كيف نعرف إيمان أبي طالب؟ (1)
يفترض أن جواب العقلاء سيكون؛ إن التعرف على شخص يتم بواحد أو أكثر من الوسائل والطرق التالية:
الوسيلة الأولى: التعرف عليه من خلال كلماته، فإن كلام الإنسان في الغالب يعبر عن ثقافته ونظرته للحياة ومعارفه عنها، وربما كان شارحاً لطريقة حياته أيضاً.. إن الاستماع إلى كلام شخص يحدد عادة مستواه العلمي والفكري، ويبيّن للمستمع عقائد المتكلم ورؤيته. وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام «تكلموا تُعرفوا فإن المرء مخبوءٌ تحت طي لِسانه».
الوسيلة الثانية: هو أن نذهب إلى أهله وأسرته والقريبين منه، لكي ننظر كيف كان معروفاً في أهله؟ وبأي الاتجاهات يذكرونه، فإن الأسرة عادة تكون أقرب الناس إلى أفرادها، وبالتالي أعرف الناس بهؤلاء الأفراد نظراً لطول الخلطة والمعاشرة. فإذا صدَقوا السائلَ القولَ فإن بإمكانهم أن يعطوا رؤية واضحة وصورة حقيقية عن الشخص المسؤول عنه.
الوسيلة الثالثة: أن نرى سلوكه في حياته، ماذا كان يعمل؟ ومن كان يوالي ويسير في ركابه ومن يتبرأ منه وينفصل عنه؟ ما هي أعماله؟ هل سيرته سيرة صالحي الناس أو الفاسدين منهم؟ بماذا يتمدح ويفتخر؟.
الوسيلة الرابعة: من الخطأ أن نحاول التعرف عليه من خلال كلمات أعدائه ووصف خصومه فإنهم في العادة لا ينصفون من يعاديهم إلا أن يكون هؤلاء الواصفون معصومين أو عدولاً لا تأخذهم العواطف جانب الحيف والظلم وأن يصفوه بما ليس فيه!
هذه الوسائل التي ذكرناها لا تختص بشخص دون آخر ولا فترة تاريخية دون غيرها، وإنما هي طرق عقلائية يسلكها –كلها أو بعضها – العقلاء في كل الأزمنة للتعرف على الأشخاص.
ولو أردنا تطبيقها على التعرف على شخصية أبي طالب بن عبد المطلب عليه السلام لوجدنا محصلة ذلك أننا أمام رجل هو شيخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله والمتقدم عليهم في المنزلة بل له الفضل على أوائلهم بحمايتهم وحماية دعوة النبي ورسالته، وهؤلاء لهم الفضل على المتأخرين من الأصحاب. فهلم عزيزي القارئ لكي نتعرف عليه بخطوات الطريقة العقلائية التي ذكرناها مع ملاحظة أننا سنذكرها بنحو الاختصار والسهولة:
أما الوسيلة الأولى وهي التعرف عليه من خلال أقواله، فإن أقوال أبي طالب نثراً وشعراً [1] تعرب عن إيمانه، والشعر فيه أغلب لأنه يعد من الشعراء الكبار في قريش كما ذكر ذلك وأشار إليه غير واحد من المؤلفين وأكبروا شعره في فخامته وقوته:
فمن قوله[2] مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وآله:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي
ولقد دعوت كنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا[3]
ومن ذلك شعره في مدح النبي ووصفه بعد أن استسقى به وهو لا يزال طفلاً صغيراً وأسنده إلى جدار الكعبة في قصة مفصلة، وأقسم على الله بحقه ومنزلته، فلما لبثت السماء أن أرخت عزاليها وسقت الناس غيثاً هيطلاً، فأنشأ يقول في قصيدة جاء فيها:
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ويقول فيها:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد
وأحببته حب الحبيب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها
وزيناً لمن والاه ربّ المشاكل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنه سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عند بالذرا والكلاكل
فأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير باطل[4]
وعندما هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة هرباً من إيذاء قريش لهم وفتنتهم إياهم عن دينهم، أرسل أبو طالب قصيدة للنجاشي ملك الحبشة يطلب منه أن يحسن جوار المهاجرين إليه، فقد «أخرج الحاكم في المستدرك 2: 623 بإسناده عن ابن إسحاق قال: قال أبو طالب أبياتاً للنجاشي يحضهم على حسن جوارهم والدفع عنهم – يعني عن المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين -:
ليعلم خيار الناس أن محمداً
وزير لموسى والمسيح ابن مريم
أتانا بهدي مثل ما أتيا به
فكلّ بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم
بصدق حديث لا حديث المبرجم»[5]
وعندما كسر الحصار الذي فرضته قريش على النبي وأبي طالب ومعهما المسلمون في شِعب أبي طالب أنشأ أبو طالب بمناسبة هذا الانتصار عليهم قصيدة جاء فيها الاعتراف الصريح بكون محمد صلى الله عليه وآله رسولاً لله كما جاء في الكتب السماوية مثلما جاء في حق موسى النبي وعيسى عليهما السلام:
ألا أبلغا عني على ذات بينها
لؤيًّا وخصّا من لؤيٍّ بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً
رسولاً كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة
ولا حيف فيمن خصه الله بالحب[6]
وذكره بالنبوة واشتقاق اسمه من اسم الله الحميد في قوله:
لقد أكرم الله النبي محمداً
فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد[7]
وقد نقل عن بعض العلماء أن شعر أبي طالب الطافح بالإيمان والاعتقاد بنبوة ابن أخيه يزيد عن ثلاثة آلاف بيت[8] من الشعر.
ونجد هذا الشعر الإيماني القوي حاضراً في مواضع كثيرة يستشهد به النبي ويأمر من يحفظه أن يذكره للناس، مع أن الموقف لا يقتضي بالضرورة ذكر شعرٍ أو ذكر شعر أبي طالب، ولكنها اللفتة الرائعة من النبي صلى الله عليه وآله، أخلاقياً في رد جميل ومعروف أبي طالب عليه وعلى الدعوة، وعقدياً لتثبيت إيمان أبي طالب برسول الله ومنزلته من ربه وأنه مصدر الخير والبركة، فإذا كان في المدينة واستسقى النبي وأمطرت يتذكر قول أبي طالب ويستنشد من يحفظه ليذكره! وإذا كان في معركة بدر ورأى دفاع بني عبد المطلب –حمزة وعلي وعبيدة– عن الإسلام، وتمثل عبيدة وهو ينزف الدماء على أثر قطع ساقه بما قاله أبو طالب:
كذبتم وبيت الله يبزى محمد
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
يثني النبي على استشهاده بأبيات أبي طالب ويترحم عليه، وحين يكون على فراش الموت تستشهد فاطمة الزهراء وهي داخلة عليه بأبيات أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه.. حتى غدت أبيات أبي طالب أشبه بالنشيد الوطني الذي لا ينتظر إلا فرصة مناسبة ليرفع وتسمعه الآذان.
وأما الوسيلة الثانية: وهي التعرف عليه من خلال أقوال ووصف أسرته وعشيرته ومن يعرف بيئته، فإن أقرب الناس إليه هم بنو هاشم، وأولهم رسول الله صلى الله عليه وآله: (فإن النبي صلى الله عليه وآله مع علمه بأن مهمة أبي طالب في الدفاع عنه وعن رسالته المقدسة لا تتم إلا بكتمان إيمانه وإلا فإن قريشاً ستجرد سيفها ضد أبي طالب مباشرة وتنابذه العداء وتناجزه القتال مما يخل بهذه المهمة) ومع ذلك ترك كلمات هي أشبه بالضياء لمن أراد أن يهتدي، ثم جاء بتفصيلها أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام وباقي أئمة أهل البيت عليهم السلام.
فمن أقوال النبي في حق أبي طالب: ما نقله اليعقوبي في تاريخه 2: 26: لما قيل لرسول الله: إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات، ثم قال: يا عم! ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني خيراً، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً.
وعن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال: قال العباس: يا رسول الله! أترجو لأبي طالب؟ قال: كل الخير أرجو من ربي. أخرجه ابن سعد في الطبقات 1: 106 بسند صحيح رجالهم كلهم ثقات رجال[9].
لما دعا رسول الله واستسقى وانهمر المطر على الناس في المدينة، حتى ضجوا خوف الغرق تبسم صلوات الله عليه وآله حتى بدت نواجذه؛ وهو يقول: اللهم حوالينا ولا علينا، ثم قال: لله درُّ أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه، من الذي ينشدنا شعره؟ فقال علي بن أبي طالب يا رسول الله! كأنك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال: أجل فأنشده أبياتاً من القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر[10].
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال لعقيل بن أبي طالب: «يا أبا يزيد! إني أحبك حبين، حبًّا لقرابتك مني، وحبًّا لما كنت أعلم من حب عمي أبي طالب إياك»[11].
وللإمام أمير المؤمنين عليه السلام كلمات في حق والده، فإنه في رسالته لمعاوية، قد فضل أباه على أبي سفيان (مع أن أبا سفيان عندهم مؤمن برسول الله) ولم يرد عليه معاوية هذا التفضيل وكان يمكن أن يقول له: كلا فإنّ أبي مسلم وأباك ليس بمسلم!… وقد ذكر سبط ابن الجوزي في تذكرته في الصفحة السادسة أن علياً عليه السلام قال في رثاء أبي طالب:
أبا طالب عصمة المستجير
وغيث المحول ونور الظلم
لقد هد فقدك أهل الحفاظ
فصلى عليك ولي النعم
ولقاك ربك رضوانه
فقد كنت للطهر من خير عم[12]
وقد نقل الإمام الحسين عليه السلام عن أبيه المرتضى كلمات تؤكد لا على إيمانه فحسب بل على خلل ونقص إيمان من لم يعتقد بإيمان أبي طالب، فعنه عليه السلام أن والده أمير المؤمنين كان جالساً في الرحبة والناس حوله فقام إليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين! إنك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك معذب في النار فقال له: مه فض الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبياً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله، أأبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ والذي بعث محمداً بالحق إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار، نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ونور ولده من الأئمة، ألا إن نوره من نورنا خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام[13].
كما نقل في نفس المصدر كلمة للإمام السجاد علي بن الحسين، عن ابن أبي الحديد في شرحه 3/ 312: روي أن علي بن الحسين عليه السلام سئل عن هذا – يعني عن إيمان أبي طالب – فقال: واعجباً إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الاسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات.
وأخرى عن ابنه الإمام الباقر محمد بن علي عليه السلام فإنه سئل عما يقوله الناس أن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال: لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه، ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان يأمر أن يحج عن عبد الله وابيه وأبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم؟!.
كما نقل كلمات متعددة عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام منها: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر فآتاهم الله أجره مرتين وإن أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين.
وأشار صاحب الغدير إلى وجود هذا النص في شرح ابن أبي الحديد وفي أصول الكافي للكليني. ومنها ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي 244 عن الإمام الصادق قال: كيف يكون أبو طالب كافراً وهو يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومنها ما روي عن يونس بن نباتة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: يا يونس، ما يقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها أم رأسه فقال: كذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ونقل عن الكليني في الكافي، رواية عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام تشير إلى أن أبا طالب كان فوق منزلة المؤمن العادي وأنه كان من الأوصياء والحاملين لكتب السماء وذلك عن درست بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول–الإمام الكاظم– عليه السلام: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله محجوجاً بأبي طالب؟ فقال: لا. ولكنه كان مستودعاً لوصايا فدفعها إليه، فقال: قلت: فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال: لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصية، قال: قلت: فما كان حال أبي طالب؟ قال: أقر بالنبي وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). قد يكون لهذا السبب وغيره نقل عن الإمام الصادق عليه السلام قال كان أمير المؤمنين عليه السلام يعجبه أن يروي شعر أبي طالب عليه السلام وأن يدون وقال: تعلموه وعلموه.
(2). يلاحظ القارئ أنني هنا سأعتمد اعتمادًا كاملاً على العلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه في كتابه الغدير ج 7 الذي أربى فيه على الغاية وجاوز حد النهاية في إنصاف عم النبي وأب الوصي، وتتبع بما لا مزيد عليه مشيداً ما أراد لبنة لبنة حتى جاء كما يحب، ومع علمي بأن من أصول التوثيق الرجوع إلى المصادر الأولى، وعدم الاكتفاء بما نقل عنها، لكني لم أفعل ذلك مع تيسره وسهولته لا سيما في النسخ الالكترونية للكتب، فآثرت الاقتصار على ما نقله رحمه الله في الغدير، تقديراً لجهده وتأكيداً على أهمية الكتاب والرجوع إليه، وثقة بدقته وأمانة نقله.
(3). الغدير، ج 7، الشيخ الأميني، ص 343 نقله عن ديوان أبي طالب ص 29: وشرح ابن أبي الحديد 3: 312 وقد أشار بعد ذكر مصادر هذه الأبيات ونسبتها إلى أبي طالب أن بعض علماء مدرسة الخلفاء، لكي يفسدوا أثر تلك الأبيات الواضحة في إعرابها عن إيمان أبي طالب بالنبي ودعوته، قد زادوا فيها بيتا فقال بعنوان: لفت نظر زاد القرطبي وابن كثير في تاريخه على الأبيات: لولا الملامة أو حذاري سبة، لوجدتني سمحا بذاك مبينا..
(4). الغدير، ج 7، الشيخ الأميني، ص 343 نقله عن ديوان أبي طالب ص 29: وشرح ابن أبي الحديد 3: 312 وقد أشار بعد ذكر مصادر هذه الأبيات ونسبتها إلى أبي طالب أن بعض علماء مدرسة الخلفاء، لكي يفسدوا أثر تلك الأبيات الواضحة في إعرابها عن إيمان أبي طالب بالنبي ودعوته، قد زادوا فيها بيتا فقال بعنوان: لفت نظر زاد القرطبي وابن كثير في تاريخه على الأبيات: لولا الملامة أو حذاري سبة، لوجدتني سمحا بذاك مبينا…
(5). المصدر نفسه 341
(6). نفس المصدر السابق.
(7). نفس المصدر السابق 344
(8). الغريب أن أتباع النهج الأموي في الوقت الذي يحشدون آراءهم ويضعون الأحاديث في (كفره) لا ينظرون إلى أي من هذه الأبيات الكثيرة الصريحة في الإيمان ويصرون على أنه لم يؤمن، بينما أبو سفيان الذي ينقل عنه قوله: فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا من نار! كما نقله ابن حمدون في التذكرة الحمدونية ٩/١٧١، وهذا في أيام خلافة عثمان بن عفان أي بعد نحو ثلاثين سنة مما يفترض من (إسلامه)، وقد تكررت منه مواقف وكلمات قبل ذلك أيام الرسول وتمنيه العودة لمحاربة رسول الله مع زعمهم إسلامه كل هذه الأقوال والمواقف لم تخدش شيئاً فيه وبقي هو الصحابي الذي هو فوق مستوى العدالة والوثاقة والذي هو من أهل الجنة والذي قوله وفعله أحد الأدلة الشرعية على الأحكام كما هو مقتضى نظرية عدالة الصحابة (انظر كتابنا أصحاب النبي)، بينما أبو طالب وراءه ما يقرب من ثلاثة آلاف قول وبيت تصرح بإيمانه.
(9). الغدير، ج 7، الشيخ الأميني، ص 382
(10). نفس المصدر والصفحة.
(11). نفس المصدر ص 384.
(12) نفس المصدر ص 387.
(13) نفس المصدر ص 396.
وأما عن الإمام الحسن بن علي العسكري فقد قال - كما أخرجه الشيخ أبو جعفر الصدوق في حديث طويل -: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وآله إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سراً، وشيعة تنصرك علانية، فأما التي تنصرك سراً فسيدهم وأفضلهم عمك أبو طالب، وأما التي تنصرك علانية فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب. ثم قال: وإن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه.
فهذه باقة كلمات من محمد وآله الطاهرين في شأن أبي طالب وسمو مرتبته الإيمانية، وكذب ما وضعه الخط الأموي على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، من أحاديث (تكفّر) أبا طالب، وأن من يصله البرهان والدليل في ذلك ويعاند في الرفض والتكذيب يكن مصيره النار يوم القيامة. وبعض هذه الكلمات (فتاوى ونتيجة) وبعضها الآخر فيها (الاستدلال والبرهنة).
والقائل لهذه الكلمات، هم أعرف الناس به وبمعتقده، ولا يتصور فيهم المجاملة لأبي طالب، ولا الكذب –حاشاهم– وهم المعصومون عند الإمامية بعد النبي الصادق، بينما في الطرف الآخر كلام (الناس) وهو كما ذكرنا تعبير عن الاتجاه الرسمي للسلطة الأموية أو العباسية، ومن الطبيعي أن هؤلاء –الناس– الذين يقتاتون على فتات عطايا الخلفاء والحكام ويقدمون الدنيا على الدين سيتحرون مواقع رضا أولئك الحكام حتى لو كان ذلك بلعن المرسلين والصديقين.
وأما الوسيلة الثالثة: هي معرفة الشخص من خلال مواقفه وأعماله، فلا ينكر أحد حتى أشد أعداء أبي طالب وابنه عداوة، أن أبا طالب كان المحامي الأول عن النبي وعن دعوته، والمواجه لعتاة قريش ومجرميها في الدفاع عن النبي والإسلام. وإن كانوا يفسرونها بأنه بدافع الحمية العائلية أو غير ذلك! وجوابهم في ذلك فلِم لم تدفع هذه الحمية أبا لهب للدفاع عن ابن أخيه، بل ولم تدفع العباس بن عبد المطلب للدفاع بهذا النحو عن رسول الله؟!
ومتى دخلوا قلب أبي طالب ليعرفوا أنه لم يؤمن بالله وأن حمايته النبي كانت بدافع عاطفي وعائلي؟!.
وهو الذي حماه ودافع عنه وناصره وعرض نفسه للمواجهة ومن ثم للمحاصرة والجوع والعطش والمقاطعة حتى قضى نحبه متأثراً وهو في تلك السن بالتعب والجوع والعطش والمرض! وتحمل الحصار جوعاً وعطشاً مدة تزيد على ألف يوم من الزمان من أجل رسول الله صلى الله عليه وآله. هذا بالإضافة إلى أمره أبناءه بالإيمان بالنبي والكون في ركابه!.
حتى لقد كان في نظر قريش هو الممثل لرسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا أرادوا التفاوض مع النبي جاؤوا لأبي طالب وإذا أرادوا الضغط عليه ضغطوا على أبي طالب وإذا قرروا الحصار كان هو أول المحاصرين، وإذا أراد النبي إيصال رسالة للقرشيين كان أبو طالب! كما يظهر ذلك في قصة الأرضة التي أكلت صحيفتهم.
بقي أن نشير إلى الملاحظة الأخيرة وهي أنه لا ينبغي أخذ تقييم الشخص من خلال أعدائه وأعداء أهله، وهذا هو الفخ الذي وقع فيه من وقع - بقصد أو غير قصد - فإننا نلاحظ أن الذين رووا الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله في شأن أبي طالب عليه السلام، كانوا في الغالب في الخط الأموي أو العباسي المصارع والمناهض لأهل البيت عليهم السلام.
كذلك الذين وجهوا الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكفار السابقين أو اللاحقين إلى أنها نزلت في أبي طالب! وبالرغم من أن الكثير من علماء مدرسة الخلفاء يعتقدون بإيمان أبي طالب بل لقد ألف الكثير منهم كتباً في ذلك وأثبتوا بالأدلة إيمانه وضعف ما تمسك به أتباع الاتجاه الأموي لإثبات (عدم إيمانه). إلا أن هذا الاتجاه لا يزال حاضراً في الساحة الاسلامية، وتعاطف معه كل من عادى شيعة أهل البيت عليهم السلام ومنهجهم، وتراه ينشط كلما تزايد الصراع الطائفي وينفخ في هذه النار وتجد أحد انعكاساته في تجديد الكتابات في هذا المجال.
وقد ناقش هؤلاء العلماء وغيرهم ما حاول الاستدلال به أتباع ذلك الاتجاه، ومن المناسب أن ننقل هنا ما علق به العلامة الشيخ محمد باقر المحمودي على ما جاء في كتاب أنساب الأشراف للبلاذري، وهو يعتمد على الأحاديث الرائجة في أفق الاتجاه ذاك، فضلاً عن كون البلاذري ممن كان يرتع في بلاط المتوكل العباسي ومن بعده، ومن المعلوم كيف كانت عداوة المتوكل الظاهرة للإمام علي عليه السلام حتى عُدّ من النواصب عند الكثير من العلماء، ومن الطبيعي أن من يكون في بلاطه ودائرته لن يتخذ موقفاً ظاهرياً مناسباً من الإمام علي ولا من أبيه ولا من أهل بيته، وعلى أي حال فقد علق المحمودي بشكل سريع على ما جاء في ذلك الكتاب عند حديثه عن أبي طالب، ونحن ننقله بتغيير بعض الصياغة والاختصار أو التوضيح لتتمة البحث:
فإن البلاذري بعد أن ذكر شيئاً من نصرة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله قال:
«لما حضرته الوفاة، عرض النَّبِيّ صلى الله عليه وآله عَلَيْهِ قول: لا إله إلا الله فأبى أن يقولها وقال: يا ابن أخي. إنِّي لأعلم أنك لا تَقُولُ إلا حقاً، ولكني أكره مخالفة دين عبد المطلب، وأن يتحدث نساء قريش بأني جزعت عند الموت ففارقت ما كانَ عَلَيْهِ. فمات عَلى تِلْكَ الحال. وأتى عليٌّ (النبي) فأخبره بموته فقال: وارِه فقال عَليّ أنا أواريه وهو كافر قالَ: فمن يواريه إذا؟ فلما واراه أمَرهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فاغتسل، وقالَ (رَسُولُ اللَّهِ) صلى الله عليه وآله حين رأى جنازته: [وصلتك رحم].
ويقال: إنه قيل لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ استغفر لَهُ. فنزلت فِيهِ: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ أصْحابُ الجَحِيمِ}.
وقد علق المحمودي على كلامه بأنه يعتمد على الروايات التي ستأتي ويأتي النقاش في أسانيدها، وبالنسبة للآية المباركة وأنها نزلت في شأن أبي طالب وأن النبي قد نهي عن الاستغفار، فإن ذلك القول معتمد على (يقال) وهو مما لم يعلم له مستند فلا يُعبأ به!
ثم نقل البلاذري حديثا بسند ينتهي إلى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: دَعا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أبا طالب إلى كلمة الإخْلاصِ فِي مَرَضِهِ فَقالَ: إنِّي لأكْرَهُ أنْ تَقُولَ قُرَيْشٌ: إنِّي قُلْتُها جَزَعًا عِنْدَ المَوْتِ ورَدَدْتُها فِي صِحَّتِي. ودَعا بَنِي هاشِمٍ فَأمَرَهُمْ بِاتِّباعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ونصرته والمنع عن ضيمه فنزلت فيه: {وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأوْنَ عَنْهُ} وجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتّى نَزَلَتْ: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.
وعلق عليه المحمودي بضعفه من جهات تجعل الخبر في حد ذاته – ولو لم يكن له معارض – غير صالح للحجية؛ أولاها: أن سعيد بن المسيب (الراوي الأصلي للحديث) لم يدرك القضية، فلا بد إذن أن يكون رواها عمن أدركها، ولم يذكره في الخبر، فيحتمل أنه كان ممن يشاقق الرسول وذويه صلوات الله عليهم!.
وثانيها: أن سعيد بن المسيب عُدَّ من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام على ما ذكره ابن أبي الحديد وغيره.
وثالثها: أن الزهري الذي يروي عن ابن المسيب كان من عمال بني أمية ومرتزقة مائدة أعداء أهل البيت في أيام تجبرهم ومن كان هذا حاله، كيف يوثق به ويؤخذ عنه من الرواية في حق أهل البيت ووالد أمير المؤمنين عليه السلام؟!.
ورابعها: أنّ بكر بن الهيثم شيخ البلاذري الذي يروي عنه مجهول!!.
قال البلاذري أيضاً: وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الواقِدِيِّ، عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ عَنْ يَحْيى بْنِ جَعْدَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ فِي أبِي طالِبٍ: «وهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأوْنَ عَنْهُ وإنْ يُهْلِكُونَ إلّا أنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ».
وكان تعليق المحمودي بالقول: هذا أيضاً باطل من وجوه:
الأول: أن الثابت بعدة طرق عن ابن عباس خلاف هذا، وأنّ الآية الكريمة نزلت في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن محمد ان يؤمنوا به، وينأون – أي ويتباعدون – عنه، كما في تفسير الطبري: ٧/ ١٠٩، والدر المنثور: ج ٣ ص ٢ و٨- ٩، وكما في تفسير الالوسي: ٧/ ١٢٦، وتفسير القرطبي: ٦ ص ٣٨٢، وتفسير ابن كثير: ٢ ص ١٢٢، وتفسير الشوكاني: ج ٣ ص ٩١- ٩٢، كذا روى عنهم جميعاً في الغدير.
الثاني: أن هذا خلاف الظاهر من سياق الآية الكريمة، إذ المستفاد منه أنهم كانوا قد جمعوا بين التباعد عن النبي وعدم الإيمان به، وبين نهي الناس عن متابعته والإيمان بما جاء به، وأين هذا من أعمال أبي طالب وأقواله؟! أليس هو أول من نبذ القرابات وما كان بينه وبين المشركين من الصلة والجوار والصداقة محاماة للنبي ونصرة له، وتحصن مع من تبعه من عشيرته وأهل بيته في الشعب سنين؟!.
الثالث: من جهات بطلان الحديث أن حبيب بن أبي ثابت الواقع في سلسلة سنده، كان مدلساً بتصريح ابن حبان، وابن خزيمة في صحيحه كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: ج ٢ ص ١٧٩.
الرابــع: أن ابن مباركهم صرح بأن الثوري - أحد رجال الحديث – كان يدلس كما في ترجمة سفيان من تهذيب التهذيب: ٤/ ١١٥. وفي ميزان الاعتدال: ١/ ٣٩٦: انه كان يكتب عن الكذابين.
الخامس: أن الواقدي عندهم ضعيف جداً، فراجع ترجمته من تهذيب التهذيب.
السادس: أن ابن سعد أيضاً غير مرضي عند سلفهم والا فما باله لم يرو ولم يأخذ منه ابن حنبل وهو معه في بغداد، وكان يأخذ منه أجزاء الواقدي فيطالعها، ثم يردها عليه! فما بال أرباب السنن لم يرووا عنه شيئاً؟!.
وكذلك قال البلاذري وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الواقِدِيِّ، عَنْ (سفيان) الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي زِيادٍ، عَنْ عَبْدِ الله بن الحرث بْنِ نَوْفَلٍ، قالَ: نَزَلَتْ فِي أبِي طالِبٍ {إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ}.
واستمر المحمودي متتبعاً أسانيد هذا الحديث والذي بعده المعروف بحديث الضحضاح ليثبت أنها ضعيفة لوجود كذابين فيها بحسب ما نص عليه الرجاليون عندهم، فلا ينبغي الاعتماد عليها بعدما تبين ضعف أسانيدها. فراجع تفاصيل ذلك في تعليقه على كتاب أنساب الأشراف.. انتهى نقل تعليقات الشيخ المحمودي.
إذن.. هذه الروايات لا تمتلك اقتضاء الدلالة على المسألة موضوع البحث، فكيف إذا كان لها روايات معارضة ونافية لموضوعها بنحوين؟.
الأول: فمن الأحاديث والروايات عن المعصومين عليهم السلام ما تصرح فيه بكذب تلك الروايات، وأنها موضوعة على النبي صلى الله عليه وآله.
الثاني: أنها تثبت لأبي طالب منازل عالية ومراتب عظيمة على أثر إيمانه السري الذي تقتضيه طبيعة مهمته في الدفاع عن الرسالة ونبيها المصطفى صلى الله عليه وآله.
الشيخ فوزي آل سيف
شفقنا