توقعات الشحن ليست جيدة.
شفقنا
انهيار الدولار.. الأزمة لم تعد مجرد نظرية

لطالما كانت النظرية الاقتصادية التقليدية تشير إلى أن فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية على الواردات سيؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، بفعل انخفاض الطلب على العملات الأجنبية وتوقعات التشديد النقدي. لكن ما تشهده الأسواق مؤخرًا يقلب هذه الفرضيات رأسًا على عقب، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية عالمية.
وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور فيفيكاناند جاياكومار، أستاذ الاقتصاد المشارك في جامعة تامبا، أن الأزمة الحالية لم تعد مجرد فرضية أكاديمية، بل واقع ملموس يهدد موقع الدولار في النظام المالي العالمي.
ويشرح جاياكومار أن التعريفات الجمركية، بحسب الرؤية التقليدية، تقلل من حجم الواردات عبر رفع تكلفتها، ما يحدّ من الطلب على العملات الأجنبية اللازمة لسداد قيمة تلك السلع، ويقود إلى دعم الدولار. كما أن هذه الرسوم ترفع الأسعار المحلية، ما يزيد من توقعات التضخم، وبالتالي يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تبني سياسة نقدية أكثر تشددًا مقارنة بالبنوك المركزية الأخرى، وهو ما يعزز قيمة العملة الأمريكية.
وفوق ذلك، يُفترض أن الدولار، باعتباره “عملة الملاذ الآمن”، يستفيد خلال فترات عدم اليقين من تدفقات استثمارية نحو سندات الخزانة الأمريكية، التي تُعدّ من أكثر الأصول أمانًا. لكن الواقع خالف كل هذه التوقعات.
فمنذ ذروته الأخيرة في يناير/ كانون الثاني، هبط مؤشر الدولار الأمريكي (DXY) إلى أدنى مستوى له خلال ثلاث سنوات، رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية والمخاطر الاقتصادية. وعلى الرغم من أن السياسات التجارية التي انتهجها الرئيس دونالد ترامب خلقت حالة من الفوضى، وتسببت في مخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية، فإن الدولار الأمريكي فقد الكثير من جاذبيته كعملة ملاذ آمن.
ويضيف جاياكومار في مقال نشرته صحيفة “ذا هيل” أنه “لأول مرة في التاريخ الحديث، بدأ المستثمرون يشككون في الدور التقليدي للدولار وسندات الخزانة الأمريكية كركائز للاستقرار المالي، نتيجة للسياسات المتقلبة وغير المتوقعة التي تتبعها الإدارة الأمريكية، إلى جانب التهديدات لاستقلالية المؤسسات الاقتصادية“.
وتراجعت السردية التي تمحورت حول “الاستثنائية الأمريكية” والنمو المدفوع بالتخفيضات الضريبية، ليحل محلها قلق حقيقي من الركود الاقتصادي، وربما حتى “الركود التضخمي” – وهو مزيج قاتل من النمو البطيء والتضخم المرتفع – ما يقلص شهية المستثمرين نحو الأصول الأمريكية.
ويشير إلى أن بيانات الخزانة الأمريكية تبرز حجم التحدي: ففي عام 2024، تجاوزت مدفوعات الفائدة على الدين العام (949 مليار دولار) الإنفاق الدفاعي (826 مليار دولار)، في مؤشر على تصاعد الضغوط المالية. ومع تزايد الحديث عن القمع المالي، تتجه الأنظار إلى مدى قدرة الإدارة الحالية على ضبط السياسات دون الإضرار بجاذبية سندات الخزانة.
وفي ظل هذه الظروف، اتسعت الفجوة بين عوائد السندات الأمريكية ونظيرتها الأوروبية، مثل سندات البوند الألمانية، بينما سجل اليورو والين الياباني مكاسب أمام الدولار، في مشهد يعكس تحوّلًا في سلوك المستثمرين. وارتفعت أسعار الذهب بشكل غير مسبوق، متجاوزة 3500 دولار للأونصة، في إشارة إلى تصاعد القلق العالمي من فقدان الدولار لمكانته.
فهل نحن أمام أزمة مؤقتة؟ أم بداية تحوّل هيكلي في النظام المالي العالمي؟
يشير جاياكومار إلى أن الدولار عادة ما يمر بدورات صعود وهبوط تستمر لسنوات، وقد تكون هذه بداية مرحلة هبوط طويلة جديدة، مدفوعة بتغيرات هيكلية في النظام النقدي الدولي.
ورغم ما يتمتع به الدولار من مزايا الشبكة والهيمنة المؤسساتية، يلفت جاياكومار إلى أن “الأبحاث الاقتصادية تُظهر أن الدولار لم يكن محصنًا في الماضي، إذ إن استبداله بالجنيه الإسترليني كعملة احتياطية حدث في وقت أبكر مما يُعتقد، بفعل تعميق الأسواق الأمريكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي”.
ويحذر جاياكومار من أن توسّع أوروبا في إصدار سندات موحدة مقوّمة باليورو، إلى جانب تحرير الصين لحساب رأس المال وتعزيز انفتاحها المالي، قد يُعجّل بانتقال النظام المالي العالمي من نموذج أحادي القطب إلى نموذج متعدد الأقطاب. كما أن جهود مجموعة “بريكس” والاقتصادات الناشئة الأخرى تهدف إلى كسر الاعتماد المفرط على الدولار، في مسعى للتحرر من هيمنته على النظام المالي العالمي.
وفي ختام تحليله، يشدد جاياكومار على أن الحفاظ على موقع الدولار كعملة مهيمنة يتطلب إجراءات حاسمة، قائلًا: “بدلًا من تعميق التحالفات وضمان استقرار النظام المالي، تمارس إدارة ترامب لعبة خطيرة قد تُعجّل بانهيار الثقة في الدولار”.
وبينما يترنح الدولار وسط هذه التحولات العميقة، بات على المستثمرين وصنّاع السياسات التعامل مع الأزمة كاحتمال واقعي، لا كمجرد نظرية اقتصادية.
*القدس العربي
شفقنا