موقع إعجاز القرآن والسنة :
كتب الدكتور أنس العمايرة بحثاً في الفرق بين جرح واجترح واستحالة الترادف بين ألفاظ القرآن الكريم ما يلي :
[ الفرق بين جَرَحَ و اجْتَرحَ في لغة التنزيل
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
(جَرَحَ و اجْتَرحَ) فعلان قرآنيان متفقان في الجذر اللغوي: (جَرَحَ)، كثيرٌ من المفسرين فسر كلا الفعلين بمعنى: الكسب. يقول ابن الجوزي -على سبيل المثال لا الحصر-: (وجرحتم بمعنى كسبتم)(1)
(1) زاد الميسر: 3/55، مرجع سابق.
ويقول: (واجترحوا بمعنى : اكتسبوا)(2). (2) زاد الميسر:7/361، وانظر كذلك -على سبيل المثال-: التبيان في تفسير غريب القرآن للهائم المصري:1/179و 1/377، و معاني القرآن للنحاس: 2/264و438و 6/425، مراجع سابقة.
وإلى ذلك ذهب كثير من أصحاب المعاجم، يقول أبو بكر الرازي في مختار الصحاح: (و”جَرَحَ”: اكتسب. وبابه أيضا قَطَعَ، “واجترح” مثلُه)(3). (3) مختار الصحاح: 42، مرجع سابق.
ويقول ابن منظور في لسانه: (وجَرَح الشيءَ واجْتَرَحَه: كَسَبه، وفي التنزيل: ]وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ (الأنعام:60) …… وفلان يَجْرَحُ لعياله ويَجْتَرِحُ ويَقْرِشُ ويَقْتَرِشُ بمعنى. وفي التنزيل: ]أَم حَسِبَ الذين اجْتَرَحُوا السيِّئات[ أَي: اكتسبوها)(4). (4) لسان العرب: 2/422، مرجع سابق.
ويقول الفيومي في “المصباح المنير”: (“جَرَحَ” و “اجْتَرَحَ”: عمل بيده واكتسب)(5). (5) المصباح المنير: 1/95، مرجع سابق.
ويقول الفيروز آبادي في القاموس المحيط: (وجَرَحَ كمنع: اكتَسَبَ كاجْتَرَحَ)(6). (6) القاموس المحيط:1/217-218، مرجع سابق.
ويقول “مرتضى الزبيدي” في “تاج العروس من جواهر القاموس”: (جَرَحَ الشَّيْءَ كَمنع: اكْتَسَبَ، وهو مجازٌ كاجْتَرَحَ)(7). (7) تاج العروس:1/1564، مرجع سابق.
حول الأصل اللغوي
[ (جَرَحَ و اجْتَرحَ) أصلهما اللغوي من الأصوات الثلاثة: (ج ر ح) وهي دالة -في أصل اللغة- على: شَقّ الجِلْد وتمزيقه بشيء حاد كالسكين وغيره – ينظر: المفردات: 102، لسان العرب: 2/422، تاج العروس:1/1564، المعجم الوسيط:1/115، و التحرير والتنوير: م4/ج7 :276، مراجع سابقة ] .
[ وليس الأمر كذلك؛ إذ إن لغة التنزيل تأبى ذلك الترادف، وسنوضح ذلك كلاً في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك قوله تعالى:]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[ (المائدة:45)؛ ومن هنا أُطلق على كل من يصيد من الطيور والسباع “جارحة (- ينظر: الكليات: 330، مرجع سابق ] .
[ لأنها: تجرح الصيد وتشُقّ جِلْدَه ليُمسكه الصائد – ينظر هذا المعنى في: المفردات: 102، و التحرير والتنوير: م4/ج7:276، مرجعان سابقان ] .
[ ومن ذلك قوله Y:] وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ[ (المائدة:4).
ثم سُميت هذه الجَوَارِحُ: كَواسب– ينظر المعنى في: التحرير والتنوير: م4/ج7 :276، مرجع سابق.
لأنها تكسب لنفسها ولصاحبها ، فهي تَجْرَحُ لأَهلها، أَي: تَكْسِبُ وتجلب لهم الفريسة – ينظر هذا المعنى في: العين للفراهيدي: 3/77، لسان العرب:2/422، المفردات: 102، مراجع سابقة ] .
[ ثم توسع في الاستعمال وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجَرح – التحرير والتنوير: م4/ج7 :276، مرجع سابق.
[ حتى أصبح يستعمل الفعل (جَرَحَ) بمعنى : عمل وكَسَب. وأصبحوا يقولون: فلان يَجْرَحُ لعياله، أي: يكسب لهم. وفلان جارحُ أَهلِه وجارِحَتُهم، أَي: كاسِبُهم. وفلان ما له جارحة، أَي: ما له كاسِبٌ– ينظر هذا المعنى في: العين للفراهيدي: 3/77، لسان العرب:2/422، تفسير ابن كثير:2/19، مراجع سابقة ] .
[ يقول ابن فارس: (جرح: الجيم والراء والحاء أصلان: أحدهما الكسب، والثاني شَقّ الجِلْد. فالأول قولهم: “اجترح” إذا عمل وكَسَبَ، قال تعالى: ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ[ (الجاثـية:21)؛ وإنما سُمّي ذلك اجتراحا لأنه عَمَلٌ بالجوَارح، وهي الأعضاء الكواسب …..)– المقاييس: 213، مرجع سابق ] .
جولة مع مادة (جَرَحَ) وتصريفاتها في القرآن الكريم
ورد هذا الجذر (ج ر ح) في القرآن بأربعة تصريفات هي: جَرَحَ، اجْتَرحَ، جُرُوحَ، جَوَارِحِ.
فجَرَحَ و اجْتَرحَ هما محور الدراسة في هذا المطلب؛ لذا سنبدأ بالتصريفين الآخرين إجمالا ثم ننتقل للفعلين (جَرَحَ و اجْتَرحَ) تفصيلا:
أولاً: (جُرُوح): [ وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ]وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[ (المائدة:45).
وهي جمع “جُرح”، يقول الزبيدي في تاج العروس: (…. والاسم الجُرْح بالضّمّ وجمعه: “جُرُوحٌ” و”أَجْراحٌ” و”جِرَاحٌ”. قيل: “قَلَّ أَجْراحٌ” إِلاّ ما جاءَ في شِعْرٍ) – تاج العروس:1/1564، مرجع سابق ] .
[ وتجمع كذلك على “جِراحاتٌ – ينظر: لسان العرب:2/422، مرجع سابق.
ويقال: (رجل جَريح من قوم جَرْحى. وامرأَة جَريح. ولا يجمع جمع السلامة؛ لأَن مؤنثة لا تدخله الهاء، ونِسْوة جَرْحى كرجال جَرْحى) – المرجع السابق نفسه ] .
[ جاءت هذه الصيغة “جُرُوح” في الآية تحمل الأصل اللغوي للكلمة وهو: “شَقّ الجِلْد وتمزيقه – وقد فرق بعض اللغويين بين”الجُرْح” بالضمّ و”الجَرْح” بالفتح، فقيل بالضم يكون في: الأَبدانِ كالحَديد ونَحْوِه. وبالفتح: يكون باللّسان في المَعانِي والأَعراضِ ونحوِها. ينظر: تاج العروس:1/1564؛ لذا يقال: جَرَحَه بلسانه أي: شتمه و عابه وتنقصه. ينظر: لسان العرب: 2/422، و المصباح المنير: 1/95، ومنه جَرَحْتُ الشاهد إذا: أظهرت فيه ما ترد به شهادته. ينظر: المصباح المنير:1/95، و الفائق للزمخشري:1/208. إلا أن ذلك يبطله حديث النبي e المتفق على صحته (العَجْماءُ جَرْحُها جُبار) (البخاري:6/2533، برقم: 6514، و مسلم: 3/ 1334، رقم: 1710) حيث ضبطت بفتح الحاء في حين المراد بها: الإتلاف سواء أكان بجرح العَجْماء أم غيره. ولا يكون قطعا بالسان؛ إذ إن البهيمة سميت بالعجماء لأنها لا تتكلم) ومعنى الحديث: إذا أتلف الحيوان أو البهيمة شيئا بغير تفريط من مالكها أو أتلفت شيئا وليس معها أحد، فلا يضمن صاحبها ذلك. انظر: تعليق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي على حديث رقم:1710، من كتاب صحيح مسلم: 3/ 1334، تحقيق وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي في بيروت بلا تاريخ. يقول الأصفهاني: (جرح: الجُرْحُ: أَثَرُ داء في الجلد يقال: جَرَحَه جُرحَا فهو جَرِيْح ومَجْرُوْح …) – المفردات: 102، مرجع سابق ] .
ويقول ابن منظور: [ (“جرح” الجَرْح الفعلُ جَرَحه يَجْرَحُه جَرْحاً: أَثَّرَ فيه بالسلاح)– لسان العرب:2/422، مرجع سابق.
ومنه قول الحُطَيئة:
مَلُّوا قِراهُ وهَرَّتْهُ كِلابُهمُ | وجَرَّحوهُ بأَنْيابٍ وأَضْراسِ– |
تاج العروس:1/1564، مرجع سابق ] .
[ قلت: الكلمة في الآية تحمل معنى: “الشَقّ والتمزيق”، يقول السعدي رحمه الله: (]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[ والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فَمَنْ جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحاً، مثل جرحه للمجروح، حداً، وموضعاً، وطولاً، وعرضاً، وعمقاً) – تفسير السعدي: 196، وللمزيد راجع كل من: تفسير القرطبي:6/ 181، تفسير ابن كثير:2/71، أحكام القرآن للجصاص: 4/95و96 وكذا 1/198، و التحرير والتنوير: م2/ج2: 136، مراجع سابقة ] .
ثانياً: (جَوَارِحِ): وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ]يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ (المائدة:4).
[ فالْجَوَارِح في الآية جمع “جَارِحَة” وهي تطلق على ذواتِ الصيد من الطير والسباع ذكرا كان أم أنثى. وأطلق عليها هذا الاسم لأنها: تجرح الصيد وتشُقّ جِلْدَه لتأكله. وقيل ليُمسكه الصائد – ينظر هذا المعنى في: المفردات: 102، و التحرير والتنوير: م4/ج7:276، مرجعان سابقان ] .
[ كما قلنا سابقا-. وقيل لأَنها تَجْرَحُ لأَهلها أَي: تَكْسِبُ لهم – لسان العرب: 2/422، مرجع سابق ]
إلا أن المعنى الأول أقرب عندي؛ لأن الله أطلق عليها جميعها هذه الكلمة ثم خصص الإباحة لمن تم تعليمها على الصيد؛ وبالتالي أفهم من ذلك أن من لم يتم تعليمها يطلق عليها جارحة أيضا مع أنها لا تَجْرَحُ لأَهلها أَي: لا تَكْسِبُ لهم. لذلك علل الفيومي -رحمه الله- سبب تسميتها بذلك لأنها تكسب لنفسها فقال: (“جَرَحَ” و “اجْتَرَحَ” عمل بيده واكتسب. ومنه قيل لكواسب الطير والسباع “جَوَارِحُ” جمع “جَارِحَةٍ” لأنها تكتسب بيدها) – المصباح المنير:1/95، مرجع سابق ] .
وبالمجمل فالآية تبيح لنا أكلَ ما صاده الطير والسباع والكلاب بشريطة أن نعلمهن كيفية الاصطياد المشروع كعدم أكلهن من الفريسة عند صيدها …..إلخ. وكلمة “مُكَلِّبِينَ” حال للقانص وإن صاد بغير الكلاب. وكلمة “الْجَوَارِح” صفة للحيوانات الجارحة، أي التي تجرح وتشق وبالتالي تكون قد حملت المعنى الأصلي للكلمة.
أولاً : جَرَحَ
(كَسَبَ خيراً أو شراً باستخدام جارحة له)
[ “جَرَحَ” وهو الفعل الماضي الثلاثي، فريدة من فرائد التعبير القرآني؛ كونها لم ترد بالصيغة الفعلية إلا مرة واحدة، وكان ورودها في سورة الأنعام، قال تعالى: ]وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (الأنعام:60).
[ هذه الفريدة لم يخصها كثير من المفسرين بشيء من الفروق؛ بل فسرها أكثرهم بمعنى الكسب فقط. ولم يفرقوا بينها وبين الفعل “اجترح” عند تفسيرهم للفعلين. قال مجاهد ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ يعني: ما كسبتم. ]ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ[ يعني: في النهار) – تفسير مجاهد:1/217، مرجع سابق. وكذا نسبه النحاس لمجاهد. انظر معاني القرآن للنحاس:2/264، مرجع سابق ] .
[ وممن ذهب إلى ذلك: النحاس في معاني القرآن– ينظر: معاني القرآن للنحاس: 2/264 و6/425، مرجع سابق ] .
[ وصاحب التبيان في تفسير غريب القرآن – ينظر: التبيان في تفسير غريب القرآن للهائم المصري:1/179، مرجع سابق ] .
[ ، وابن الجوزي في زاد المسير– ينظر: زاد المسير: 3/55، مرجع سابق ] .
[ والسيوطي في الدر المنثور– ينظر: الدر المنثور: 3/280، مرجع سابق ] .
، [ وأبو السعود في إرشاد العقل السليم– ينظر إرشاد العقل السليم: 3/143، مرجع سابق] .
[ على حين ذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى الفعل “جَرَحَ” خاص في كسب الإثم. ينسب ذلك لعبد الله بن عباس – ينظر: الدر المنثور: 3/280، و روح المعاني: 7/ 173، وتهذيب وتقريب الطبري: 3/428، مراجع سابقة ] .
وقتادة t إذ روي عنه أنه قال: (]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ يعني: ما عملتم من الإثم بالنهار ]ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ[ في: النهار، والبعث: اليقظة) – تفسير القرآن لعبد الرزاق بن همام الصنعاني:2/208، والدر المنثور:3/280، و روح المعاني:7/ 173، مراجع سابقة ] .
وإلى هذا التفسير ذهب الزمخشري إذ يقول: [ (]وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ[ الخطاب للكفرة، أي، أنتم منسدحون الليل كله كالجيف. ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: ما كسبتم من الآثام فيه. ]ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ[ أي: ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار) – الكشاف: 1/362، مرجع سابق ] .
وإلى ذلك ذهب الألوسي أيضا – ينظر تفسير الألوسي: 7/173، مرجع سابق ] .
[ والنسفي إذ يقول الثاني: (]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: كسبتم فيه من الآثام) – تفسير النسفي:1/327، مرجع سابق ] .
[ وكذا: ابن عاشور إذ يقول: (]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ[ أي: وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي، ثم يردّكم ويمهلكم)– ينظر: التحرير والتنوير: م4/ج7 :276، مرجع سابق ] .
[ وكأن البيضاوي يميل لذلك– ينظر: تفسير البيضاوي: 1/416، مرجع سابق] .
وقد استدلوا لهذا التفسير بسياق الآية، فيرى الألوسي رحمه الله أن الآية جاءت في سياق التهديد والتوبيخ فناسب أن يكون معنى “جرحتم” كسبتم الآثام. يقول رحمه الله : (]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: ما كسبتم وعملتم فيه من الإثم – كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة- وهو الذي يقتضيه سياق الآية؛ فإنه للتهديد والتوبيخ ولهذا أوثر يتوفاكم على ينيمكم ……. و جرحتم على كسبتم إدخالا للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع. وبعضهم يجعل الخطاب عاما ……) – روح المعاني: 7/173، مرجع سابق ] .
[ في حين أن الإمام ابن عاشور رحمه الله يرى أن الجملة التي ورد فيها الفعل جاءت امتنانا من الله بنعمة الإمهال، إذ يقول: (وجملة ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين …….. ففي الإخبار أنه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين وتهديد للمشركين) – التحرير والتنوير: م4/ج7 :276 بتصرف يسير، مرجع سابق ] .
والواقع أن هذا الذي ذهب إليه الفريقان قد يحتاج إلى إعادة نظر؛ إذ إن الفريق الأول تعترضهم قاعدة “لا ترادف في القرآن الكريم” لأنه دليل على الحشو والزيادة، وهي صورة من صور النقص والعجز في التعبير، وكتاب الله أجلُ من ذلك وأكبر، وحاشاه أن يتصف بذلك.
أما الفريق الثاني: فأرى أنهم ضيقوا واسعا من غير دليل؛ فصياغة الجملة في الآية عامة تشمل جميع الأفعال ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ والمعنى: “ويعلم الله ما عملتم أيها البشر وكسبتم في النهار من خير ومن شر“؛ لأن أفعال البشر لا تقتصر على الشر وحده ولا الخير وحده، فهي مترددة بينهما. ولم تأت قرينة واضحة تصرفها عن ذلك، ولم يأت مخصص يخصصها بأحدهما.
وبناء على ذلك أرى أن الفعل جاء بمعنى عام لا خاصٍ، يشمل كَسْب الخير أو الشر. وهذا ما ذهب إليه الإمام ابن كثير فيقول: [ (وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن: جوارح. من الجرح وهو: الكسب، كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا أي كسبهم خيرا. ويقولون: فلان لا جارح له، أي: لا كاسب له. وقال الله تعالى: ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: ما كسبتم من خيروشر- تفسير ابن كثير، في سياق تفسيره للآية الرابعة من سورة المائدة: 2/19، مرجع سابق ] .
وإلى ذلك ذهب الإمام الشوكاني –رحمه الله– في فتح القدير حيث يقول: (]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: كسبتم بجوارحكم من الخير والشر) – فتح القدير: 2/180، مرجع سابق ] .
وكذا الثعالبي في الجواهر الحسان فيقول: [ (ومنه قوله تعالى: ]وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ[ أي: ما كسبتم من حسنة وسيئة) – الجواهر الحسان في تفسير القرآن، في سياق تفسيره للآية الرابعة من سورة المائدة:1/444، مرجع سابق ] .
ثانياً : اجْتَرحَ
(اكتسب الشر دون الخير باستخدام جارحة له)
[ “اجْتَرحَ” فريدة من فرائد التعبير القرآني؛ لأنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة. وهي فعلٌ ماضٍ مزيد بحرفين على وزن “افْتَعَل”، وردت في سورة الجاثية، قال تعالى: ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[ (الجاثـية:21).
[ تسمى هذه الآية (مبكاة العابدين) – تفسير الألوسي: 25/151، مرجع سابق ] .
[ لأن كثيرا من العُبَّاد كانوا يبكون عند تلاوتها فقد روي أن “تميما الداري” قام الليل على هذه الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام. – انظر تفسير البغوي:1/244، تفسير القرطبي:16/143، تفسير ابن كثير:4/158، الدر المنثور: 7/426، تفسير الألوسي: 25/151، تفسير الثعالبي:4/145، والتبيان في آداب حملة القرآن:1/37، مراجع سابقة ] .
و [ كذا “الربيع بن خثيم” – تفسير الألوسي: 25/151، مرجع سابق] .
[ ويروى أن “الفضل بن عياض” كان يقول لنفسه إذا قرأها:(ليت شعري مِن أي الفريقين أنت؟)– تفسير الألوسي: 25/151، مرجع سابق ] .
نزلت هذه الآية ردا على بعض مشركي قريش للمسلمين عندما قالوا: “لئن كانت الآخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا” – ينظر: تفسير البغوي:1/244، زاد المسير: 7/361، وتفسير الثعالبي: 4/144، مراجع سابقة ] .
فرد الله عليهم بأسلوب الاستفهام الإنكاري وبين أن لا يمكن عقلا وشرعا أن يُساوى بين المؤمنين والكافرين يوم الحساب .
[ لم يفرق جمهور المفسرين – إن لم يكن جميعُهم– بين “اجْتَرَحُوا” و”جرحوا” إذ فسروا “اجْتَرَحُوا” “باكتسبوا”. يقول النحاس في “معاني القرآن” : (اجترحوا السيئات أي : كسبوا السيئات)– معاني القرآن: 6/425، مرجع سابق ] .
ويقول البغوي في “معالم التنزيل”: [ (]الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ[: اكتسبوا المعاصي والكفر) – فسير البغوي:1/244، مرجع سابق ] .
وإلى ذلك ذهب كل من : [ الزمخشري، وابن الجوزي، والقرطبي، والبيضاوي، والشوكاني، والألوسي، والنسفي، والثعالبي– ينظر الكشاف:1/1189، زاد المسير: 7/361، تفسير القرطبي:16/143، تفسير البيضاوي:1/171، فتح القدير: 5/11، تفسير الألوسي: 25/149، تفسير النسفي: 4/132، تفسير الثعالبي: 4/145، مراجع سابقة ] .
في حين ذهب الإمام الراغب الأصفهاني إلى أن الاجتراح خاص بالإثم، قال رحمه الله: (والاجْتِرَاحُ: اكتِسابُ الإثم، وأصله من الجِراحة ……. قال تعالى: ]أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ[ (الجاثـية:21) ) – المفردات: 102، مرجع سابق ] .
وأنا أوافقه –رحمه الله- في ذلك؛ لأنها خصصت بفعل السيئات في الآية ]اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ[ فنطمئن عندما نقول: إن القرآن لم يستعمل الفعل “اجْتَرَحَ” إلا في الشر وكسب الإثم. والله تعالى أعلم .
الخلاصة
لا ترادف بين فعلي “جَرَحَ و اجْتَرحَ” في لغة القرآن؛ إذ كشفت الدراسة بعد الاستقراء أن :
[ أولاً: (جَرَحَ) معناها: كَسَبَ خيراً أو شراً باستخدام جارحة من جوارحه.
ثانياً: (اجْتَرحَ) معناها: اكتسب الشر دون الخير باستخدام جارحة من جوارحه.
ثالثاً: جَرَحَ و اجْتَرحَ: من أفعال الجوارح، لا من أفعال القلوب. وهذا هو الفرق بينهما وبين “كَسب”؛ إذ إن الكسب قد يكون بالهبة أو الميراث أو الهدية …. أما الجرح فلا يكون إلا باستخدام جارحة، أي أنه يفعل الشيء بجارحة من جوارحه – ينظر هذا المعنى في: كتاب الفروق: لأبى هلال العسكري: 149، مرجع سابق] . – بقلم : الدكتور أنس العمايرة ] .
رابط :
https://quran-m.com