"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

مهمة مستحيلة: ماذا ستفعل أمريكا مع سوريا؟

شفقنا :
منذ نصف قرن، تعتبر أمريكا سوريا دولة داعمة للإرهاب، ومنذ سنوات، كانت سياستها العلنية والرئيسية تجاه دمشق هي فرض العقوبات وعزل عائلة بشار الأسد. سياسة لم تُغير السلوك الإقليمي لدمشق ولم تُقلل من القمع الدموي الداخلي.

حكومات واشنطن المختلفة كانت تُعتبر بشار الأسد ووالده مثل بعض الحكام المستبدين في الشرق الأوسط، ضمانًا لاستقرار قد يؤدي غيابه إلى خطر ثورة إسلامية أخرى أو حتى عودة داعش إلى السلطة.

الآن، بعد أن فر بشار الأسد إلى روسيا واحتل أحمد شرع، زعيم هيئة تحرير الشام الذي كان يعرف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني، دمشق، تجد واشنطن نفسها أمام سيناريو كانت تتجنبه حتى الآن. حان وقت اتخاذ القرارات الكبيرة والمحفوفة بالمخاطر تجاه سوريا.

أحمد شرع الآن قد حرر دمشق من سيطرة الأسد. وبالرغم من مكافأة العشرة ملايين دولار التي وضعتها واشنطن لاعتقاله، يخطط لمستقبل سوريا. زعيم جماعة نشأت من القاعدة وداعش، والتي لا تُعتبر فقط جماعة إرهابية في أمريكا بل وأيضًا من قبل مجلس الأمن، أصبح الآن الصوت الأعلى في دمشق؛ يتحدث مع وسائل الإعلام ويعين أعضاء الحكومة الانتقالية.

بدلاً من الاستقرار الهش الذي كان يحكمه ديكتاتورية الأسد، أصبح خطر عدم الاستقرار في سوريا، التي أصبحت مركزًا لمصالح متضاربة بين اللاعبين الإقليميين المختلفين، أكثر جدية من أي وقت مضى. مثل إسرائيل، تركيا، الإمارات العربية المتحدة والسعودية من جهة، وإيران وروسيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى خلايا داعش المنتشرة التي لا تزال نشطة في البلاد.

وفي هذا السياق، توجد 900 وحدة عسكرية أمريكية في ما لا يقل عن خمس أو ست قواعد في شمال وشرق سوريا، وكذلك قاعدة التنف في الجنوب. تم نشر هذه القوات منذ عام 2015 بهدف مكافحة داعش، ثم ركزت على دعم حلفائها (قوات سوريا الديمقراطية) ومنع عودة داعش.

الآلاف من المتهمين بالانتماء إلى داعش، مع مؤيديهم وأسرهم، محتجزون في السجون والمخيمات مثل مخيم الهول، تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية. وقد شنت الجماعات المرتبطة بداعش عدة هجمات لتحريرهم. هذه المعادلة الكبيرة والمعقدة تضع أمام حكومة أمريكا تحديًا غير مسبوق.

من المكافأة العشرة ملايين دولار إلى البدلة الأنيقة

لقد قطع أبو أحمد شرع شوطًا طويلاً منذ أيام تحالفه مع أبو بكر البغدادي، محاولًا أن يظهر هذا التغيير في مظهره. ومع ذلك، حتى وقت قريب، كان برنامج “المكافأة من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية يسخر علنًا من تغييرات مظهره التي كان هدفها الابتعاد عن أيام تحالفه مع داعش والقاعدة. مثل الرسالة التي نشرت على حساب تويتر لهذا البرنامج باللغة العربية: “آه! السيد الجولاني! كم هو أنيق! ما أجمل بدلته! يمكنك تغيير ملابسك لكنك ستظل إرهابيًا. لا تنسى المكافأة العشرة ملايين دولار (على رأسك).”

لكن مع التغيرات في سوريا، يبدو أن هذه المكافأة قد فقدت معناها وأصبحت مصدر قلق أكبر لواشنطن بدلاً من كونها مشكلة لزعيم هيئة تحرير الشام. يبدو أن شرع هو أول شخص يظهر في العلن بهذا الشكل الهادئ ويتحدث مع وسائل الإعلام ويشكل حكومة انتقالية بالرغم من المكافأة.

منذ عام 2013، عندما تم إدراج شرع رسميًا في قائمة الإرهاب الدولية الأمريكية، لم يقتصر الأمر على تغييره مظهره فحسب، بل أعاد أيضًا بناء علاقاته الجماعية والأيديولوجية ليقدم نفسه كزعيم عملي.

في عام 2021، في مقابلة مع شبكة PBS الأمريكية، وصف شرع العقوبات الأمريكية بأنها غير عادلة وقال: “هذا مجرد وسم سياسي لا يمت للحقيقة بصلة. لم نكن يومًا تهديدًا للغرب أو للمجتمعات الأوروبية. لا تهديدًا أمنيًا ولا تهديدًا اقتصاديًا.”

حتى الآن، لم يعتبر أي مسؤول حكومي أمريكي تغييرات شرع حقيقية.

هذه الثقة المفقودة بين الطرفين. من غير المحتمل أن يكون أحمد شرع، الذي كان قد قضى وقتًا في سجن بوكا، أحد السجون السيئة السمعة التي كانت تحت سيطرة القوات الأمريكية في العراق، قد تغير لدرجة أنه الآن يعتبر أمريكا حليفًا للحكومة السورية المستقبلية.

وائل زيات، الدبلوماسي السوري السابق في حكومة باراك أوباما، يرى أن أمريكا يمكنها أن تلعب دورًا في ضمان الانتقال السياسي في سوريا ومستقبل ديمقراطي للشعب السوري، وأن هيئة تحرير الشام يجب ألا تكون عقبة في هذا المسار.

يقول في حديثه مع بي بي سي فارسي: “يمكن لأمريكا أن تلعب دورًا في الانتقال السياسي، المساعدة الاقتصادية، مكافحة الإرهاب وتنفيذ العدالة في سوريا. يجب أولاً تحديد معايير لتحميل هيئة تحرير الشام المسؤولية ومطالبتها بتنفيذ تعهداتها. هذه المعايير ستوضح ما إذا كانت هيئة تحرير الشام ترى نفسها جزءًا من عملية شاملة في سوريا أم لا. إذا كانت النتيجة إيجابية، يجب على واشنطن أن تخرج هذه المجموعة من قائمة الإرهاب، لأن ذلك هو شرط مساعدتها لسوريا. في غير هذه الحالة، سيكون من الصعب على المؤسسات الأمريكية تقديم أي مساعدة إنسانية أو حتى فنية أو اقتصادية أو تنموية لسوريا.”

أي سياسة؟

في عام 2000، عندما تولى بشار الأسد الرئاسة خلفًا لوالده، بدأ الأمل في الإصلاح بقيادة الرئيس الشاب المتعلم. وقد أدي ذلك إلى انتعاش النقاشات العامة بين الناس والمثقفين والمعارضين في السنة الأولى من رئاسته، ولكن سرعان ما سلك بشار نفس طريق والده.

في تلك الفترة، تبنت إدارة جورج بوش سياسة فاشلة لخفض نفوذ إيران وحزب الله وحماس في سوريا من جهة، ومن جهة أخرى استهدفت “محور الشر”، فرضت عقوبات على دمشق، وبدأت برامج سرية لدعم الديمقراطيين السوريين. ومع ذلك، رفض نشطاء سوريون وقعوا على “بيان دمشق” المساعدة الأمريكية علنًا، مساعدة أثارت لاحقًا القلق بعد نشر وثائق ويكيليكس.

كان ذروة مواجهة أمريكا مع الحكومة السورية في صيف 2013. بعد عامين من القمع الدموي للمواطنين في سوريا، استخدم بشار الأسد الأسلحة الكيميائية ضد معارضيه. الصور المروعة للأطفال الذين ماتوا جراء الهجمات الكيميائية أذهلت العالم.

كان باراك أوباما هو الرئيس الذي في بداية ولايته كان قد أرسل ممثله إلى دمشق بهدف تحسين العلاقات، لكنه بعد نشر تلك الصور قرر اتخاذ خطوات عسكرية ضد الحكومة السورية. ومع ذلك، تراجع أوباما في وقت لاحق وتفاوض مع روسيا للوصول إلى حل دبلوماسي.

على الرغم من كل هذا، لم تُغير أمريكا من سياستها تجاه سوريا بشكل جذري، خاصةً بسبب مخاوف من سقوط الأسد وما قد يتبع ذلك من حالة من الفوضى أو ظهور تهديدات جديدة.

الاستراتيجية الأمريكية الحالية

استراتيجية جو بايدن تجاه سوريا تركز على الحد الأدنى من التدخل العسكري الأمريكي هناك، مع تركيز على مكافحة داعش، وتقليل الأزمة الإنسانية، والحفاظ على الهدنة الإقليمية. وفي الأيام الأخيرة، سافر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى تركيا والأردن وإسرائيل في محاولة لإدارة الأزمة، حيث أعلن لأول مرة عن اتصالات مباشرة مع هيئة تحرير الشام.

قد تكون هذه المحادثات مجرد بداية، حيث من الممكن أن يتغير الموقف الأمريكي مع دخول إدارة ترامب المقبلة، التي قد تتبنى سياسات مختلفة.