سلطت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، الأربعاء، الضوء على انفجار المئات من أجهزة النداء الآلي (البيجر) التي يستخدمها عناصر «حزب الله» اللبناني فجأة الثلاثاء، وتحميل «حزب الله» إسرائيل «المسؤولية الكاملة» عن هذه الانفجارات.
وقالت الصحيفة إن الشكوك حول منفذ الانفجارات اتجهت على الفور إلى إسرائيل باعتبارها «القوة الإقليمية الوحيدة التي تمتلك شبكة تجسس قادرة على تنفيذ مثل هذا الهجوم الجريء والمتطور والمنسق».
كشفت الصحافة الإسرائيلية عن بعض تفاصيل عملية تفخيخ وتفجير أجهزة “البيجر” اللاسلكية التي يستخدمها ويحملها عناصر حزب الله في لبنان وسوريا، حيث قررت تل أبيب تنفيذ العملية يوم الثلاثاء 17 سبتمبر/أيلول 2024 “خوفاً من أن يكتشف حزب الله الاختراق الأمني في الأجهزة”، نقل موقع “والا” العبري، عن مسؤول إسرائيلي سابق، أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية “خططت لتنفيذ عملية الأجهزة المفخخة كضربة افتتاحية مفاجئة في حرب شاملة، وذلك من أجل شل الحركة بشكل مؤقت ما يعطيها أفضلية كبيرة في الهجوم”.
لكن تظل التساؤلات حول كيفية وصول هذه الشحنة المفخخة من الأجهزة محل سؤال، فيما قال مصدر أمني لبناني كبير لرويترز إن حزب الله طلب قبل 3 شهور 5 آلاف جهاز بيجر من شركة “جولد أبوللو”، لكن الشركة أكدت أن “المنتج ليس تابعاً لها، بل يحمل فقط علامتها التجارية”، كما أوضحت “جولد أبوللو” أن شركة “بي.إيه.سي” وتقع في دولة أوروبية، هي التي تنتج وتبيع طراز إيه.آر-924، مؤكدة أنها تقوم بمنح ترخيص العلامة التجارية لهذه المنتجات وليس لها أي دور في تصميم أو تصنيعها”.
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نقلت عن بعض المسؤولين الأمريكيين قولهم إن أجهزة البيجر التي طلبها حزب الله من شركة “جولد أبولو” في تايوان تم العبث بها قبل وصولها إلى لبنان، ويرى ديمتري ألبيروفيتش، رئيس مركز سيلفرادو بوليسي أكسيليريتور، وهو مركز أبحاث للأمن القومي، أن هذه الفرضية صحيحة، مشيراً إلى “أن هذا الهجوم ربما يكون الأوسع عبر التاريخ، والذي يستهدف سلسلة توريد، عن طريق استبدال الأجهزة المستوردة بأخرى تحتوي على متفجرات وتشغيلها جميعاً في نفس الوقت من خلال مركز للقيادة والتحكم”.
لكن هذه العملية المعقدة والتي أصيب بسببها 2800 لبناني من أعضاء حزب الله أو عائلاتهم، واستشهد فيها 12 شخصاً بينهم أطفال، ليست جديدة من حيث التكنيك على الإسرائيليين، فلدى جواسيس الموساد تاريخ يمتد لعقود من الزمن في استخدام الهواتف، أو أجهزة الاتصال الأخرى، لتتبع ومراقبة وحتى اغتيال الخصوم بعد تفخيخ هذه الأجهزة.
اغتيال الهمشري والعياش كان بتفخيخ أجهزة الاتصال الخاصة بهما
تقول صحيفة “فاينانشيال تايمز” الأمريكية، إنه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1972، وكجزء من انتقام “إسرائيل” من منظمة التحرير الفلسطينية لمقتل 11 إسرائيلياً في أولمبياد ميونيخ، قام عملاء الموساد بتبديل القاعدة الرخامية للهاتف الذي يستخدمه الشهيد محمود الهمشري، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، داخل شقته، حيث كانت تتهمه تل أبيب بأنه العقل المدبر لعملية ميونخ.
في ذلك اليوم، عندما قام الهمشري بالرد على الهاتف، قامت مجموعة إسرائيلية قريبة بتفجير المتفجرات المعبأة داخل قاعدة الهاتف المفخخة عن بعد، وفقد الهمشري إحدى ساقيه ثم توفي في وقت لاحق نتيجة لإصابته بجروح بليغة.
وفي 5 يناير/كانون الثاني من عام 1996، قام الموساد الإسرائيلي، باغتيال الشهيد يحيى عياش، المهندس الأول في كتائب القسام وصانع القنابل الماهر الذي ظل مطارداً لسنوات من قبل “إسرائيل”، التي اتهمته بالمسؤولية عن قتل العشرات وإصابة المئات من الإسرائيليين.
في ذلك اليوم، وعند رد العياش على مكالمة من والده الذي كان يطمئن عليه، من هاتف محمول من طراز “موتورولا ألفا”، أحضره أحد العملاء في غزة إلى قريبه الذي كان يأوي في منزله العياش، رصدت “إسرائيل” بصمة صوت المهندس، وقامت بتفجير الهاتف على الفور. كان ذلك الهاتف مفخخاً بنحو 50 جراماً من المتفجرات، وهو ما يكفي لقتل أي شخص يحمل الجهاز على أذنه.
تقول الصحيفة الأمريكية إن هاتين الحادثتين تعتبران لدى مجتمع الاستخبارات “حالات نجاح نموذجية”، حيث خدمت الهواتف وأجهزة الاتصالات أغراض حاسمة: مراقبة ورصد الهدف قبل الاغتيال؛ وتحديد هوية الهدف وتأكيدها أثناء الاغتيال؛ وأخيراً استخدام عبوات ناسفة صغيرة داخل أجهزة الاتصال هذه لقتل صاحبها.
بصمات “إسرائيل” في انفجارات “البيجر” في لبنان
وبينما انفجرت مئات أجهزة الاستدعاء (البيجر) فجأة في مختلف أنحاء لبنان بعد ظهر الثلاثاء، تحولت الشكوك على الفور إلى “إسرائيل”، القوة الإقليمية الوحيدة التي تمتلك شبكة تجسس قادرة على تنفيذ مثل هذا الهجوم الجريء والمتطور والمنسق. وقال حزب الله، الجماعة المسلحة التي تم تفجير العديد من أجهزتها في الهجوم، إننا “نحمل العدو الإسرائيلي المسؤولية الكاملة”.
ولم يعلق الجيش الإسرائيلي على الهجوم، رغم أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أجرى مساء الثلاثاء مشاورات مع كبار قياداته الأمنية بعد الانفجارات، لكن الصحافة العبرية والأمريكية أكدت مسؤولية تل أبيب في الهجوم المميت وكشفت بعض كواليس اتخاذ القرار حوله.
وكان حزب الله قد لجأ إلى أجهزة النداء (البيجر) لتجنب المراقبة الإسرائيلية بعد مناشدة علنية للأعضاء بالتخلص من هواتفهم الذكية مع تكثيف “إسرائيل” لهجماتها ضد قادة الحزب خلال ما يقرب من عام من الاشتباكات المتزايدة على طول الحدود.
في ظل عدم وجود قدرات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وعدم وجود ميكروفونات أو كاميرات، والبث النصي المحدود للغاية، فإن أجهزة الاستدعاء (البيجر) على الأقل من الناحية النظرية، كان أمنياً أفضل بكثير من الهواتف الذكية، مما يجعل اختراقها أكثر صعوبة.
ويبدو أن حزب الله فضل هذه الأجهزة لنفس السبب البسيط: فهي تجمع قدراً ضئيلاً للغاية من البيانات التي يمكن أن تستغلها الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
ولكن يبدو أنهم لم يتوقعوا إمكانية انفجار هذه الأجهزة الصغيرة، التي تعمل عادة ببطاريات عادية AA أو AAA واحدة، وفي أحدث النماذج، ببطاريات الليثيوم. وقد تم تصوير العديد من الانفجارات بواسطة كاميرات المراقبة بينما كانت الأهداف تتحرك وفق إيقاع الحياة اليومية في محلات السوبر ماركت أو أثناء التجول في جنوب بيروت.
ويبدو أن هذه الهجمات وقعت بفارق نصف ساعة فقط بين بعضها البعض، وسبقتها إما رسالة أو صوت تنبيه دفع العديد من الأشخاص إلى إخراج أجهزة الاتصالات للنظر إلى شاشات الأجهزة الخاصة بهم، وفقًا لتقارير وسائل الإعلام المحلية ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقال مسؤولان إسرائيليان سابقان، وكلاهما لديه خبرة في اختراق الاتصالات وعمليات أخرى لأعداء البلاد، لصحيفة “فاينانشيال تايمز” إن أجهزة الاستدعاء لا تحتوي عادة على بطاريات كبيرة بما يكفي لإجبارها على الانفجار بقوة كافية للتسبب في الإصابات التي ظهرت في مقاطع الفيديو التي نشرت من مستشفيات بيروت.
وكان العديد من المصابين في الفيديوهات قد فقدوا أصابعهم ولديهم إصابات بليغة في الوجه، بينما كان آخرون ينزفون بغزارة من خاصرتهم وبطونهم، وقال المسؤولان السابقان إنه لا تتوفر بعد أدلة كافية “للعامة” لمعرفة كيفية تنفيذ التفجيرات وتنسيقها على وجه التحديد من قبل إسرائيل.
كيف اعترضت “إسرائيل” شحنة (البيجر) وفخختها؟
تقول “فاينانشيال تايمز”، إنه مع تحول حزب الله عن الهواتف الذكية، فإن الحصول على التكنولوجيا التي أصبحت عتيقة إلى حد كبير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان يتطلب استيراد دفعات كبيرة من أجهزة النداء إلى لبنان. ولكن جعلها تعمل بشكل فعال على شبكات الهاتف المحمول الحالية سيكون سهلا نسبيا، وفقا لأحد المسؤولين الإسرائيليين السابقين.
وحتى يومنا هذا، لا يزال هناك سوق صغير لأجهزة النداء (البيجر) في الصناعات التي يحتاج فيها الموظفون إلى تلقي رسائل نصية قصيرة، من المستشفيات إلى المطاعم ومستودعات فرز البريد وغيرها.
ورغم أن الرسائل النصية نفسها يمكن اعتراضها بسهولة بالغة من قبل الاستخبارات الإسرائيلية، فإن نيتها الحقيقية يمكن إخفاؤها باستخدام رموز أو إشارات مرتبة مسبقاً، مما يجعل جاذبيتها لحزب الله واضحة، كما قال أحد المسؤولين السابقين.
وبما أن عناصر حزب الله هم المجموعة الأكثر احتمالاً لاستخدام أجهزة النداء في لبنان، فإن المهاجم قد يكون متأكداً نسبياً من أنهم يتعاملون بشكل رئيسي مع أهداف مسلحة، وفقاً للمسؤول السابق.
وقال أحد المسؤولين السابقين: “حتى بالنسبة لحزب الله، كان ينبغي أن يكون هذا التحقيق سهلاً للغاية ــ هل كانت جميع الأجهزة المعنية من نفس الشركة المصنعة، وربما وصلت في نفس الشحنات أو شحنات مماثلة؟. أم أنها كانت عبارة عن أنواع مختلفة من الأجهزة، من جميع أنواع الشحنات وأعطيت لمجموعة متنوعة من [العملاء] – صغار وكبار وسياسيين؟”.
إذا كانت جميعها من مصدر ودفعة واحدة، فإن هذا يثير احتمال أن تكون الشحنات قد تم اعتراضها وإدخال كميات صغيرة من المتفجرات الحديثة فيها. وقال المسؤول الثاني إن هناك احتمالا واحدا وهو أن تكون المادة المتفجرة مخبأة داخل البطاريات نفسها، وهي خدعة كانت وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والغربية تشعر بالقلق منذ فترة طويلة من أن خصومها قد يحاولون استخدامها على متن طائرات تجارية.
ولهذا السبب تطلب العديد من عمليات التفتيش الأمنية في المطارات من الركاب تشغيل أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم لإظهار شاشاتها وبطارياتها العاملة، والتأكد من أن حجرة البطارية لم يتم تبديلها بالمتفجرات.
المصدر:عربی بوست+وکالات