shiawaves :
تحلّ في السادس من جمادى الأولى ذكرى استشهاد الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، الذي يُعد من أبرز الشخصيات الإسلامية التي جسدت الشجاعة والتضحية في سبيل الله. وُلِد جعفر الطيار عليه السلام في السنة الثالثة والثلاثين قبل الهجرة النبوية، ونشأ في كنف أبي طالب رضوان الله عليه، الذي حظي بذرية طيبة تشمل أبناءً كالإمام علي عليه السلام وجعفر الطيار.
برز جعفر الطيار عليه السلام في معركة مؤتة الشهيرة، التي دارت رحاها في بلاد الشام، حيث قاد جيش المسلمين بعد استشهاد القائد زيد بن حارثة. وبحسب الروايات الشريفة، عندما استشهد زيد بن حارثة وهو يحمل اللواء، تسلم جعفر الراية وقاتل بشجاعة منقطعة النظير. وبعد نفاد خياراته، نزل عن فرسه وقاتل راجلًا، متمسكًا باللواء بيديه، حتى قُطِعتا، فاحتضن الراية بساعديه حتى نال الشهادة. وتقديرًا لبطولته وتفانيه، بشّره رسول الله صلى الله عليه وآله بجناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء، ومن هنا جاء لقبه الشهير بـ”الطيار.”
وقعت معركة مؤتة في منطقة “مؤتة” ضمن محافظة الكرك في الأردن الحالية، حيث تجمعت جيوش الروم والعرب لمواجهة المسلمين. عرفت المعركة بشدتها وصعوبتها، إذ واجه جيش المسلمين الذي كان عدده قليلًا قوات ضخمة، مما زاد من جسارة التضحيات التي قدمها جعفر ورفاقه في سبيل الله. ولعل جعفراً الطيار يعد مثالًا خالدًا على روح الإيثار والشجاعة التي تميز بها الصحابة الكرام.
أما مرقد الشهيد جعفر الطيار فيقع في “المزار” جنوب الأردن، وهي منطقة تضم رفات شهداء مؤتة الآخرين، وتعتبر مقصدًا دينيًا مهمًا للمسلمين، حيث يقصد الزوار هذا المرقد الذي يبعد نحو 75 كيلومترًا عن موقع المعركة ليحيوا ذكرى البطل الطيار.
سلامٌ على جعفر الطيار يوم قاتل وذاد عن الإسلام، ويوم استشهد مدافعًا عن دين الله، ويوم يُبعث حيًّا في صحبة الشهداء والصالحين.
shiawaves
الصّحابيّ الجليل جعْفر بن أبي طالب (الطّيّار) رَضي الله عنه
اسمه ونسبه:
هو الصّحابيّ الجليل، سيّدنا جَعْفَر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مَنَاف بن قُصَيّ الهاشمي، أخو عليّ بن أبي طالب، وهو أسَنّ من علي بعشر سنين[1]. السَّيّد الشّهيد الكبير الشأن، علَم المجاهدين ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحد السّابقين إلى الإسلام[2].
كُنيَته:
كان يكنى رضِي الله عنه، أبا المساكين، لمجالسته إيّاهم، والسّهر على خدمتهم، ولين الجناحِ لهم.
رَوى البَغويّ في معجم الصّحابة، عن أبي هريرة، قال: «كان جعفر يحبّ المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، يحدّثهم ويحدثونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكنيه أبا المساكين»[3].
وكُنيَ أيضاً بذي الجَناحين، وكان ابن عمر رضيَ الله عنهما، إذا سلّم على ابن جعفر، قال: «السلام عليك يا ابن ذي الجَنَاحَين»[4].
وكنيَ أيضاً بالطّيّار، لأنّه قاتَل بغزوة مؤتة، فأخذ اللّواء بيمينه فقُطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضُديه حتى قُتل، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء[5].
مناقبه:
ورَد في مناقب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهُ عدّة أحاديث.
منها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: «أشبهتَ خَلْقِي وخُلُقي»[6].
ومنها: ما روته أمّنا عائشة رضِي الله عنها قالت: «لما قدِم جعفر وأصحابُه استقبله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقَبَّل ما بين عينيه»[7].
ومنها: ما رواه أبو هريرة رَضي الله عنه قال: «كنت ألزم النبيّ صلى الله عليه وسلّم لشبَع بطني، حين لا آكل الخَمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وأُلصق بطني بالحَصْباء، وأستقرئ الرّجل الآية، وهي معي، كي ينقلب بي فيطعِمني، وخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العَكَّة[8] ليس فيها شيء، فنشقها فنَلْعَق ما فيها»[9].
ومنها: ما ذكرَه ابن هشام في سيرته: أنّ جعفر بن أبي طالب رضيَ الله عنه، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم فتح خيبر، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه، والتزمه وقال: ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر[10]؟
جعفر بن أبي طالب ومَلِك الحَبَشَة:
ورد في كتب السّيرة النّبويّة، في هجرة الصّحابة إلى الحَبَشة، أنّ الذي فاوض ملك الحَبَشة، وتحدّث بلسان المهاجرين سيّدنا جعفر بن أبي طالب، فكان ما قاله يُكتب بمداد من ذهب، ويعبّر بصدق عن تعاليم الدّين الصّحيح، والدّعوة إليه، وهذا نصّه بتصرّف:
(أيّها المَلِك، كنَّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونُسيءُ الجِوَار، ويأكل القويُّ منَّا الضَّعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرفُ نسبَه وصدقه وأمانته وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرَّحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدّماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحدَه، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصَّلاة والزّكاة والصيام. فصدقناه وآمنا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدْنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حَرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلّ ما كنّا نستحل من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من سورة مريَم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفتُه حتى أَخْضَلُوا مصاحفهم[11]، حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال لهم النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون)[12].
جهاده في سبيل الله:
شارك سيّدنا جعفر بن أبي طالب في عدّة غزوات، وكان من المنافحين عن دين الله بلسانه وسِنانه، واستشهد وهو في قلب المعركة، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة» قال عبد الله: «كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين، من طعنة ورمية»[13].
روايته للحديث النبوي الشريف:
شارك جعفر بن أبي طالب رضي اللهُ عنه في رواية الحديث، إلاّ أنّه يعدّ في المقلّين منه، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وروَى عنه ابنه عبد الله، وبعض أهله، وأمّ سَلَمَة، وعمرو بن العاص، وابن مسعود[14].
وفاته:
استشهد سيّدنا جعفر (الطّيّار) في غزوة مؤتة، دار ميدان المعركة، وهو يجاهد لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه.
قال ابن هشام: وحدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مُرَّة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
[الرّجز]
يا حبذا الجنة واقترابها ** طيّبة وباردا شرابُها
والرومُ رومٌ قد دَنا عذابها ** كافرة بعيدة أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتها ضِرَابُها
ثمّ أخذ اللّواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلاً من الرّوم ضربه يومئذ ضربة، فقطعه بنصفين[15].
حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم على جعفر ووصايته بآله:
ولمّا استشهد رَضي الله عنه، حزن لموته سيّد الخلق حزناً بالغاً، وأوصى بأهله، وذرفت عينه رحمة وشفةً عليهم، وتُحدّث أسماء بنت عُميس، قالت: (لمّا أصيب جعفر وأصحابه دخل عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت، وعجنت عجيني، وغسلت بنيّ ودهنتهم ونظفتهم. قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم. قالت: فقمتُ أصيح، واجتمعت إليّ النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أهله، فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم)[16].
————————————————————————————
[1] سير أعلام النبلاء: 3/ 130.
[2] الإصابة لابن حجر: 1/592.
[3] معجم الصحابة للبغوي: 1/ 436.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب جعفر ابن أبي طالب الهاشمي رَضي الله عنه. 5/ 19.
[5] سيرة ابن هشام: 2/378.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب جعفر ابن أبي طالب الهاشمي رَضي الله عنه. 5/ 19.
[7] أخرجه البغوي في معجم الصحابة: 1/434.
[8] هي وعاء من جلود مستدير. النهاية لابن الأثير: 3/284.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأطعمة. باب الحلواء والعسَل. 7/77. ح: 5432.
[10] سيرة ابن هشام: 2/ 359.
[11] أي: بلوها بالدموع. النّهاية لابن الأثير: (خضل). 2/ 43.
[12] سيرة ابن هشام: 1/ 336.
[13] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي. باب غزوة مؤتة من أرض الشّام. 5/143.
[14] تهذيب التهذيب: 2/ 98.
[15] سيرة ابن هشام: 2/378. بتصرّف.
[16] سيرة ابن هشام: 2/380 بتصرف.