"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

نظرة على تأثير انتصار هيئة تحرير الشام في سوريا على الجماعات الإرهابية الباكستانية

سقوط نظام بشار الأسد بعد 14 عاما من الحرب الأهلية وفي أقل من 13 يوما أثار موجة من الفرح بين الجماعات الإرهابية المتطرفة، بما في ذلك في باكستان. ومع ذلك، أعربت حكومات مثل باكستان التي تواجه مشكلات الإرهاب المتطرف عن قلقها من انتصار هيئة تحرير الشام وتشجيع الجماعات الإرهابية.

ومع ذلك، فإن هذا الفرح والقلق من الطرفين لهما أبعاد أكثر تعقيدا. داخل التيارات الإرهابية المتطرفة نفسها، أثار نجاح هيئة تحرير الشام قلقا نظرا للتغيرات الأيديولوجية والسياسية التي طرأت على هذه الجماعة. كما أن هذا التغير أثار قلق الحكومة الباكستانية أيضا، لأنها تعتبره خطوة خادعة من الإرهابيين لكسب الدعم والموافقة الدولية.

بدورها، اعتبرت أجهزة الاستخبارات الغربية التحول الذي حدث في هيئة تحرير الشام فرصة، حيث يمكن أن يوفر ورقة ضغط جديدة ضد الحكومات المعادية، ويؤدي إلى تفكك داخلي للجماعات الإرهابية المتطرفة والمعادية للغرب.

الارتباط الباكستاني في سوريا

شهدت الحرب الأهلية السورية وجود مواطنين وجماعات باكستانية على كلا الجانبين. فمن جهة النظام السوري، كان هناك لواء الزينبيون الذي يضم شيعة باكستانيين مدعومين من إيران، والذي كان جزءا من القوات التي سميت بمدافعي الحرم. أما على الجانب الآخر، أي الجماعات المعارضة للنظام السوري، فقد كان الوضع أكثر تعقيدا وغير منظم.

انضم عدد قليل من المواطنين الباكستانيين إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). كما انضم عدد قليل آخر إلى فرع القاعدة في سوريا المعروف بجبهة النصرة. كانت النصرة في الأصل الفرع السوري لداعش، وكان الجولاني زعيم النصرة يُعتبر أمير داعش في سوريا. وعندما حدث الانقسام بين القاعدة وداعش، وأعلن أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي تكفير بعضهما البعض، انحاز الجولاني إلى الظواهري وأعلن ولاءه للقاعدة. هذا الانقسام امتد أيضا إلى باكستان وأفغانستان، حيث أسس البعض ولاية خراسان التابعة لداعش وأعلنوا الحرب على طالبان والقاعدة وكل من لم ينضم إليهم.

في سوريا، تعقدت الأمور عندما أعلن الجولاني حل جبهة النصرة، وأعلن أنه لم يعد تابعا للقاعدة وللظواهري، وأسس حركة فتح الشام. ورد الظواهري بوصف الجولاني بالخائن، ودعا أتباع القاعدة للتمرد عليه. لكن الجولاني نجح في السيطرة على الوضع، وأطلق حملة واسعة لتصفية عناصر القاعدة داخل تنظيمه.

كانت نتيجة هذه الحملة تعزيز سيطرة الجولاني على منظمته وعلى كامل منطقة إدلب، وطرد عناصر القاعدة وداعش من المنطقة. منذ ذلك الحين، بدأ الجولاني تعاونا سريا واسعا مع الاستخبارات التركية (الميت) والأمريكية (CIA) ضد القاعدة وداعش.

لا شك أن الجولاني وتنظيمه قدّموا معظم أو كل المعلومات الاستخباراتية اللازمة لوكالة الاستخبارات المركزية والميت لتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية ضد عناصر القاعدة وداعش في إدلب. هذا بالإضافة إلى الحالات التي تم فيها اعتقال هؤلاء العناصر مباشرة من تنظيم الجولاني وتصفية وجودهم.

إلى جانب هذه التحركات، قام الجولاني بخطوات أخرى، من بينها استخدام علم الثورة السورية الأخضر الذي كان محظورا بين الجماعات الجهادية، وتغيير مظهره الخارجي (حلاقة لحيته وشعره الطويل وارتداء ملابس غير جهادية)، واعتماد خطاب أكثر وطنية وعلمانية إلى حد ما، مع التأكيد مجددا على أنه لا علاقة له بالقاعدة، وتغيير اسم جماعته إلى هيئة تحرير الشام (تحرير الشام وليس فتحها).

الجولاني يمد يده إلى جميع التيارات المعارضة للأسد 

مدّ الجولاني يده لجميع التيارات السورية المعارضة لنظام بشار الأسد، سواء التيارات الإسلامية والإخوانية مثل “أحرار الشام” و”فيلق الشام”، أو التيارات الوطنية مثل فروع “الجيش الحر”. وقد انضمت هذه الفصائل إليه. إلا أن هذه التحركات لم تلق قبولا لدى الجماعات الإرهابية والجهادية التي جاءت من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك باكستان، لخوض ما وصفوه بـ “الجهاد” في سوريا. كانت هذه الجماعات تعتبر القومية كفرا، وترى أن التهاون في تطبيق أحكام الشريعة أمر غير مقبول. كذلك، فإن خطوات الجولاني في “بيع الإخوة الجهاديين” (رغم أخطائهم) كانت تُعتبر في نظرهم نوعا من الخيانة والتعاون مع “الكفار” مثل الولايات المتحدة.

تحريك طالبان باكستان وإرسال المقاتلين إلى سوريا

كانت حركة طالبان باكستان من أوائل الجماعات التي أعلنت منذ عام 2013 عن إرسال مقاتلين لدعم “إخوانهم” في سوريا. وقالت الحركة آنذاك إن هذا القرار جاء استجابة لطلب من “الإخوة العرب”. بالإضافة إلى ذلك، فإن إرسال إيران للشيعة الباكستانيين للقتال في سوريا دفع الحركة إلى اتخاذ خطوة مماثلة “لحماية أهل السنة”.

تم إدارة شبكة إرسال المقاتلين السنة الباكستانيين إلى سوريا من حركة طالبان باكستان وجماعة “لشكر جهنكوي”، وكان كلاهما حينها تابعا للقاعدة. وتشير التقارير إلى أن هذه الشبكة أرسلت بين 100 و150 مقاتلاً إلى سوريا.

صرح عبد الرشيد عباسي، أحد المقربين من حكيم الله محسود، زعيم حركة طالبان باكستان، في عام 2013 بأن 120 مقاتلا باكستانيا كانوا في سوريا تحت هيكل القيادة التابع للقاعدة. قاد هذه الشبكة عثمان غني، وهو قائد سابق في “لشكر جهنكوي”، وعلي الله عمري، قائد في طالبان باكستان من إقليم خيبر بختونخوا.

كان هؤلاء المقاتلون يتمركزون في “كتيبة المهاجرين” في منطقة اللاذقية السورية، تحت قيادة شخص يُدعى أبو جعفر الليبي. كما وردت تقارير تفيد بأن جماعة حافظ جول بهادر أرسلت أيضا مقاتلين إلى سوريا. وخلال الحرب السورية، انتشرت دعايات في مناطق مهمند، وباجور، وخيبر، وأوراكزاي، ووزيرستان لتجنيد مقاتلين جدد للمشاركة في الحرب.

في عام 2013، أعيدت جثث 30 من هؤلاء المقاتلين على الأقل إلى باكستان، وتبين لاحقا أنهم جميعا أعضاء في حركة طالبان باكستان و”لشكر جهنكوي”. وفي تسجيل فيديو عند بدء إرسال مقاتليه، صرّح حكيم الله محسود: “ندعمهم ونساعدهم. إذا احتاجوا إلى دمائنا أو أرواحنا أو شعبنا، فنحن مستعدون لأي نوع من الدعم لإنهاء الأنظمة الديمقراطية والعلمانية في البلدان العربية”.

الوضع الصعب للمقاتلين الجهاديين الباكستانيين 

مع إعلان خلافة داعش، انقسم المقاتلون الجهاديون الباكستانيون؛ انضم بعضهم إلى داعش، بينما بقي آخرون مع النصرة. ومع بدء النصرة، بقيادة الجولاني، التحولات الأيديولوجية والعقائدية، وجد هؤلاء المقاتلون أنفسهم في أزمة عميقة.

قرر بعض المقاتلين الجهاديين الأجانب والسوريين، مثل جماعة “جند الأقصى”، الانضمام إلى داعش ومغادرة إدلب لتجنب السيطرة المباشرة للجولاني.

بينما رفضت جماعات أخرى، مثل “كتيبة حراس الدين”، الانفصال عن القاعدة، لكنها وافقت تحت ضغط هيئة تحرير الشام على التركيز فقط على الجهاد ضد روسيا والأسد.

أعلن آخرون، مثل القوقازيين، أنهم سيغادرون سوريا بالكامل ويعودون إلى أوطانهم. وفي المقابل، فإن مقاتلين أجانب آخرين، مثل الأويغور وبعض المقاتلين من آسيا الوسطى، أعلنوا أنهم لا يعارضون هذه التحولات وسيبقون مخلصين للجولاني.

مستقبل المقاتلين الباكستانيين في سوريا

يبدو أن المقاتلين الجهاديين الباكستانيين في إدلب كانوا مزيجا من كل هذه الفئات. لا تزال قلة منهم تعمل ضمن مجموعات تابعة للجولاني، بينما عاد الكثيرون إلى باكستان. ومع ذلك، قد يحتفظ بعضهم بعلاقات سرية مع القاعدة أو جماعات متطرفة أخرى.

سقوط الأسد ونظرة باكستان 

أدى سقوط نظام بشار الأسد والهيمنة النسبية التي حققتها هيئة تحرير الشام في سوريا إلى بعث الأمل لدى بعض التيارات الجهادية. ولكن يجب ألا نغفل أن “الجولاني الجديد” ليس هو الجولاني الذي كان أمير داعش في الشام ولا العضو السابق في القاعدة.

الجولاني الجديد يتحدث عن مفاهيم مختلفة تماما:

يرى أن الحجاب لم يعد إلزاميا.

لا يسعى إلى الجهاد خارج حدود سوريا.

يؤكد أنه لن يخوض حروبا جديدة.

يطمح إلى أن يصبح رئيسا عبر انتخابات شعبية.

يتعاون بشكل وثيق مع وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) وجهاز الاستخبارات التركي (MIT).

يسعى لإقامة علاقات وطيدة مع الأنظمة الملكية العربية.

يدعو إلى حماية الحرية والأمان للأقليات مثل المسيحيين والدروز، وحتى الشيعة.

يضع قناعا من القومية والمرحلة ما بعد الإسلاموية على وجهه السياسي.

يمكن القول عند الحديث عن أبعاد النظرة الباكستانية إلى سقوط الأسد وهيمنة تحرير الشام على السوريا في الوضع الراهن بان الجماعات الإرهابية والجهادية الباكستانية الأكثر تشددا والتي لا تقبل أي تسويات، ستعتبر الجولاني منحرفا عن المسار الإسلامي والجهادي. بالنسبة لهم، تحولات الجولاني تعني تخليه عن الأيديولوجيا الجهادية وانحيازه إلى القومية ورضا القوى الغربية والأنظمة الإقليمية “الطاغوتية”.

الجماعات المرنة نسبيا

قد تستقبل بعض الجماعات التغييرات التي أجراها الجولاني في هيئة تحرير الشام بترحيب، وربما تفكر في تبني استراتيجيات مشابهة. هذه الجماعات قد تسعى لتخفيف الضغط العالمي عليها، تماما كما فعل الجولاني الذي تمكن من إزالة اسمه من قوائم الإرهاب الأمريكية، وتجنب استهداف الطائرات بدون طيار، بل وأصبح قوة حاكمة في سوريا.

حالة الالتباس بين معظم الجهاديين

معظم العناصر الجهادية والإرهابية الباكستانية تعيش حالة من الغموض والتردد تجاه هذه التطورات. فهم لا يعرفون ما إذا كان عليهم أن يفرحوا بنجاح تحرير الشام أو أن يشعروا بالخطر بسبب التحولات الأيديولوجية والسياسية للجولاني.

نجاح الجهاديين الدوليين في سوريا يمثل خبرا سارا، خاصة أن سوريا لا تزال ملاذا آمنا للإرهابيين من جميع أنحاء العالم.

ومع ذلك، فإن قومية الجولاني وتعاونه مع الغرب والدول العربية “الكافرة” مصدر قلق كبير.

التساؤل الآخر هو: كيف يتعاملون مع الأغلبية السنية السورية التي يبدو أنها مرتاحة لهذه التحولات؟

نظرة الاستخبارات الغربية إلى التحولات

تعتبر الأجهزة الاستخباراتية الغربية هذه التحولات فرصة لاستيعاب التيارات الإرهابية المتشددة على مستوى العالم، بما في ذلك باكستان.

التحول الجذري لشخصية مثل الجولاني، من أمير داعش وعضو بارز في القاعدة إلى قائد يتحدث عن القومية، والعلمانية، وحقوق الإنسان، والتعاون مع أجهزة استخبارات غربية، يعد نقطة تحول يمكن أن تؤدي إلى عدوى فكرية بين باقي الجماعات الإرهابية.

تعتقد هذه الأجهزة أن نجاح الجولاني في إعادة بناء سوريا وإحلال الاستقرار فيها قد يؤدي إلى إحداث ضربة فكرية وأيديولوجية عميقة للجماعات الجهادية في أنحاء العالم، بما في ذلك باكستان.

ورغم التحفظات على شخصية الجولاني ودوافعه، فإن نجاحه في هذه المرحلة يعد هدفا مشتركا للأجهزة الاستخباراتية الغربية التي تأمل في تكرار هذا النموذج لاحتواء الجماعات المتطرفة عالميا.

آخر الكلام

مع سقوط نظام بشار الأسد، ظهرت مخاوف حول سيطرة عضو سابق في تنظيم القاعدة ومجموعته على سوريا. ولكن مراجعة أداء هيئة تحرير الشام خلال السنوات الأخيرة، وعلاقاتها السرية مع الأجهزة الاستخباراتية الغربية، تشير إلى أن سوريا لن تصبح أبدا قاعدة ومنطلقا للحركات الإرهابية المتشددة، وستواصل التعاون ضد هذه الجماعات مع دول المنطقة والغرب.

التحول الفكري والأيديولوجي للجولاني

التحولات الأيديولوجية التي أظهرها الجولاني لم تكن مبعثا للطمأنينة للجهاديين العالميين، بما فيهم الباكستانيون، بل اعتُبرت خيانة للقضية الجهادية. ومن منظور الجهادي الباكستاني أو أعضاء جماعات مثل حركة طالبان الباكستانية أو تنظيم لشكر جهنغوي:

الجولاني رضخ لسيطرة تركيا والولايات المتحدة.

تخلّى عن المظهر الجهادي التقليدي لصالح المظهر الغربي (مثل ارتداء ربطة العنق).

أعلن حرية الحجاب وتراجع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما يُعد خطيئة لا تُغتفر.

استبدل الوطنية بالجهاد في سبيل الله، وهو أكبر خطأ ارتكبه.

ان إحدى المخاوف الكبرى لهذه الجماعات هي أن يتأثر الجيل الجديد من الجهاديين بهذه التغيرات. ولا ينبغي نسيان أن الجولاني نفسه كان من الجيل الشاب لجهاديي القاعدة.

ومع ذلك، فإن حدوث مثل هذا التحول بين الجهاديين الباكستانيين يبدو مستبعدا، للأسباب التالية:

الاختلافات البيئية والهيكلية:

البيئة القبلية الباكستانية أكثر تجانسا من الناحية الأيديولوجية والمذهبية مقارنة بسوريا، التي وفرت تنوعها الكبير أساسا للتحولات الأيديولوجية.

دور الفاعلين الخارجيين:

لعب الفاعلون الخارجيون، وخاصة من الدول الغربية والإقليمية، دورا بارزا في سوريا، بينما هذا الدور أقل بكثير في باكستان.

الانقسامات الأيديولوجية بين الجهاديين:

استطاع الجولاني استغلال الانقسامات بين الحركات الإسلامية والمتشددة ليبرز كقائد براغماتي. مثل هذه الانقسامات أقل وضوحا في باكستان.

الاستنتاج

إن نجاح الجهاديين في سوريا، على الرغم من تشويهه بفعل وطنية الجولاني وسلوكه العلماني، قد يُلهم بعض الجماعات الجهادية. ومع ذلك، فإن احتمالية تأثر الحركات الباكستانية بالتحولات الكبرى التي حدثت في سوريا لا تزال ضئيلة للغاية. ويرجع ذلك إلى الظروف البيئية والأيديولوجية الفريدة في باكستان، مما يجعل تكرار هذه التحولات في باكستان أمرا غير مرجح، وستظل آثار هذه التطورات محدودة.

المصدر: موقع مطالعات شرق