بحسب البروفيسور اليهوديّ-الأمريكيّ، جيفري ساكس، فإنّ السياسة الخارجيّة للولايات المُتحدّة الأمريكيّة تعتمد بشكلٍ وحيدٍ على المصالح، لافتًا إلى أنّه لا توجد فيها قيّم البتّة، وربّما هذا هو التفسير لتأييد الرئيس دونالد ترامب للرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان، في كلّ ما يتعلّق بطموحات أنقرة في استكمال السيطرة على سوريّة وتحويلها إلى دولة وصايةٍ تركيّةٍ تُذكِّر بأحلام إعادة الإمبراطوريّة العثمانيّة.
عُلاوةً على ذلك، وجب التأكيد في هذه العُجالة أنّ الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لواشنطن، كانت بحسب جميع المحللين والمختصّين الأسوأ في تاريخ العلاقات بين واشنطن والكيان، حيثُ أهانه ترامب ورفض تلبية مطالبه، وأشاد بأردوغان، الأمر الذي جعل من نتنياهو أضحوكةً في إعلام الدولة العبريّة.
وقد بلغ تدخل تركيّا المتزايد في سوريّة مؤخرًا نقطة توتر مع إسرائيل، بعد ضربات جوية إسرائيلية في أوائل أبريل استهدفت ثلاث قواعد جوية سورية كانت أنقرة تسعى لاستخدامها، وأثار الحادث تصريحات رسمية نادرة من أنقرة بشأن عملياتها في سوريّة، إذ قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بعد الغارات إنّ “تركيا لا تسعى لمحاربة أيّ دولةٍ على الأراضي السوريّة”.
وبعد أسبوع من هذا التصريح التصالحي، كشف فيدان أنّ تركيا وإسرائيل تجريان محادثات على المستوى الفنيّ لتفادي الاشتباكات العسكريّة في سوريّة، مع سعي القيادة الجديدة إلى ترسيخ نفسها بعد سقوط الأسد، وعلى الرغم من القلق المتزايد في إسرائيل من ترسخ تركيا في سوريّة، يبدو أنّ أمام الكيان خيارات محدودة لمواجهته، وفق المصادر السياسيّة الرفيعة في تل أبيب.
وقالت غاليا ليندِنشتراوس، باحثة بارزة في (معهد دراسات الأمن القومي)، لـ (تايمز أوف إسرائيل): “في نهاية المطاف، عندما يتعلق الأمر بسوريّة، تهتم تركيّا بها أكثر من إسرائيل، وتستثمر تبعًا لذلك. اهتمام إسرائيل بسوريّة أمنيّ بحت، وهذا يمنح أنقرة الأفضلية”، مُضيفةً أنّ دعم ترامب لأردوغان يُقيّد أيضًا قدرة إسرائيل على المناورة.
وتابعت: “ترامب أوضح خلال لقائه الأخير مع نتنياهو في واشنطن أنّه مستعد لمساعدة إسرائيل في التعامل مع تركيّا، ولكن على إسرائيل أن تُظهر (مطالب معقولة)”.
وأردفت: “إنّه يدفع إسرائيل لتبني نهج الحد الأدنى في سوريّة. ولتحديد أولوياتها، سيتعيّن عليها التمسّك فقط بخطوطها الحمراء الأكثر أهمية، مثل منع نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله عبر جنوب سوريّة”.
ومضت ليندِنشتراوس: “دعمت تركيا طيفًا واسعًا من الجماعات المتمردة السورية بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب الأهلية، وكلّ مَنْ قاتل ضد الأسد تلقى شكلًا من أشكال الدعم التركيّ، لوجستيًا، طبيًا، وفي بعض الحالات عسكريًا”.
وأضافت أنّ “جبهة النصرة لم تكن المستفيد الرئيسيّ، كان لدى تركيّا علاقات أوثق مع فصائل أخرى”، مشيرة إلى أنّ هذا الدعم كان منسقًا بالأساس عبر الاستخبارات التركيّة، التي كان يقودها آنذاك فيدان، وزير الخارجية الحالي.
وتابعت: “في اجتماع فيدان مع الجولاني في ديسمبر الماضي، كان من الواضح أنّ هذين الشخصيْن يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات”.
وقد أصبح دعم تركيا علنيًا جدًا بعد الانقلاب السريع الذي أطاح بالأسد. وكانت تركيّا ثاني دولة يزورها الجولاني في منصبه الجديد، بعد زيارةٍ إلى السعودية. ووفقًا لدراسة أجراها (معهد واشنطن بوست)، قادت تركيا الجهود الدبلوماسيّة في الأشهر الأولى من الحكومة الجديدة في سوريّة، وعقدت 93 اجتماعًا شملت لقاءات رسمية وتجارية وإنسانية. الدولة الثانية في النشاط الدبلوماسي كانت السعودية، مع 34 اجتماعًا فقط.
وكانت نوايا تركيا في سوريّة واضحة منذ اندلاع الحرب الأهلية: ضمان وجود نظامٍ مستقرٍ وودودٍ على حدودها الشرقيّة، يمكن حتى أنْ يدعم مصالح أنقرة الأمنيّة.
ورأت الباحثة ليندِنشتراوس: “لتركيّا طموحات واسعة في سوريّة، فهي تريد منع الإرهاب الجهاديّ والكرديّ القادم من الأراضي السوريّة. بل وتتصوّر سوريّة كموقعٍ استراتيجيٍّ متقدمٍ. على الصعيد الاقتصاديّ، لا تريد تركيا تحمّل تكلفة إعادة إعمار سوريّة، لكنها تريد أنْ تتولى الشركات التركيّة إعادة البناء وجني الفوائد. وهناك أيضًا مسألة اللاجئين: فقد استضافت تركيا ملايين اللاجئين خلال الحرب، وهي مسألة أصبحت محورية في السياسة الداخلية التركية. وسوريّة مستقرة ضرورية لخطة أنقرة بإعادتهم”.
ورغم التطورات، لم تُرصد بعد أدلة مرئية على وجود قوات تركية في سوريّة، خلافًا للوجود الروسيّ في عهد الأسد، والذي لا يزال قائمًا، وإنْ بحجمٍ أقل، في قاعدة حميميم الجوية.
وأشارت ليندِنشتراوس إلى أنّ تفاصيل الاتفاق بين تركيّا وسوريّة لم تُنشر بعد. وقالت: “مجرد الحديث عن اتفاقٍ أمنيٍّ بين سوريّة وتركيّا، دون نشر بنوده رسميًا، يدُلّ على حساسية الأمر بالنسبة للطرفيْن”.
أمّا بالنسبة للأكراد فقالت الباحثة الإسرائيليّة: “تركيّا تريد أكرادًا جيدين، أولئك المستعدين للتعاون. لكن لدى قوات سوريّة الديمقراطية روابط مع التمرد الكرديّ في تركيّا، الذي طالما دعا إلى استقلال الأقلية الكرديّة في تركيا. وهذا يجعل الترتيب إشكاليًا بالنسبة لأنقرة”.
وأضافت: “حتى بعد توقيع الاتفاق، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان سيتّم تفكيك قوات سوريّة الديمقراطية أمْ أنّها ستواصل العمل بمستوى من الحكم الذاتيّ. فهي ميليشيا كبيرة ومسلحة جيدًا وتسيطر على أراضٍ واسعةٍ. لا يبدو أنّ لديهم سببًا للتخلي عن ذلك طوعًا”، طبقًا لأقوالها.
وفي الختام مهما يكُنْ من أمر فإنّ المثلث الأمريكيّ-الإسرائيليّ-التركيّ سيعمل على تفتيت سوريّة أكثر ممّا هي ممزقة، ولن يتورّع عن مواصلة كونه الخنجر السّام بخاصرة الأمّة العربيّة