كاتب وباحث :
خالد محيي الدين الحليبي
مدير مركز القلم للأبحاث والدراسات
القاهرة
النسب الشريف
ليس في دنيا الإسلام وغيره نسب أرفع ولا أسمى من نسب السيّدة زينب (سلام الله عليها) ؛ فقد تفرّعت من دوحة النبوّة والإمامة ، والتقت بها جميع أواصر الشرف والكرامة ، فهي فرع زاكٍ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن الإمام علي (عليه السّلام) ، وهما من أفضل ما خلق الله من بني الإنسان ، فتبارك هذا النسب الوضّاح , وتعالت تلك الاُسرة الكريمة التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين ، وجعلها مصدر الوعي والإلهام للمسلمين على امتداد التأريخ .
إنّ الاُسرة العلوية هي أسمى اُسرة عرفها التأريخ بجهادها ونضالها , وتبنّيها لحقوق الإنسان وقضايا مصيره ، ومقاومتها للظلم والطغيان ، فليس في اُمم العالم وشعوب الأرض مثل اُسرة العلويِّين في دفاعهم عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وقد استشهد المئات منهم من أجل حرية الإنسان وكرامته .
وعلى أيّ حال ، فهذه لمحة موجزة عن الاُصول الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) .
الجدّ
أمّا جدّ السيّدة زينب فهو سيّد الكائنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، الذي فجّر ينابيع العلم والحكمة في الأرض ، وأسس معالم الحضارة والتطوّر ، وبنى مجتمعاً كريماً تسوده العدالة والقانون ، وسحق خرافات الجاهليّة وعاداتها , ودمّر أصنامها وأوثانها ، ودعا إلى توحيد الله خالق الكون وواهب الحياة ، وجاء بالخير العميم لاُمّته ، ولكلّ ما تسمو به من التقاليد والعادات ، فما أعظم عائدته عليها وعلى البشرية جمعاء ! لقد أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين ، ومنار هداية لخلقه أجمعين ، فكان (صلوات الله عليه) كما قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ – سورة الأنبياء / ١٠٧ )
. فهو رحمة للناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، حريص على هدايتهم وإسعادهم ، قال تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ – سورة التوبة / ١٢٨ )
لقد تشرّفت الإنسانيّة برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأشرقت الدنيا بدعوته ، وتوطّدت أركان العدالة بدينه ، فهو (صلّى الله عليه وآله) القائد الملهم لقضايا الفكر والوعي في الأرض .
هذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ونبي الرحمة جدّ سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) ، وقد ورثت منه خصائصه ومميزاته ، والتي منها الدفاع عن الحقّ ، ورفع كلمة الله عالية في الأرض .
الجدّة
أمّا جدّة السيّدة زينب فهي اُمّ المؤمنين وسيّدة نساء النبي (صلّى الله عليه وآله) خديجة الكبرى التي نصرت الإسلام في أيام محنته وغربته ، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد ، وقد بذلت جميع ما تملكه في نصرة الإسلام ، وكانت من أثرى قريش ، فلم تعد بعد ثرائها العريض تملك ما تجلس عليه سوى حصير بال ، فكانت (رضوان الله عليها) من أهم الدعائم لإقامة دين الإسلام ، وهي التي أمدّت النبي (صلّى الله عليه وآله) ومَنْ كان معه طوال المدّة التي اعتقلتهم فيها طغاة قريش في (الشِّعب) ، وكانت تهوّن على النبي (صلّى الله عليه وآله) المصاعب والمصائب التي كان يعانيها من جهّال قريش وأوغادها .
وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشكر أياديها البيضاء ، وما أسدته عليه من عظيم اللطف والفضل ؛ فكان يذكرها دوماً بعد وفاتها ويترحّم عليها ، وكان إذا ذبح شاة بعث بأطيب ما فيها إلى صديقاتها ؛ وفاءً لها .
وكانت عائشة يثقل عليها ذلك ، فكانت تندّد بها وتقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها ؟! فيردّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ويقول : (( ما أبدلني الله خيراً منها ؛ آمنت بي حين كفر بي الناس ، وواستني بمالها حين حرمني الناس ، ورُزقتُ منها الولد وقد حُرمته من غيرها )) .
لقد رزقه الله منها سيّدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي هي نفحة من روح الله تعالى . إنّ السيّدة خديجة أسمى امرأة مجاهدة في الإسلام , هي جدّة الصدّيقة زينب (عليها السّلام) .
وقد ورثت صفات جدّتها التي منها الاندفاع في نصرة الحقّ , والذبّ عن المثل العليا ، وقد ظهرت هذه الصفات بوضوح عند العقيلة ؛ فقد وقفت إلى جانب أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) , فهي شريكته في نهضته وجهاده ، وهي التي أمدّت ثورته الجبّارة الخالدة بعناصر البقاء والخلود .
الاُمّ
أمّا اُمّ السيدة زينب فهي البتول الطاهرة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) ، سيّدة نساء العالمين في فضلها وعفّتها وطهارتها من الزيغ والرجس ، وهي بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وريحانته , وأعزّ أبنائه وبناته عنده .
وبلغ من عظيم حبّه لها أنّه إذا سافر جعلها آخر مَنْ يودّعها ؛ لتكون صورتها ماثلة أمامه ، كما أنّه إذا قدِم من سفره كان أوّل مَنْ يستقبلها – مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٧٥ ، مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦ ، سنن البيهقي ١ / ٢٦ ؛ وذلك لسموّ مكانتها وعظيم شأنها .وقد عنى بها عناية بالغة , فغذّاها بمكرماته ، وأفاض عليها أشعة من روحه التي ملأ سناها الكون ، وغرس في نفسها عناصر حكمته وفضائله ، فكانت صورة تحكيه ومثالاً صادقاً عنه ، ويقول الرواة : إنّها كانت من أشبه الناس به هدياً وحديثاً ومنطقاً . – صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ رواه بسنده عن عائشة ، ورواه الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عنها ٣ / ١٥٤ ، ورواه البخاري في الأدب المفرد / ١٤١ ، ورواه أبو عمرو في الاستيعاب ٢ / ٧٥١ .
وكانت فيما أجمع عليه الرواة من أشفق الناس وأخلصهم لأبيها وأبرّهم به ؛ فإذا رأته متأثراً أو حزيناً ذابت أسى وموجدة .
ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن أبي ثعلبة ، قال : قَدِم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من غزاة له المسجد , فصلّى فيه ركعتين ـ وكان يعجبه إذا قَدِم أن يدخل المسجد فيصلّي فيه ركعتين ـ ثمّ خرج فأتى فاطمة (عليها السّلام) , فبدأ بها قبل بيوت أزواجه , فجعلت تقبّل وجهه وعينيه وتبكي ، فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( ما يبكيك ؟ )) .
قالت : (( أراك قد شحب لونك )) .
فقال لها : (( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث أباك بأمر لم يبقَ على ظهر الأرض مدر ولا شعر إلاّ أدخله به عزّاً أو ذلاً ، حيث سطع الليل )) – حلية الأولياء ٢ / ٣٠ ، كنز العمّال ١ / ٧٧ ، مجمع الزوائد ٨ / ٢٦٢ و معنى الحديث أنّ البيوت التي دخلها العزّ هي التي آمنت بالإسلام ، وأمّا البيوت التي دخلها الذلّ فهي التي لم تؤمن بالإسلام وبقيت على كفرها وضلالها .
ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله في أبيها وأمها و الحسنيتن أخويها (عليهم السلام)
وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) بضعته الطاهرة بهالة من التقديس والتكريم ؛ إظهاراً لعظيم شأنها ، وسموّ مكانتها عند الله تعالى وعنده ، وقد نقل الرواة عنه كوكبة من الأحاديث في ذلك , كان منها ما يلي :
١ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك )) – ذخائر العقبى / ٣٩ ، ومثله رواه الحاكم في مستدرك الصحيحين وعلّق عليه : ( هذا حديث صحيح الإسناد ) كما جاء في اُسد الغابة ٥ / ٥٢٢ ، الإصابة ٨ / ١٥٩
٢ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة : (( إنّ الربّ يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك )) – ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٢ / ٧٢
٣ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( يا فاطمة ، إنّ الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك )) – كنز العمال ٦ / ٢١٩ .
ومعنى هذه الأحاديث التي تقاربت في مؤدّاها أنّ لسيّدة النساء (سلام الله عليها) منزلة سامية عند الله ؛ فقد أناط رضاه برضاها ، وأناط غضبه بغضبها ، وهذه أسمى وأرفع منزلة يصل إليها القدّيسون من عباد الله . لقد انتهت سيّدة النساء إلى هذه المكانة عند الله تعالى ؛ وذلك لِما تتمتّع به من طاقات هائلة من الإيمان والتقوى حتّى كان ذلك من عناصرها ومقوماتها .
٤ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( فاطمة بضعة منّي ، فمَنْ أغضبها أغضبني )) – . صحيح البخاري ـ كتاب بدء الخلق في باب مناقب قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ٣ / ١٣٦١ ، ح ٣٥١٠ ، ط ٥
٥ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( فاطمة بضعة منّي ، يؤذيني ما آذاها ، ويصيبني ما أصابها )) . – صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ ، مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٥ .
٦ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( فاطمة بعضة منّي ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ماآذاها )) .- صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ . صحيح مسلم .
٧ ـ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّ فاطمة شجن منّي ، يبسطني ما يبسطها ، ويقبضني ما يقبضها )) . – كنز العمّال ٦ / ٢١٩ . مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٤ .
وحكت هذه الأحاديث بصورة واضحة أنّ مَنْ يخدش عاطفة الزهراء (عليها السّلام) ، أو يُسيء إليها بأيّ لون من ألوان الإساءة فقد واجه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذلك ؛ لأنّها كنفسه ، وأنّها بمقتضى هذه الأحاديث نسخة لا ثاني لها في فضائلها ومواهبها .
٨ ـ روت عائشة أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفّي فيه لفاطمة (عليها السّلام) : (( يا فاطمة ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه الاُمّة ، وسيّدة نساء المؤمنين ؟ )) . – مستدرك الصحيحين ٣ / ١٥٦ .
٩ ـ روى عمران بن حصين أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( ألا تنطلق بنا نعود فاطمة ؛ فإنّها تشتكي ؟ )) .
فقلت : بلى . فانطلقنا حتّى إذا انتهينا إلى بابها فسلّم واستأذن ، فقال : (( أدخل أنا ومَنْ معي ؟ )) .
قالت : (( نعم . ومَنْ معك يا أبتاه , فوالله ما عليّ إلاّ عباءة ؟ )) .
فقال : (( اصنعي بها كذا )) . فعلّمها كيف تستتر ، فقالت : (( والله ما على رأسي من خمار )) . فأخذ ملاءة كانت عليه فقال : (( اختمري بها )) .
ثمّ أذنت لهما فدخلا ، فقال : (( كيف تجدينك يا بُنيّة ؟ )) . قالت : (( إنّي لوجعة ، وإنّه ليزيدني أنّه ما لي طعام آكله )) .
قال : (( يا بُنيّة ، أما ترضين إنّك سيدة نساء العالمين ؟ )) .
قالت : (( يا أبتِ ، فأين مريم ابنة عمران ؟ )) .
قال : (( تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيّدة نساء العالمين . أما والله زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة )) . – حلية الأولياء ٢ / ٤٢ . مشكل الآثار ١ / ٥٠ . ذخائر العقبى / ٤٣ .
١٠ ـ روى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة (سلام الله عليها) : (( ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة ، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنّة ؟ )) .- كنز العمّال ٧ / ١١١ .
١١ ـ روى أنس بن مالك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( خير نساء العالمين أربع ؛ مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) )) . – تفسير ابن جرير ٣ / ١٨٠ .
وكثير من أمثال هذه الروايات دُوّنت في الصحاح والسنن وغيرهما , وهي تشيد بفضل سيّدة النساء ، وأنّ الله تعالى قد قلّدها أسمى أوسمة الشرف ، وفضّلها على جميع نساء العالمين .
وهذه البتول سيّدة نساء العالمين هي اُمّ السيّدة زينب (سلام الله عليها) ، وهي التي تولّت تربيتها ونشأتها ؛ فغذّتها بمعارف الإسلام وحكمه وآدابه ، وغرست في أعماق نفسها الإيمان بالله والانقطاع إليه حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، فكانت نسخة لا ثاني لها في فضائلها وصفاتها ، فلم يُرَ مثلها في نساء المسلمين وغيرهم في كمالها وآدابها وسائر نزعاتها .
الأب
أمّا أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) فهو الإمام أمير المؤمنين , رائد الحكمة والعدالة في الإسلام ، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله) , وباب مدينة علمه ، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو ـ فيما أجمع عليه الرواة ـ أوّل مَنْ آمن برسول الله (صلّى الله عليه وآله) , واعتنق مبادئه وأهدافه ، وقام إلى جانبه قوّة ضاربة يحمي دعوته ويصون رسالته , ويخمد بسيفه نار الحروب التي أشعلتها قريش لتطفئ نور الله , وتقضي على الإسلام في مهده ، فوهب (سلام الله عليه) روحه لله تعالى ، فحصد ببتّاره رؤوس الطغاة من القرشيّين وأنصارهم المشركين .
لقد كان الإمام أبرز بطل في جيوش المسلمين نازل ببسالة وصمود قوى الكفر والإلحاد ، وأنزل بها الخسائر حتّى فُلّت وشُلّت جميع فعاليتها العسكرية , وباءت بالهزيمة والخسران . ولولا جهاد الإمام وكفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع , مفتول الساعد ، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين !
وكان من عظيم إيمان الإمام ونصرته للإسلام مبيته على فراش النبي (صلّى الله عليه وآله) ووقايته له بنفسه حينما أجمعت قريش على قتله ، وكانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام ؛ فقد نجا النبي (صلّى الله عليه وآله) من أقسى مؤامرة دُبّرت لاغتياله ، فقد فشلت وأنقذ الله تعالى نبيّه من تلك الوحوش الكاسرة التي أرادت أن تطفئ نور الإسلام وتعيد الظلام للأرض .
لقد صحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) منذ نعومة أظفاره النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتخلّق بطباعه وأفكاره ، وتغذّى بحِكَمه وعلومه ، فكان باب مدينة علمه ، وقد أثرت عنه من العلوم ما يبهر العقول .
يقول العقاد : إنّه فتح ما يربو على ثلاثين علماً لم تكن معروفة قبله ؛ كعلم الكلام والفلسفة والقضاء والحساب وغيرها ، وهو القائل :(( سلوني قبل أن تفقدوني )) . ولم يفه أحدٌ بمثل هذه الكلمة غيره .
وقد أخبر عن علمه وإحاطته بأسرار الكون والفضاء ، فقال : (( سلوني عن طرق السماء , فإنّي أعرف بها من طرق الأرض )) . كما تحدّث عن درايته بما احتوت عليه الكتب السماويّة من أحكام قائلاً : (( لو ثُنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم ،وأهل القرآن بقرآنهم )) .
لقد كان الإمام (عليه السّلام) أعظم عملاق في الميادين العلميّة عرفته الإنسانيّة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ويدلّ على طاقاته العلميّة الهائلة كتابه نهج البلاغة الذي هو من أعظم ما تملكه الإنسانيّة من تراثٍ بعد القرآن الكريم .
ومن مظاهر شخصيّة الإمام (عليه السّلام) زهده في الدنيا وعدم احتفائه بأيّ زينةٍ من زينة الحياة ، فقد تقلّد الحكم وتشرفت الدولة الإسلاميّة بقيادته ، فزهد في جميع مظاهر السلطة ، وجعل الحكم وسيلة لإقامة الحقّ والعدل ونشر المساواة بين الناس ، ولم يستخدم السلطة لتنفيذ رغباته والظفر بالثراء العريض .
ومن المقطوع به إنّه ليس في تأريخ الشرق العربي وغيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قد عنى بالصالح العام ، وتجرّد عن كلّ منفعة شخصية له ، وهو القائل لابن عباس ، وكان يصلح نعله الذي هو من ليف : (( يابن عباس ، ما قيمة هذا النعل ؟ )) .
[ قال ابن عباس : ] لا قيمة له يا أمير المؤمنين .
[ فقال الإمام (عليه السّلام) ] : (( والله , لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن اُقيم حقّاً ، أو أدفع باطلاً )) .
لقد تبنّى العدل الخالص والحقّ المحض في جميع مراحل حكمه ؛ فالقريب والبعيد عنده سواء ، والقوي عنده ضعيف حتّى يأخذ منه الحقّ ، والضعيف عنده قوي حتّى يأخذ له بحقّه . وقد أوجد في أيام خلافته وعياً سياسياً أصيلاً وهو التمرّد على الظلم , ومقارعة الجبابرة والطغاة .
وكان أبرز مَنْ تغذّى بهذا الوعي ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) , وبطلة الإسلام ابنته سيدة النساء زينب (عليها السّلام) ، وكوكبة من مشاهير أصحابه ؛ كحجر بن عدي , وعمرو بن الحمق الخزاعي , وميثم التمّار , وغيرهم من بُناة المجد الإسلامي الذين ثاروا على الظالمين .
وعلى أي حال ، فهذا العملاق العظيم هو أبو الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) ، فقد غذّاها بمثله ومكوّناته النفسية ، وأفرغ عليها أشعة من روحه الثائرة على الظلم والطغيان ، فكانت تحكيه في انطباعاته واتجاهاته ، فقارعت الظالمين ، وناجزت الطغاة المستبدّين ، وأذلّت الجبابرة المتكبّرين وألحقت بهم الخزي والدمار .
لقد وقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، ومفخرة الإسلام إلى جانب أخيها أبي الأحرار حينما فجّر ثورته الكبرى التي هي أعظم ثورة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني . وقد شابهت بذلك أباها رائد العدالة الاجتماعية حينما وقف إلى جانب جدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) حينما أعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحرير الفكر البشري من عوامل الانحطاط والتأخّر ، وإنارته بالعلوم والعرفان , ودفعه إلى إقامة مجتمع متوازن في سلوكه وإرادته .
لقد كانت هذه السيّدة العظيمة في سيرتها وسلوكها من أشبه الناس بأبيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ فقد تبنّت بصورة إيجابية جميع أهدافه ومخطّطاته ومواقفه التي منها نصرته للإسلام في أيام محنته وغربته .
وكذلك هذه السيّدة العملاقة نصرت الإسلام حينما عاد غريباً في ظلّ الحكم الاُموي الذي استهدف قلع جذور الإسلام ولفّ لوائه ، وإعادة الحياة الجاهليّة بأوثانها وأصنامها ، ولكنّها مع أخيها (سلام الله عليها) قد أفسدت مخطّطات الاُمويِّين ، وأعادت للإسلام نضارته ومجده .
أبو طالب جدّها لأبيها
أمّا جدّ السيدة الزكية زينب لأبيها فهو حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس ، أبو طالب (مؤمن قريش) الذي نافح عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد ، ولولا حمايته للنبي وقيامه بدور مشرق في الذبّ عنه لأتت عليه قريش وقضت على الدعوة في مهدها . لقد كان أبو طالب من أوثق المسلمين إيماناً ، ومن أكثرهم إخلاصاً لدين التوحيد ، وهو القائل : ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ من خيرِ أديانِ البريةِ دينا
وحكى هذا البيت إيمانه العميق بأنّ دين النبي (صلّى الله عليه وآله) من خير أديان البرية ؛ ولهذا اندفع كأعظم قوّة ضاربة إلى حماية النبي (صلّى الله عليه وآله) وحراسته من ذئاب الاُسر القرشية التي أجمعت أن تلفّ لواء الإسلام وتطوي رسالته .
لقد وقف هذا العملاق العظيم محامياً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو القائل : واللهِ لن يصلوا إليكَ بجمعهم حتى أُوسّد في الترابِ دفينا وظلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحت حراسة أبي طالب وحمايته ينشر دعوته ويذيع مبادئه آمناً عزيزاً مُهاباً ، وقد جنّد أولاده لخدمة النبي (صلّى الله عليه وآله) وألزمهم بالذبّ عنه ، فكان ولده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أقوى حرسه ، ومن أكثرهم دفاعاً عنه ، فخاض أعنف الحروب وأقساها لحمايته ونشر مبادئه وأهدافه .
ولمّا انتقل هذا الصرح العظيم إلى حضيرة القدس حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) كأعظم ما يكون الحزن ؛ فلقد فَقَدَ بموته المحامي والناصر ، وأعزّ ما كان يحنو عليه ويعطف ، وأطلق على العام الذي توفي فيه مع اُمّ المؤمنين خديجة (عام الحزن) و من العجيب ما ذكره بعض السذّج من المؤلّفين أنّ أبا طالب حامي الإسلام مات غير مسلم ، وليس ذلك إلاّ من وضع الاُمويّين الذين كادوا للإسلام وطعنوا في أعظم حماته ورجاله . ولو مات غير مسلم لما حزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّه لا يخضع بأيّ حالٍ من الأحوال لأي مؤثّر لا يمتّ إلى الحقّ والواقع بصلة . فحزنه عليه مع كونه غير مسلم موجب للطعن بشخصيّة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولولاه لأقبرت قريش الدعوة الإسلاميّة من أوّل بزوغها , فجزاه الله عن الإسلام خيراً , وأجزل له المزيد من رحمته .
وقد أجمعت قريش بعد موت أبي طالب على قتل النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فاضطر (صلّى الله عليه وآله) إلى [الخروج] من مكّة في غلس الليل البهيم بعد أن ترك أخاه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في فراشه ، فرحم الله أبا طالب , فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين ، وما أكثر ألطافه وأياديه على النبي (صلّى الله عليه وآله) !
إنّ هذا العملاق العظيم هو جدّ سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) لأبيها ، وقد ورثت منه خصائصه وذاتياته التي من أبرزها التفاني في الحق ونكران الذات .
جدّتها لأبيها السيدة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام)
وجدّة السيدة زينب (عليها السّلام) لأبيها هي السيدة الزكية فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب ، وهي من سيّدات النساء في إيمانها وطهارتها ، وقد برّت بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتولّت تربيته , وكانت ترعاه وتعطف عليه أكثر ممّا تعطف على أبنائها ، وقدّمت له أعظم الخدمات .
وقد قطع (صلّى الله عليه وآله) شوطاً من حياته تحت رعاية هذه السيدة الزكية التي ما تركت لوناً من ألوان الرعاية والبرّ إلاّ قدّمتها إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وكانت من أعزّ الناس عنده ، ولمّا فُجع بوفاتها ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها ، فبُهر أصحابه وقالوا له : يا رسول الله ، ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بهذه ؟!
فأخبرهم النبي (صلّى الله عليه وآله) عن عظيم برّها ومعروفها قائلاً : (( إنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنّما ألبستها قميصي لتُكسى من حلل الجنّة ، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها )) – توجد ترجمتها في طبقات ابن سعد ، الاستيعاب ، أعيان الشيعة ، أعلام النساء ، تنقيح المقال ، وغيرها .
هذه الاُصول العملاقة التي اتّسمت بالإيمان والشرف والكرامة , وبكلّ ما يسمو به الإنسان من القيم والمبادئ الكريمة ، قد تفرّعت منها بطلة الإسلام وصانعة التأريخ زينب (عليها السّلام) ، فقد ورثت جميع نزعات آبائها وخصائصهم وصفاتهم حتّى صارت صورة مشرقة عنهم .
إخوتها :
ويجدر بنا بعد هذا العرض الموجز لشؤون الاُسرة الكريمة التي تفرّعت منها سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) أن نذكر ـ بإيجاز ـ إخوانها الذين عاشرتهم , وهم الذين ملؤوا فم الدنيا بفضائلهم ومآثرهم ، وفيما يلي ذلك :
١ ـ الإمام الحسن (عليه السّلام)
هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة وسبطه الأوّل ، وكانت ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك للسنة الثالثة من الهجرة – الإصابة ١ / ٣٣٨ ، الاستيعاب ١ / ٣٦٨ ، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٩ .
وقد شوهدت في طلعته شمائل النبوّة وأنوار الإمامة ، وهو أوّل مولود سعدت به الاُسرة النبوية ، فقد عمّها السرور بهذا المولود المبارك .
وقد سارع النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بيت بضعته وحبيبته السيدة فاطمة الزهراء (عليها السّلام) فهنّأها بوليدها ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعيّة فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، فكان أوّل صوت اخترق سمعه صوت جدّه العظيم داعية الله في الأرض ، واُنشودة ذلك الصوت : (( الله أكبر ، لا إله إلاّ الله )) .
وهل في دنيا الوجود كلمات هي أسمى وأعظم من هذه الكلمات ، وقد غرسها النبي (صلّى الله عليه وآله) في قلب وليده لتكون منهجاً له في حياته ؟
وفي اليوم السابع من ولادته عقّ عنه النبي (صلّى الله عليه وآله) بكبش ، وحلق رأسه ،وتصدّق بزنة شعره فضّة على المساكين-حياء الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٤ .
وكان ذلك سنّة في الإسلام لكلّ وليد .
تسميته
وأقبل النبي (صلّى الله عليه وآله) على الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال له : (( هل سمّيت الوليد المبارك ؟ )) .
فأجابه الإمام بأدبٍ واحترام قائلاً : (( ما كنت لأسبقك يا رسول الله .. )) . وانبرى النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : (( ما كنت لأسبق ربّي )) .
وهبط الوحي على النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو يحمل تسميته من السماء ، قائلاً : (( سمّه حسناً )) – تاريخ الخميس ١ / ٤٧ .
وكفى بهذا الاسم جمالاً وعظمةً أنّ الخالق العظيم هو الذي اختاره لسبط النبي وريحانته .
كنيته وألقابه
وكنّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) ( أبا محمّد ) ، ولا كنية له غيرها . أمّا ألقابه فهي : السبط ، الزكي ، المجتبى ، السيّد ، التقي. – حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٥ .
ملامحه
أمّا ملامحه فكانت تحكي ملامح جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، تقول عائشة : مَنْ أحبّ
أن ينظر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلينظر إلى هذا الغلام , يعني الحسن (عليه السّلام)- الفتوح ٢ / ٣٤٠ .
ويقول أنس بن مالك : لم يكن أحد أشبه بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من الحسن بن علي- فضائل الأصحاب / ١٢٦ ، حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٦٦ .
لقد كان الإمام الحسن (عليه السّلام) صورة مشرقة عن جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لا في ملامحه وصورته فحسب ، وإنّما كان يحكيه في نزعاته وصفاته , ومعالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين .
مظاهر شخصيّته
ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن بعض مظاهر شخصية الإمام الحسن (عليه السّلام) ، وهي :
الحلم : من ذاتيات الإمام السبط ( الحلم ) ، فقد كان من أحلم الناس ، وقد تعرّض لموجات عاتية من الإساءة من الاُسرة الاُمويّة التي اُترعت نفوسها بالحقد والكراهية لآل النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فما قابل الإمام أحداً بإساءة , وإنّما كظم غيظه .
وقد شهد مروان بن الحكم وهو من أخبث الناس وأشدّهم عداوة للإمام الحسن (عليه السّلام) بعظيم حلمه ، فقد أسرع بعد وفاته إلى حمل جثمانه ، فقيل له : أتحمل جثمانه وكنت تجرّعه الغصص ؟! فأجاب : إنّي أحمل جثمان مَنْ كان يوازي حلمه الجبال .
لقد كان الحلم من أبرز عناصره النفسيّة ، وقد أجمع الرواة على أنّه كان من أوسع الناس صدراً ، وأنّه ما جازى مَنْ أذنب في حقّه ، وإنّما قابله بالبرّ والإحسان ؛ شأنه في ذلك [شأن] جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي وسع الناس جميعاً بمعالي أخلاقه .
الجود : وكان الإمام السبط من أندى الناس كفاً ، ومن أكثرهم برّاً وإحساناً للفقراء ، وكان لا يرى للمال قيمة سوى ما يرد به جوع جائع أو يكسو عريانَ .
وقد حفلت مصادر التأريخ والتراجم بذكر بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد لُقّب (عليه السّلام)
بـ (كريم أهل البيت) ، وهم من معادن الكرم والجود .
سمو الأخلاق : ومن عناصر الإمام الحسن (عليه السّلام) سمو الأخلاق ، فكان آية من آيات الله العظام في هذه الظاهرة الفذة .
ومن معالي أخلاقه أنّه كان يوقّر ويحترم كلّ مَنْ قصده , ولا يُفرّق بين القريب والبعيد ، وكان يواسي الناس في مصائبهم , ويشاركهم في مسرّاتهم ، ويوقّر الكبير , ويحنو على الصغير ، ويعطف على الضعيف ، وكان للمسلمين أباً رؤوفاً ، وكهفاً حصيناً ، يلجأ إليه غارمهم ، ويفزع إليهم مظلومهم .
وقد شابه جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في سموّ أخلاقه التي مدحه الله تعالى بها ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم ٤ ) .
هذه بعض صفات الإمام الحسن (عليه السّلام) ، وقد ألمحنا إلى الكثير منها في كتابنا (حياة الإمام الحسن) .
مع السيدة زينب (عليها السّلام)
نشأت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) مع أخيها الإمام الحسن (عليه السّلام) , وقطعت شوطاً من حياتها مع هذا الإمام العظيم ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة ، وتطبّعت بأخلاقه وآدابه ، وكان يجلّها كثيراً ، ويحدب عليها ويقابلها بمزيد من الرعاية والعناية ؛ فقد رأى جدّه وأبويه قد أحاطوها بكلّ تبجيل واحترام ، وأشادوا بمواهبها وفضائلها ، وقدّموها على بقيّة السيّدات من نساء أهلها وقومها .
هذه لمحة موجزة عن علاقة الإمام الحسن بشقيقته السيدة زينب (عليها السّلام) .
٢ ـ الإمام الحسين (عليه السّلام)
أمّا الإمام الحسين فهو الشقيق الثاني لسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) ، وقد نشأت معه وتطبّعت بطباعه ، وكانت بينهما أعمق المودّة ، وهو عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تشاركه في آماله وآلامه ، وهي من أبرّ أهله به ، وقد احتلت عواطفه
ومشاعره ؛ وذلك بما تملكه من أصالة الرأي ، وسمو الآداب ، ومعالي الأخلاق ؛ فقد تجسّدت فيها مواريث النبوّة والإمامة ، وكانت صورة صادقة لاُمّها بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وسيّدة نساء العالمين السيدة الزكية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) .
لقد كانت سيدة النساء زينب (عليها السّلام) موضع أسرار أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) , والعالمة بجميع شؤونه ، وكان يستشيرها في جميع اُموره . وقد رافقته في ثورته الخالدة وأمدّتها بعناصر البقاء والخلود ، ولولا جهادها وجهودها ومواقفها المشرّفة في أروقة بلاط الحكم الاُموي لضاعت ثورة أخيها وذهبت أدراج الرياح .
وبلغ من سموّ مكانتها عند الحسين (عليه السّلام) أنّه لمّا ودّعها الوداع الأخير يوم الطفّ طلب منها أن لا تنساه من الدعاء في نافلة الليل – زينب الكبرى / ٦٠ .
٣ ـ العباس (عليه السّلام)
هو (قمر بني هاشم) ، وفخر الإسلام ، ومجد المسلمين ، وهو أخو سيّدة النساء زينب لأبيها ، واُمّه : اُمّ البنين ، وهي من سيّدات نساء المسلمين في فضلها وشرفها وطهارتها ، تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد وفاة الصدّيقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) .
وقد قامت بدور إيجابي في خدمة السبطين وشقيقتهما السيّدة زينب ؛ فكانت تقدّمهم في الرعاية والعطف على أبنائها ؛ لأنّهم ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي ألزم الله المسلمين بمودّتهم ومحبّتهم .
وكان أوّل مولود لها أبو الفضل العباس (عليه السّلام) ، وقد ترعرع ونشأ مع أخويه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهما السّلام) , فغذّياه بالفضائل والآداب ، وغرسا في نفسه تقوى الله ، فكان من أروع أمثلة الإيمان .
وكانت علاقته مع أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) وثيقة للغاية ؛ فكان منذ نعومه أظفاره يتسابق لخدمته ، ويبادر لقضاء حوائجه ، ولا يُفارقه في حلّه وترحاله ، وكان من أشفق الناس عليه وأبرّهم به .
وكان العباس (عليه السّلام) من أحبّ الناس لاُخته العقيلة زينب (عليها السّلام) ؛ فقد وجدت فيه من الرعاية والبرّ والعطف ما لم تجده في السادة من إخوتها لأبيها ؛ فقد كان ملازماً لخدمتها كما كان ملازماً لخدمة أخيه الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وقد قدّم لها جميع ألوان البرّ والإحسان .
ولمّا ارتحلت مع أخيها أبي الشهداء من المدينة إلى مكة ثمّ إلى كربلاء كان العباس (عليه السّلام) هو الذي يقوم بخدمتها , ولم يدع أحداً من السادة العلويِّين أن يتولّى رعايتها سواه . ولمّا استشهد (سلام الله عليه) في كربلاء ذابت نفسها عليه أسىً وحسرات ، وودّت أنّ المنية قد وافتها قبله ، وشعرت بالوحدة والضياع من بعده .
٤ ـ محمّد بن الحنفيّة
ومحمد ابن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) هو المعروف بـ (ابن الحنفيّة) واسم اُمّه خولة بنت جعفر بن حنفيّة ، ولد في خلافة أبي بكر ، وقيل : في خلافة عمر . يُكنّى أبا القاسم . روى عن أبيه وعن جماعة من الصحابة ، وذهب فريق من المسلمين إلى إمامته , كان منهم كثير عزّة ، وله فيه أشعار . وقال بإمامته السيد الحميري , إلاّ أنه عدل عنه وقال بإمامة الإمام الصادق (عليه السّلام) . توفّي سنة ٧٣ هـ ، وقيل : سنة ثمانين ، وقيل غير ذلك . تهذيب التهذيب ٩ / ٣٥٤ .
وكان من أفذاذ العلويِّين ومن ساداتهم ، وكان يجلّ ويعظّم السيدة زينب (عليها السّلام) ؛ لأنّها حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) , و [ابنة] سيّدة نساء العالمين , كما كانت تُكنّ له أعظم الودّ والإخلاص .
وكان محمّد من المعارضين لابن الزبير والناقمين عليه ، ولا يراه أهلاً لقيادة الاُمّة , فامتنع عن بيعته ، وتبعه على ذلك بقيّة الهاشميّين ، فأمر بحبسهم في (قبة زمزم) , وضرب لهم أجلاً مسمّى فإن لم يبايعوه فيه وإلاّ أحرقهم بالنار . ودلّ ذلك على تجرّده من كلّ نزعة إسلاميّة وإنسانيّة ، وقد شابه بذلك قرينه يزيد بن معاوية , ولو تمّ له الأمر لزاد على جرائمه .
وأرسل محمّد رسالة إلى المجاهد العظيم بطل الإسلام المختار الثقفي عرّفه فيها بما جرى عليه من ابن الزبير ، وكتب في آخرها : يا أهل الكوفة ، لا تخذلونا كما خذلتم حسيناً .
ولمّا انتهت إليه أجهش بالبكاء وقرأها على أهل الكوفة وخاطبهم قائلاً : هذا كتاب مهديّكم وسيّد أهل بيت نبيّكم ، وقد تركهم الرسول ينتظرون القتل والحريق . وأخذ يتهدّد ابن الزبير قائلاً : لستُ أبا إسحاق إن لم أنصرهم ، وأسرب الخيل إثر الخيل كالسيل حتّى يحلّ بابن الكاهلية الويل .
وجهّز جيشاً قوامه ألف فارس بقيادة عبد الله الجدلي , ثمّ أتبعه بثلاثة آلاف فارس ، وأخذوا يجدّون السير حتّى انتهوا إلى (مكة) وهم ينادون : ( يا لثارات الحسين ) .
وهجموا على (قبة زمزم) , فرأوا الحطب قد وضع عليها , ولم يبق من الأجل الذي حدّده الطاغية لإحراقهم سوى يومين , فأخرجوهم من القبّة وطلبوا من محمّد أن يناجزوا ابن الزبير الحرب , فأعرب له محمّد عن سموّ ذاته وطهارة نفسه قائلاً : لا أستحلّ القتال في حرم الله .
ويقول كثير عزّة ـ وهو من الكيسانيّة ـ يخاطب ابن الزبير :
يـخبّرُ مَـنْ لاقـيت أنّـك عـائذٌ بـل العائذُ المظلومُ في حبسِ عارمِ ومَنْ يرَ هذا الشيخَ في الخيفِ من منى مـن الـناسِ يـعلم أنّه غيرُ ظالمِ سـمـيُّ نـبي اللهِ وابـنُ وصـيِّهِ وفـكّاكُ أغـلالٍ وأقـضى المغارمِ
وتعتقد الكيسانيّة إمامته , وأنّه مقيم بجبل (رضوى) . [و] إلى هذا أشار كثير عزّة بقوله :
وسبط لا يذوق الموتَ حتّى يـقود الخيلَ يقدمها اللواءُ تـغيّب لا يُرى فيهم زماناً برضوى عندهُ عسلٌ وماءُ
توفي سنة (٨١ هـ) , وقيل غير ذلك – وفيات الأعيان ٣ / ١١٠ ـ ١١٣ ، طبقات ابن سعد ، حلية الأولياء ، الأعلام ـ الزركلي . وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض أشقّاء العقيلة .
ولادتها ونشأتها و نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله :
حينما علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه المولودة المباركة سارع إلى بيت بضعته ، وهو خائر القوى حزين النفس فأخذها ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وضمّها إلى صدره وجعل يوسعها تقبيلاً ، وبهرت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) من بكاء أبيها ،فانبرت قائلةً : (( ما يبكيك يا أبتي , لا أبكى الله لك عيناً ؟ )) . فأجابها بصوت خافت حزين النبرات : (( يا فاطمة ، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا )) – الطراز المذهّب / ٣٨ .
لقد تنبأ النبي (صلّى الله عليه وآله) لها بإذن الله ما سيجري على حفيدته من أقدار الله تعالى فيها و الرزايا القاصمة التي ستحط عليها من جراء حرب القرشيين و الأمويين على أهل بيت النبي (ع) وهى نفس نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله حينما ولد الحسين عليه السلام أيضاً فقد نبأ السيدة فاطمة عليها السلام بما سيجري عليه من أحدث ووبين قاتله بصفاته ونعته وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله مع كل أهل بيت النبوة ينبئ كلاً بما سيجري عليه وهنا أيضاً نبأ رسول الله صلى الله عليه وآله أن السيدة زينب عليها السلام ستمتحن بما لم تمتحن به أيّ سيّدة من بنات حواء من جراء حرب البيت الأموي لكل أهل بيت النبوة عليهم السلام .ولم لا وقد نبأهم جميعاً قائلاً : ( إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي تَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا ، حَتَّى تَأَتِيَ رَايَاتٌ سُودٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَسْأَلُونَ الْحَقَّ فَلا يُعْطَوْنَهُ ، فَيُقَاتِلُونَ فَيَظْهَرُونَ فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا فَلا يَقْبَلُونَ حَتَّى يَدْفَعُونَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا وَعَدْلا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ إبن ماجة – الفتن – خروج المهدي – رقم الحديث 4072 )
وقال فيهم ايضاً ( أنتم المستضعفون بعدي – رواه أحمد 6 | 339 ، ومجمع الزوائد 9 | 34 وقال الفخر الرازي في تفسيره 25 | 35)
ومن الطبيعي أنّ بضعته وباب مدينة علمه قد شاركا النبي في آلامه وأحزانه ، وأقبل سلمان الفارسي الصديق الحميم للاُسرة النبويّة يُهنئ الإمام أمير المؤمنين بوليدته المباركة , فألفاه حزيناً واجماً ، وهو يتحدّث عمّا تعانيه ابنته من المآسي والخطوب – بطلة كربلاء / ٢١ .
[ ولدت السيدة زينب في حياة جدها النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) وآله في العام الذي شهد استقرار الأمر للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه وخروجه على ناقته القصواء ثم العودة ظافرا بصلح الحديبية مع قريش فكان فتحا مبينا.وضعتها والدتها السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة بنت خير البشر وابنة خديجة الكبرى في سنة خمس هجرية بعد الامام الحسين رضي الله عنه بسنتين مثله في شهر شعبان ويقال في جمادى الأولى. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) مسافرا فلم يسموها حتى يأتي جدها (صلى الله عليه وسلم) وآله فطلب علي رضي الله عنه من النبي تسميتها فسماها زينب على اسم خالتها إحياء لذكراها التي لم ينسها (صلى الله عليه وسلم) وآله.وزينب بمعنى الفتاة القوية الودود العاقلة والزينب شجر جميل له بهاء سميت به النساء ولها كنيات كثيرة منها: أم هاشم، كنيت بأم هاشم لأنها حملت لواء راية الهاشميين بعد أخيها الامام الحسين. ويقال لأنها كانت كريمة سخية كجدها هاشم الذي كان يطعم الحجاج فكانت مثله تطعم المساكين والضعفاء، ودارها كانت مأوى لكل محتاج. وصاحبة الشورى: لقبت بهذا الاسم لأن كثيرا ماكان يرجع اليها أبوها وأخواتها في الرأي.
- وقال عنها ابن أخيها علي بن الحسين رضي الله عنه: أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة وهو يقصد بذلك أن علمها هو مما منح وفتح به على رجالات بيتها الرفيع وأفيض عليها الهاماً.
وقال عنها الامام الحسين رضي الله عنه: أنعم بك يا طاهرة حقاً إنك من شجرة النبوة المباركة ومن معدن الرسالة الكريمة.
وحملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام فأخذها وجعل يقبّلها ، والتفتت إليه فقالت له : (( سمّ هذه المولودة )) .
فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع : (( ما كنت لأسبق رسول الله )) .
وعرض الإمام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يسمّيها ، فقال : (( ما كنت لأسبق ربّي )) .
وهبط رسول السماء على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : سمّ هذه المولودة (زينب) ؛ فقد اختار الله لها هذا الاسم . وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث , فأغرق هو وأهل البيت في البكاء – زينب الكبرى / ١٦- ١٧ .
ألقابها (ع)
ولقبت أيضا .
عقيلة بني هاشم: ولم توصف سيدة في جيلها أو غيره أو في آل البيت بهذا الا السيدة زينب رضي الله عنها.أما لقب الطاهرة: فقد أطلقه عليها الإمام الحسن أخوها عندما قال لها أنعم بك يا طاهرة حقا إنك من شجرة النبوة المباركة ومن معدن الرسالة الكريمة عندما شرحت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وآله الحلال بين والحرام بين.سميت كذلك
أم العزائم: فكانت تكنى عند أهل العزم بأم العزائم وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
أم العواجز: كنيت بهذه الكنية عندما شرفت مصر بقدومها وساعدت العجزة والمساكين.
رئيسة الديوان: لأنها عندما قدمت مصر كان الوالي وحاشيته يأتون اليها وتعقد لهم بدارها جلسات للعلم فيتفهموا الأمور الدينية في ديوانها وهي رئيسته.
السيدة: وهذا اللقب اذا اطلق بدون اسم زينب يعرف ان المقصود به السيدة زينب رضي الله عنها دونها عن أخريات من آل البيت فهي الوحيدة المتفردة من آل البيت بهذا اللقب، فإذا ذكرت أي سيدة أخرى لابد من أن يذكر معها اسمها كالسيدة نفيسة السيدة عائشة السيدة فاطمة النبوية ممن دفن وشرف تراب مصر بهن. أما إذا أطلق لفظ السيدة فقط فهي ولاشك سيدتنا زينب حفيدة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).نشأت السيدة زينب رضي الله عنها في كنف النبوة والرسالة في تلك البقعة المباركة مع أبويها فاطمة الزهراء والامام علي رضي الله عنهما في عهد جدها صلوات الله عليه وسلامه فنهلت من علمه وحكمته وفقهه في الدين فحفظت القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وتلقت عن والدتها الزهراء الدروس الأولى في الحياة ونبهت فوجدت أباها الفارس أمير البيان كلماته حكما، وعالما بأمور الدين وأخويها الحسن والحسين رضي الله عنهما سيدي شباب أهل الجنة والصحابة الكرام من حولها حفظة القرآن والحديث المتفقهين في أمور الدين فنشأت الصبية الحلوة كاملة الخلق والخلق في بيئة دينية وبالتالي تربية دينية فنشأتها الأولى لم تفز بها من مثلها في جيلها ولاغيره، فالانسان كما هو ابن أبيه وأمه وأهله هو ابن بيئته وجيرانه وحيه وأصحابه الذين عاشرهم، قل لي من صديقك أقل لك من أنت؟ ويكفيها كرمها وشجاعتها عند وفاة جدها المصطفى ووفاة أمها الزهراء واستشهاد أبيها ثم حضورها كربلاء واستشهاد أخيها الحسين وولديها وحملها إلى يزيد وكأنها أسيرة. ….- جريدة الخليج- الإمارات 22-10-2005/ ]
أمّا ألقابها فإنّهم تنّم عن صفاتها الكريمة ، ونزعاتها الشريفة , وهي :
العالمة :
وحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من السيدات العالمات في الاُسرة النبويّة ، فكانت ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ مرجعاً للسيّدات من نساء المسلمين ، يرجعنَ إليها في شؤونهنَّ الدينية .
عابدة آل علي :
وكانت زينب من عابدات نساء المسلمين ، فلم تترك نافلة من النوافل
الإسلاميّة إلاّ أتت بها .
ويقول بعض الرواة : إنّها صلّت النوافل في أقسى ليلة وأمرّها وهي ليلة الحادي عشر من المحرّم .
الكاملة :
وهي أكمل امرأة في الإسلام في فضلها وعفّتها , وطهارتها من الرجس والزيغ .
الفاضلة :
وهي من أفضل نساء المسلمين في جهادها وخدمتها للإسلام , وبلائها في سبيل الله .
هذه بعض ألقابها التي تدلّل على سموّ ذاتها وعظيم شأنها .
نشأتها :
نشأت الصدّيقة الطاهرة زينب (عليها السّلام) في بيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد
غذّتها اُمّها سيّدة نساء العالمين بالعفّة والكرامة ومحاسن الأخلاق والآداب ، وحفّظتها القرآن ، وعلّمتها أحكام الإسلام ، وأفرغت عليها أشعة من مُثُلها وقيمها حتّى صارت صورة صادقة عنها .
لقد قطعت شوطاً من طفولتها في بيت الشرف والكرامة والرحمة والمودّة ، فقد شاهدت أباها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشارك أمّها زهراء الرسول في شؤون البيت ، ويعينها في مهامه ، ولم تتردّد في أجواء البيت أيّة كلمة من مرّ القول وهجره .
وشاهدت جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) يغدق عليهم بفيض من تكريمه وتبجيله , وعطفه وحنانه ، كما شاهدت الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، والقضاء على خصومه القرشيّين وأتباعهم من عبدة الأوثان والأصنام ؛ فقد ساد الإسلام ، وارتفعت كلمة الله عاليةً في الأرض ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً .
لقد ظفرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأروع وأسمى ألوان التربية الإسلاميّة ؛ فقد شاهدت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) يعظّم أخاه الإمام الحسن (عليه السّلام) ويبجّله ، فلم يتكلّم بكلمة قاسية معه ، ولم يرفع صوته عليه , ولم يجلس إلى جانبه .
وشاهدت إخوتها من أبيها وهم يعظّمون أخويها الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، ويقدّمون لهما آيات التكريم والتبجيل ، وكانت هي بالذّات موضع احترام إخوتها ، فكانت إذا زارت أخاها الإمام الحسين (عليه السّلام) قام لها إجلالاً وإكباراً , وأجلسها في مكانه .
وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة قبر جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خرج معها أبوها الإمام أمير المؤمنين , وأخوها الحسنان ، ويبادر الإمام أمير المؤمنين إلى إخماد ضوء القناديل التي على المرقد المعظّم ، فسأله الإمام الحسن (عليه السّلام) عن ذلك ، فقال له : (( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك الحوراء )) – زينب الكبرى / ٢٢
لقد اُحيطت عقيلة بني هاشم بهالة من التعظيم والتبجيل من أبيها وإخوتها ؛ فهي حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ووريثة مُثُله وقيمه وآدابه ، كما كانت لها المكانة الرفيعة عند العلماء والرواة ، فكانوا إذا رووا حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أيام الحكم الاُموي يقولون : روى أبو زينب ، ولم يقولوا : روى أبو الحسنين ؛ وذلك إشادة بفضلها وعظيم منزلتها و لا يخفى ما في هذا الرأي والتحليل من مسامحة ؛ ذلك أنّ الرواة حينما يطلقون كنية (أبو زينب) بدلاً من (أبو الحسَنين) هو تمويهاً منهم أمام السلطة الاُمويّة الحاكمة التي منعت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) , وتوعّدت بمعاقبة الراوي بأقسى العقوبات وأشدّها إذا ما علمت أنّه يروي عنه (عليه السّلام) .- راجع كتاب الإرشاد للشيخ المفيد ١ / ٣١٠ , أمالي المرتضى ١ / ١١٢ وغيرهما من اُمّهات المصادر المعتبرة . (موقع معهد الإمامين الحسنين) .
قدرتها العلميّة
كانت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في فجر الصبا آيةً في ذكائها وعبقرياتها ؛ فقد حفظت القرآن الكريم ، كما حفظت أحاديث جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيما يتعلّق بأحكام الدين وقواعد التربية واُصول الأخلاق ، وقد حفظت الخطاب التأريخي الخالد الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في (الجامع النبوي) احتجاجاً على أبي بكر لتقمّصه للخلافة ، ومصادرته لـ (فدك) التي أنحلها إيّاها أبوها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وقد روت خطبة اُمّها التي ألقتها على السيّدات من نساء المسلمين حينما عُدنها في مرضها الذي توفّيت فيه ، كما روت عنها كوكبة من الأحاديث .
قد بُهر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من شدّة ذكائها ، فقد قالت له : أتحبّنا يا أبتاه ؟ فأسرع الإمام قائلاً : (( وكيف لا اُحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي ؟! )) . فأجابته بأدب واحترام : يا أبتاه ، إنّ الحبّ لله تعالى ، والشفقة لنا – زينب الكبرى / ٣٥ .
وعجب الإمام (عليه السّلام) من فطنتها ، فقد أجابته جواب العالم المنيب إلى الله تعالى .
وكان من فضلها واعتصامها بالله تعالى أنّها قالت : مَنْ أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده ؛ ألم تسمع إلى قوله : سمع الله لمَنْ حمده ؟ فخف الله لقدرته عليك ، واستحِ منه لقربه منك – أعيان الشيعة ٧ / ١٤٠ .
وممّا يدلّ على مزيد فضلها أنّها كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه , فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيّة ؛ ونظراً لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يروي عنها ، وكذلك كان يروي عنها عبد الله بن جعفر ، والسيّدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) .
ولمّا كانت في الكوفة في أيام أبيها كان لها مجلس خاص تزدحم عليها السيّدات , فكانت تلقي عليهنَّ محاضرات في تفسير القرآن الكريم ، كما كانت المرجع الأعلى للسيّدات من نساء المسلمين ، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدين وتعاليمه وآدابه .
ويكفي للتدليل على فضلها أنّ ابن عباس حبر الاُمّة كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها ، كما روى عنها كوكبة من الأخبار ، وكان يعتزّ بالرواية عنها ، ويقول : حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت علي .
وقد روى عنها الخطاب التأريخي الذي ألقته اُمّها سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) في جامع أبيها (صلّى الله عليه وآله) .
وقد نابت عن ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في أيام مرضه ، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيّة ، وقد قال (عليه السّلام) في حقها : (( إنّها عالمة غير معلّمة )) .
وكانت ألمع خطيبة في الإسلام ؛ فقد هزّت العواطف ، وقلبت الرأي العام وجنّدته للثورة على الحكم الاُموي ، وذلك في خطبها التأريخية الخالدة التي ألقتها في الكوفة ودمشق ، وهي تدلّل على مدى ثرواتها الثقافية والأدبية .
لقد نشأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في بيت الوحي ومركز العلم والفضل ، فنهلت من نمير علوم جدّها وأبيها وأخويها ، فكانت من أجلّ العالمات ، ومن أكثرهنَّ إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين .
ازدهرت حياة الاُسرة النبويّة بالسبطين الكريمين الإمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام) ، فكانا كالقمرين في ذلك البيت الكريم الذي أذن الله أن يرفع ويُذكر فيه اسمه . وقد استوعبا قلب جدّهما الرسول (صلّى الله عليه وآله) مودّةً ورحمةً وحناناً ، فكان يرعاهما برعايته ، ويغدق عليهما بإحسانه , ويفيض عليهما من مكرمات نفسه التي استوعب شذاها جميع آفاق الوجود .
لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يكنّ في دخائل نفسه أعمق الودّ لسبطيه ، فكان يقول : (( هما ريحانتي من الدنيا )) – كنز العمّال ٧ / ١١٠ ، صحيح البخاري ـ كتاب الأدب ، مجمع الزوائد ٩ / ١٨١ . تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٣٩ .
وبلغ من عظيم حبّه لهما أنّه كان على المنبر يخطب ، فأقبل الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران , فنزل عن المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه , وقال : (( صدق الله إذ يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) سورة الأنفال / ٢٨ .
لقد نظرت إلى هذين الصبيِّين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما )) – صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٦ ، مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٥٤ ، اُسد الغابة ٢ / ١٢ ، صحيح النسائي ١ / ٢٠١ ، سنن البيهقي ٣ / ٢١٨
وكان يقول لسيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) : (( ادعي ابنيَّ )) . فيشمّهما ، ويضمّهما إليه – تيسير الوصول ـ ابن الدبيغ ٣ / ٢٧٦ .
وفي تلك الفترة السعيدة التي عاشتها الاُسرة النبويّة وهي مترعة بالولاء والعطف من الرسول (صلّى الله عليه وآله) عَرَضَ للصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة (عليها السّلام) حملٌ ، فأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) ينتظره بفارغ الصبر ليبارك به لحبيبته فاطمة ، ولباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) . أمّا ذلك الحمل فهو :
اقترانها بابن عمّها
ولمّا تقدّمت سيّدة النساء زينب في السن , انبرى الأشراف والوجوه إلى خطبتها والتشرّف بالاقتران بها ، فامتنع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) من إجابتهم ، وتقدّم لخطبتها فتىً من أنبل فتيان بني هاشم وأحبّهم إلى الإمام وأقربهم إليه ، وهو ابن أخيه (عبد الله بن جعفر) , من أعلام النبلاء والكرماء في دنيا العرب والإسلام ، فأجابه الإمام إلى ذلك ورحّب به .
ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض شؤونه :
أبوه جعفر
أمّا جعفر فقد كان ـ فيما يقول الرواة ـ من أشبه الناس خلقاً وخُلقاً بالنبي (صلّى الله عليه وآله) . – الاستيعاب ١ / ٢٤٢ ، وجاء فيه : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال له : (( أشبهت خَلقي وخُلُقي يا جعفر )) .يقول فيه أبو هريرة : ما احتذى النعال , ولا ركب المطايا ، ولا وطئ التراب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من جعفر بن أبي طالب – . الاستيعاب ١ / ٢٤٣ .
وهو من السابقين للإسلام , وقد رآه أبوه أبو طالب يُصلّي مع أخيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خلف النبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال له : صل جناح ابن عمّك ، وصلِّ عن يساره . وكان علي يصلّي عن يمينهة .- اُسد الغابة ١ / ٢٨٧ .وله هجرتان ؛ هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة . – اُسد الغابة ١ / ٢٨٧
وكان من أبرّ الناس بالفقراء والضعفاء ، وقد برّ بأبي هريرة وأحسن إليه أيام بؤسه وفقره ، وقد تحدّث عن ذلك ، قال : كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع ، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني .
وكان أبرّ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب ؛ كان ينقلب فيطعمنا ما كان في بيته , حتّى كان ليخرج
إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقّها فنلعق ما فيها . – المصدر السابق .
وقدم إلى المدينة من هجرته إلى الحبشة , فاستبشر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفرح ؛ فقد صادف قدومه فتح خيبر ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً ؛ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر ؟ )) . – الاستيعاب ١ / ٢٤٢ ، كان قدوم جعفر إلى يثرب في السنة السابعة من الهجرة .
واختطّ له النبي (صلّى الله عليه وآله) داراً إلى جنب المسجد ، وكان أثيراً عنده ؛ لا لأنّه ابن عمّه فحسب ، وإنّما لإيمانه الوثيق وتفانيه في نشر كلمة الإسلام ، وإشاعة مبادئه وأحكامه . بعثه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جيش إلى مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة فاستشهد فيها .
ويقول الرواة : إنّ اللواء كان بيده اليمنى , فقطعت , فرفعه بيده اليسرى ، فلمّا قطعت رفعه بيديه ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( وإنّ الله عزّ وجلّ أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء )) – الاستيعاب ١ / ٢٤٢ .
؛ ولهذا لقّب بـ (ذي الجناحين) , وبـ (الطيار) . وحزن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جعفر , فقصد داره ليواسي زوجته وأبناءه بمصابهم الأليم ، فقال لزوجته أسماء : (( ائتيني ببني جعفر )) . فأتته بهم ، فجعل يوسعهم تقبيلاً ودموعه تتبلور على سحنات وجهه الكريم ، وفهمت أسماء نبأ شهادة زوجها , فقالت له : يا رسول الله ، أبَلَغك عن جعفر وأصحابه شيء . فأجابها بنبراتٍ تقطر أسىً وحزناً قائلاً : (( نعم ، اُصيب هذا اليوم )) .
وأخذت أسماء تنوح على زوجها ، وأقبلت السيّدات من نساء المسلمين يعزينها بمصابها الأليم ، وأمر النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يُصنع طعام لآل جعفر – المصدر السابق .
وأقبلت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) على أسماء تعزّيها وهي باكية العين ، وقد رفعت صوتها قائلة :(( وا عمّاه ! )) . وطفق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( على مثل جعفر فلتبك البواكي )). – المصدر السابق .
لقد كانت شهادة جعفر من أقسى النكبات على النبي (صلّى الله عليه وآله) ؛ فقد فَقَدَ بشهادته أعزّ أبناء عمومته وأخلصهم إليه .
الاُمّ الفاضلة أسماء بنت عميس ( رضى الله عنها وأرضاها)
أمّا اُمّ عبد الله فهي السيّدة الشريفة أسماء بنت عميس ، وهي من السابقات إلى اعتناق الإسلام ، هاجرت مع زوجها الشهيد الخالد جعفر الطيار إلى الحبشة ، وقد ولدت فيها عبد الله وعوناً ومحمداً ، ثمّ هاجرت إلى المدينة . ولمّا استشهد جعفر تزوّجها أبو بكر فولدت له محمداً ، وهو من أعلام الإسلام ، ثمّ توفي أبو بكر فتزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فولدت له يحيى .- المصدر السابق ٥ / ٣٩٥ .
وقد أخلصت لأهل البيت (عليهم السّلام) فكانت من حزبهم ، ولها علاقة وثيقة مع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) ؛ فقد قامت بخدمتها ، وقد عهدت إليها في مرضها أن لا تدخل عليها عائشة بنت أبي بكر ، فجاءت عائشة عائدة لها فمنعتها أسماء ، فاغتاظت وشكتها إلى أبي بكر , فعاتبها ، فأخبرته بعدم رضاء الزهراء في زيارتها . – حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٧١ .
لقد كانت أسماء من خيرة نساء المسلمين في عفّتها وطهارتها وولائها لأهل بيت النبوّة ، كما كانت من الراويات للحديث ، ويقول المؤرّخون : إنّها روت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ستّين حديثاً .
وعلى أيّ حال ، فإنّ أسماء حينما تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قامت بخدمة الحسنين واُختهما زينب (عليها السّلام) ، وصارت لهم اُمّاً رؤوماً ، ترعاهم كما ترعى أبناءها ؛ لأنّهم البقية الباقية من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أخلصوا لها كأعظم ما يكون الإخلاص , وشكروا لها رعايتها وعطفها .
عبد الله
ونعود للحديث عن عبد الله بن جعفر ، فقد كان فذّاً من أفذاذ الإسلام وسيّداً من سادات بني هاشم ، يقول فيه معاوية : هو أهلٌ لكلّ شرفٍ ، والله ما سبقه أحدٌ إلى شرف إلاّ وسبقه .- تهذيب التهذيب ٥ / ١٧١ .
وكان يُسمّى (بحر الجود) ،- اُسد الغابة ٣ / ١٣٤ .
ويُقال : لم يكن في الإسلام أسخى منه . – الاستيعاب ٣ / ٨٨١ ، ٨٨٢ ، ٢٨٨ .
مدحه نصيب فأجزل له في العطاء ، فقيل له : تُعطي لهذا الأسود مثل هذا ؟! فقال : إن كان أسود فشِعره أبيض ، ولقد استحق بما قال أكثر ممّا نال . وهل أعطيناه إلاّ ما يبلى ، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى !- الاستيعاب ٣ / ٨٨١ ، ٨٨٢ ، ٢٨٨ .
وعوتب على كثرة برّه وإحسانه إلى الناس ، فقال : إنّ الله عوّدني عادة ، وعوّدت الناس عادة ، فأخاف إن قطعتها قُطعت عني . – الاستيعاب ٣ / ٨٨١ ، ٨٨٢ ، ٢٨٨ .
وأنشد :
لستُ أخشى قلّةَ العدمِ ما اتّقيتُ اللهَ في كرمي كـلّما أنـفقتُ يـخلفهُ ليَ ربُّ واسعُ النعمِ – عمدة الطالب / ٣٧ ـ ٣٨ .
ونقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه وسخائه ، وقد وسع الله عليه لدعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) له , فكان من أثرى أهل المدينة ، ومضافاً إلى سخائه فقد كان من ذوي الفضيلة ؛ فقد روى عن عمّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعن الحسن والحسين (عليهما السّلام) .
أبناء السيدة زينب عليها السلام
رُزق هذا السيد الجليل من سيدة النساء زينب (عليها السّلام) كوكبة من السادة الأجلاء , وهم :
١ ـ عون
وكان من أبرز فتيان بني هاشم في فضله وكماله ، صحب خاله الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما هاجر من يثرب إلى العراق , ولازمه في رحلته ، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم ، اليوم الخالد في دنيا الأحزان ، تقدّم إلى الشهادة بين يدي خاله ، فبرز إلى حومة الحرب وهو يرتجز :
إن تـنكروني فأنا ابنُ جعفرْ شهيدُ صدق في الجنانِ أزهرْ يـطيرُ فـيها بجناحٍ أخضرْ كفى بهذا شرفاً من محشرْ – حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٨ ، نقلاً عن الفتوح .
لقد عرّف نفسه بهذا الرجز ؛ فقد انتسب إلى جدّه الشهيد العظيم جعفر الذي قُطعت يداه في سبيل الإسلام ، ويكفيه بذلك شرفاً وفخراً ، وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة ، فحمل عليه وغد خبيث هو عبد الله الطائي فقتله .- الإرشاد / ٢٦٨ .
ورثاه سليمان بن قتّة بقوله :
وانـدبي إن بـكيتِ عـوناً أخـاهُ لـيـس فـيـما يـنوبهم بـخذولِ
فـلعمري لـقد أصـبتِ ذوي القر بى فبّكي على المصابِ الطويلِ – مقاتل الطالبيّين / ٩١
٢ـ علي الزينبي
٣ ـ محمّد
٤ ـ عباس
٥ ـ السيدة اُمّ كلثوم – زينب الكبرى / ١٢٦ .
وبلغت هذه السيدة [أي اُمّ كلثوم] مبلغ النساء ، وكانت فريدة في جمالها وعفافها واحترامها عند أهلها وعامّة بني هاشم ، وأراد معاوية أن يتقرّب إلى بني هاشم , ويعزّز مكانته في نفوس المسلمين في أن يخطبها لولده يزيد ، فكتب إلى واليه على يثرب مروان بن الحكم كتاباً جاء فيه :
أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أحبّ أن يردّ الإلفة ، ويسلّ السخيمة ، ويصل الرحم ؛ فإذا وصل إليك كتابي فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته اُمّ كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين ، وارغب إليه في الصداق …
وظنّ معاوية أنّ سلطته المزيّفة وما يبذله من الأموال الطائلة تُغري السادة العلويِّين الذين تربّوا على الكرامة والشرف وكلِّ ما يسمو به الإنسان ، ولم يعلم أنّ سلطته وأمواله لا تساوي عندهم قلامة أظفر .
ولمّا انتهى كتاب معاوية إلى مروان خاف جانب الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يعلم أنّه يفسد عليه الأمر ، وسافر الحسين فاغتنم مروان فرصة سفره فبادر مسرعاً إلى عبد الله بن جعفر ، فعرض عليه كتاب معاوية وجعل يحبّذ له الأمر ، ويطالبه بالإسراع فيه ؛ لأنّ في ذلك إصلاحاً لذات البين ، واجتماعاً للكلمة .
ولم يخف عن عبد الله الأمر ، فقال لمروان : إنّ خالها الحسين في ينبع و التي تبعد عن المدينة بسبع مراحل ، فيها عيون ماء عذب غزيرة ، قيل : إنّها لبني الحسن ، وقيل : إنّها حصن به نخيل وزرع ، وبها وقوف الإمام عليّ (عليه السّلام) يتولاّها ولده ، جاء ذلك في معجم البلدان ٥ / ٤٥ .
، وليس لي من سبيل أن أقدم على هذا الأمر من دون أخذ رأيه وموافقته .
ولمّا رجع الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى يثرب خفّ إليه عبد الله بن جعفر مسرعاً , فعرض عليه الأمر وما أجاب به مروان ، فالتاع الإمام الحسين (عليه السّلام) من ذلك ؛ إذ كيف تكون ابنة اُخته عند فاجر بني أُميّة ، حفيد أبي سفيان !
فانطلق الإمام (عليه السّلام) إلى شقيقته زينب (عليها السّلام) وأمرها بإحضار ابنتها اُمّ كلثوم , فلمّا مثلت أمامه قال لها : إن ابن عمّك القاسم بن محمّد بن جعفر أحقّ بك ، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق .
واستجابت الفتاة لرأي خالها ، ورحّبت اُمّها العقيلة بذلك ، ورضي أبوها عبد الله برغبة الإمام الحسين ، وقدّم لها الإمام مهراً كثيراً .
وكتم الإمام الأمر ، فلمّا كانت ليلة الزواج أقام دعوة عامّة دعا فيها جمهرة كبيرة من أبناء المدينة ، وكان من جملة المدعوين مروان ، وقد ظنّ أنّه دُعي لتلبية ما رغب فيه معاوية من زواج السيّدة اُمّ كلثوم بابنه يزيد ، فقام خطيباً فأثنى على معاوية وما قصده من جمع الكلمة وصلة الرحم ، ولمّا أنهى كلامه قام الإمام الحسين (عليه السّلام) فأعلن أنّه زوّج السيّدة اُمّ كلثوم بابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر .
ولمّا سمع مروان تميّز غيظاً وغضباً , وفقد صوابه ، فقد أفشل الإمام رغبته ، فرفع عقيرته قائلاً : أغدراً يا حسين !- زينب عقيلة بني هاشم / ٢٧ .
وخرج مروان يتعثّر بأذياله ، وانتهى الأمر إلى معاوية فحقد على الحسين (عليه السّلام) ، وساءه ذلك ؛ فقد فشلت محاولاته في خداع العلويِّين ، وخداع المسلمين بمصاهرة ولده للاُسرة النبويّة .
من خصال السيدة زينب عليها السلام
- الإيمان الوثيق
وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى ، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل ، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض ، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم .
لقد تغذّت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)بجوهر الإيمان وواقع الإسلام ، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتّى صار ذلك من مقوّماتها وذاتياتها ، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها ، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب ، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة . إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبويّة ومن أبرز خصائصهم .
ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دعائه : (( ما عبدتك طمعاً في جنّتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) ؟ وهو القائل : (( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً )) .
أمّا سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص ، وذاب في محبّته , وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وإخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله ، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال ، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه ، كلّ ذلك في سبيل الله تعالى .
فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجّدين صرعى ، ونظر إلى حرائر النبوّة وعقائل الوحي وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال ، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ؛ ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة . لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة ، قال : (( لك العتبى يا ربّ ، إن كان يرضيك هذا فهذا إلى رضاك قليل )) .
ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه قال : (( هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله )) . – حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٧٦ .
أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له ؟ أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله ؟
وكانت حفيدة الرسول زينب (سلام الله عليها) كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله ؛ فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك وهو جثة هامدة بلا رأس ، فرمقت السماء بطرفها وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيه : اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان . – المصدر السابق / ٣٠٤ .
إنّ الإنسانيّة تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها . لقد تضرّعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فأيّ إيمان يُماثل هذا الإيمان ؟ وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يُضارع هذا التبتّل ؟
لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبويّة ، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي ، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا .
ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله . لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها ، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان .
لقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال ؛ فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين ، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام ، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة , وهنَّ يعجنَ بالبكاء لا يعرفنَ ماذا يجري عليهنَّ من الأسر والذلّ ، إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وهي تؤدّي صلاة الشكر لله تعالى على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها .
تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء ، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه .
- الصبر
من النزعات الفذّة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام ، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا ، فرُزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها ، ويفيض عليها بحنانه وعطفه ، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها واُمّها بعد وفاة جدّها ؛ فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتّى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر ، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلاّ أنّها خلدت إلى الصبر .
وتوالت بعد ذلك عليها المصائب ، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي (عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة حتّى اضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألدّ ، ولم تمض سنين يسيرة حتّى اغتاله بالسمّ ، وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدّة السمّ حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة .
وكان من أقسى ما تجرّعته من المحن والمصاعب يوم الطفّ ؛ فقد رأت شقيقها الإمام الحسين (عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين ، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويِّين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويِّين ، وشاهدت الأطفال الرضّع يُذبحون أمامها .
إنّ أي واحدة من رزايا سيّدة النساء زينب لو ابتُلي بها أيّ إنسان مهما تدرّع بالصبر وقوّة النفس لأوهنت قواه ، واستسلم للضعف النفسي , وما تمكن على مقاومة الأحداث ، ولكنّها (سلام الله عليها) قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم ، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى , وصابرة على بلائه ، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. سورة البقرة ١٥٥- ١٥٧ ).
وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ – الزمر 10) ، وقال تعالى : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ- النحل 96 ) .
لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوّة النفس أمام أعداء الله ، وقاومتهم بصلابة وشموخ ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيّدة مثلها في قوّة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب .
يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها :
لـلهِ صـبرُ زيـنبَ العقيلهْ كـم شـاهدت مصائباً مهولهْ
رأت مِـنَ الخطوبِ والرزايا أمـراً تـهونُ دونـهُ المنايا
رأت كـرامَ قـومِها الأماجد مـجزّرينَ فـي صعيدٍ واحد
تـسفي على جسومِها الرياحُ وهـي لـذؤبانِ الـفلا تُباحُ
رأت رؤوسـاً بـالقنا تُـشالُ وجـثـثاً أكـفانُها الـرمالُ
رأت رضـيعاً بالسهامِ يفطمُ و صـبيةً بـعدَ أبيهم اُيتموا
رأت شـمـاتةَ الـعدو فـيها وصـنعهُ مـا شاءَ في أخيها
وإنّ من أدهى الخطوبِ السودِ وقـوفها بـين يـدي يـزيدِ
وقال السيد حسن البغدادي :
يـا قـلبَ زينبَ ما لاقيتَ من محنٍ فـيكَ الـرزايا وكلّ الصبرِ قد جمعا
لو كانَ ما فيكَ من صبرٍ ومن محنٍ في قلبِ أقوى جبالِ الأرضِ لانصدعا
يـكفيكَ صـبراً قـلوبَ الناسِ كلّهمُ تـفـطّرت لـلذي لاقـيتهُ جـزعا
لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كلّ كائن حي .
- العزّة والكرامة
من أبرز الصفات النفسيّة الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي العزّة والكرامة ؛ فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذّة ، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبيّة , ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة ، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم ، فترفّعت العقيلة أن تطلب من اُولئك الممسوخين ـ من شرطة ابن مرجانة ـ شيئاً من الطعام لهم .
ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة , وعلمنَ النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوّة , سارعنَ إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع ، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلة : الصدقة محرّمة علينا أهل البيت .
ولمّا سمع أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام ، وأخذ بعضهم يقول لبعض : إنّ عمّتنا تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ! إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله .
ولمّا سُيّرت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها ؛ فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من اُولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب .
لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة , والشرف والإباء ، فلم تخضع لأيّ أحدٍ مهما قست الأيام وتلبّدت الظروف ، إنّها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى .
- الشجاعة
ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبويّة الكريمة ؛ فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله ، وهو القائل : (( لو تضافرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها )) .
وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة ، فجندل الأبطال وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر ، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده ، فهو معجزة الإسلام الكبرى ، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين (عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته ؛ فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوّة بأسه .
فقد وقف يوم العاشر من المحرّم موقفاً لم يقفه أيّ أحدٍ من أبطال العالم ؛ فإنّه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر ، فكان يزداد انطلاقاً وبشراً كلّما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً . فإنّه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره ـ وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً ـ فحمل عليهم وحده , وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب ، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب ـ على حدّ تعبير بعض الرواة ـ وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كلّ جانب ، لم يوهن له ركن ولم تضعف له عزيمة .
يقول العلوي السيّد حيدر :
فـتـلـقّى الـجـمـوعَ فـــرداً ولكن كلُّ عضو في الروعِ منهُ جموعُ
رمـحهُ مـن بـنانهِ و كـأنّ مـن عـزمـهِ حــدُّ سـيـفهِ مـطبوعُ
زوّج الـسـيفَ بـالنفوسِ ولـكن مـهرُها الـموت والخضابُ النجيعُ
ولمّا سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه ؛ خوفاً ورعباً منه . يقول السيد حيدر :
عـفيراً متى عاينتهُ الكماة يـختطف الرعبُ ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مثلهِ صـريعاً يـجبّنُ شجعانَها
وتمثّلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيدة زينب (سلام الله عليها) ؛ فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به ، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وكذّب اُحدوثتكم .
فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر ، وهو غيرنا يابن مرجانة … .- تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٣ .
لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح ، وهي والمخدّرات من آل محمّد في قيد الأسر ، وقد رفعت فوق رؤوسهنَّ رؤوس حماتهنَّ ، وشهرت عليهنَّ سيوف الملحدين . لقد أنزلت العقيلة ـ بهذه الكلمات ـ الطاغية من عرشه إلى قبره ، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم ، وأنّ أخاها هو المنتصر .
ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، قائلاً : كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟- زينب الكبرى ٦١ .
وانطلقت عقيلة بني هاشم ببسالة وصمود ، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة : ما رأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصم ، فانظر لمَنْ الفلج يومئذ ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانة !
أرأيتم هذا التبكيت الموجع ؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية ؟ فقد سجّلت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزّاً للمسلمين , ومجداً خالداً للاُسرة النبويّة .
أمّا موقفها في بلاط يزيد ، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي ، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين ، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية .
- الزهد في الدنيا
ومن عناصر سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) الزهد في الدنيا ؛ فقد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها ، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين , زهراء الرسول .
فقد كانت ـ فيما رواه المؤرّخون ـ لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل , وجلد شاة ، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل ، وتطحن بيدها الشعير ، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا . وقد تأثّرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا ، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) . – صحيح الترمذي ٢ / ٣١٩ ، وقريب منه رواه الحاكم في مستدركه ج ٣ ص ١٤٩ ، وابن الأثير في اُسد الغابة ج ٥ص ٥٢٣ ، والخطيب في تأريخ بغداد ج٧ ص٣٦ ، وغيرهم
وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار ؛ فقد علمت أنّه سيستشهد في كربلاء , أخبرها بذلك أبوها ، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة ، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه ، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها ، وما يجري عليها بالذّات من الأسر والذلّ . لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى .
طفولة السيدة زينب في كنف جدها رسول الله صلى الله عليه وآله :
- وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) , وفي ذرى عطفه ، وهي ناعمة البال قريرة العين ، يتلقّاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم ، وترى أبويها وقد غمرتهما المودّة والاُلفة والتعاون ، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام .
وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز ، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه ؛ فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام . كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية ، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوّة ؛ فقد اندحرت وأذلّها الله ؛ فقد فتحت مكة وطُهّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تُعبد من دون الله تعالى .
ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها ؛ فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته .وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها ، وهذه بعضها :
١ ـ روى زيد بن أرقم : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) : (( أنا حربٌ لمَنْ حاربتم ، وسلم لمَنْ سالمتم )) . – مسند أحمد ج ١ ص ٧٧ ، صحيح الترمذي ج2 ص ٣٠١ ، تهذيب التهذيب ج10 ص ٤٣٠ ، وجاء فيه أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد , وجعل يقول له : إنّه من أهل السنّة . فلم يزل يترجّاه حتّى تركه .
٢ ـ روى أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : (( مَنْ أحبّني وأحبّ هذين وأباهما واُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة )) . – الرياض النضرة ٢ / ٢٥٢ .
٣ ـ روى أبو بكر قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة ، وهو متكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : (( معاشر المسلمين ، أنا سلم لمَنْ سالم أهل الخيمة ، وحرب لمَنْ حاربهم ، ووليّ لمَنْ والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ , ردئ الولادة )) .- مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩ ، كنز العمال ٦ / ١١٦ ، الصواعق المحرقة / ١١١ . نصّ الحديث : (( النجوم أمان لأهل الأرض , وأهل بيتي أمان لاُمّتي )) .
٤ ـ روى ابن عباس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس )) – صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨ ، اُسد الغابة ٢ / ١٢ ، وما يقرب من هذا الحديث روي في كنز العمّال ١ / ٤٨ ، مجمع الهيثمي ٩ / ١٦٣ .
٥ ـ روى زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما )) . – مجمع الزوائد ٩ / ١٦٨ ، مستدرك الحاكم ٢ / ٤٣ ، تأريخ بغداد ٢ / ١٩ ، ذخائر العقبى / ٢٠ .
٦ ـ روى أبو سعيد الخدري ، قال : سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ؛ مَن ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق . وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ؛ مَن دخله غفر له )) – . ذخائر العقبى / ٢٤ ، روى أنس بن مالك : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر , ويقول : (( الصلاة يا أهل البيت )) , ويتلو الآية الكريمة . جاء ذلك في مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ ، أنساب الأشراف ١ / ١٥٧ ، القسم الأوّل .
٧ ـ روى أبو برزة ، قال : صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر ، فإذا خرج من بيته ، أتى باب فاطمة (عليها السّلام) ، فقال : (( السلام عليكم ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )) . – الخصائص الكبرى ٢ / ٣٦٨ .
رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها ، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم ، وأنّه ليس مجرّد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة ، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة ، والقابليات الفذّة التي ترشّحهم لقيادة الاُمّة ، وتطويرها فكرياً واجتماعياً .
وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس ، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام ، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
أول مآسي السيدة زينب عليها السلام مشاهدتها موت جدها رسول الله صلى الله عليه وآله :
ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبويّة , فقد دهمتهم كارثة مروّعة ؛ فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه ، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين , فاستشعر بدنوّ الأجل المحتوم منه – تاريخ ابن كثير ٥ / ٢٢٣ .، وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام) ، فقال لها : (( إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وأنّه عارضني بهذا العام مرّتين ، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي )). – مناقب ابن شهرآشوب ١ / ١٦٧ .
وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً ، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع ، وطافت بها وهي في فجر الصبا تيارات من الأسى .
ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر , فكان يسكت بين التكبير والقراءة , ويقول : (( سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه )) .
وذهل المسلمون ، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة ، فأجابهم : (( إنّ نفسي قد نُعيت إليّ )) . – زينب الكبرى ١٩ .
وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع ؛ فقد وقع عليهم كالصاعقة ، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم .
رؤيا العقيلة
ورأت العقيلة في منامها رؤياً أفزعتها وأذهلتها , فأسرعت إلى جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه ، ولمّا مثلت عنده أجلسها في حجره , وجعله يوسعها تقبيلاً ، فقالت له : يا جدّاه ، رأيت رؤياً البارحة . ـ (( قصّيها عليّ )) . ـ رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منها وأظلمت ، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدّة العاصفة ، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض ، فتعلّقت بغصنٍ قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح ، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً ، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعها فكسرته العاصفة أيضاً ، ثمّ استيقظت من نومي .
فأجهش النبي (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء ، وفسّر لها رؤياها قائلاً : (( أمّا الشجرة فجدّك ، وأمّا الفرع الأوّل فاُمّك ، والثاني أبوك عليّ ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان ، تسودّ الدنيا لفقدهم , وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم )) – صحيح الترمذي ٢ / ٣٠٨ .
وساد الحزن والأسى في البيت النبوي ، وصدقت رؤيا العقيلة , فلم تمض أيام حتّى رُزئت بجدّها واُمّها ، وتتابعت عليها بعد ذلك الرزايا ، فقد استشهد أبوها وأخواها ، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد .
حجة الوداع
ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب ، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم ، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحقّ والعدل .
وحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض ، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ (حجّة الوداع) ، وقد أشاع بين حجّاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم ، وأنّه سيسافر إلى الفردوس الأعلى ، وجعل يطوف بين الجماهير ويعرّفهم سبل النجاة ، ويرشدهم إلى ولاة اُمورهم من بعده قائلاً : (( أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم الثقلين ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ))- تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩١ ـ ٩٢ .
ثمّ وقف النبي (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم , وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسيّة ، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة : (( إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا ؛ كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي , ألا هل بلّغت )) .فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين : اللهمّ نعم. – الغدير ٢ / ٣٤ .
لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامّة لاُمّته , وجعلها مختصة بأهل بيته ؛ فهم ورثة علومه ، وخزنة حكمته الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي ، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كلّ شيء .
تننصيب أمير خليفة للمسلمين في غدير خم
وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب , وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن ينصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفةً من بعده ، ومرجعاً عاماً للاُمّة . لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ سورة المائدة / ٦٧ ) . و نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الواحدي في أسباب النزول , والرازي في تفسيره ، وغيرهما .
ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ إذ إنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه ، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين . فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير ، ووضع رحله في رمضاء الهجير ، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك ، وكان الوقت قاسياً في حرارته , فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتّقي به حرارة الأرض ، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس ، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل ، فصُنع له ذلك فاعتلى عليه ، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فخطب خطاباً مهمّاً أعلن فيه ما لاقه من عناء شاق في سبيل هدايتهم ، وتحرير إرادتهم ، وإنقاذهم من خرافات الجاهليّة وعاداتها .
ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثمّ التفت إليهم فقال : (( انظروا كيف تخلفوني في الثقلين )) . فناداه منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟ فأجابه : (( الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا )) .
ثمّ أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين , فرفعها حتّى بان بياض إبطيهما ، ونظر إليهما القوم , ورفع النبي (صلّى الله عليه وآله) صوته قائلاً : (( أيّها الناس ، مَنْ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ )) . فانبرت قوافل الحجّاج رافعة عقيرتها : الله ورسوله أعلم .
ووضع النبي (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً : (( إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه )) .وكرّر هذا القول ثلاث مرّات أو أربع , ثمّ قال : (( اللّهمّ وال مَنْ والاه ، وعاد مَنْ عاداه ، وأحبّ مَنْ أحبّه ، وأبغض مَنْ أبغضه ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار . ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) .
لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه ؛ فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده ، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة ، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة , ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم ، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئنَ الإمام بهذا المنصب العظيم ففعلنَ ، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه ، وقال له : هنيئاً يابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة – مسند أحمد ٤ / ٢٨١ .
وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً – سورة المائدة / ٣ ) . و نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٨ / ٢٩ ، السيوطي في الدر المنثور ، وغيرهما من أعلام أهل السنّة .
قد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد خطا النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته ، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف ؛ فنصب لها القائد والموجّه , ولم يتركها فوضى ـ كما يزعمون ـ تتلاعب بها الفتن والأهواء , وتتقاذفها أمواج من الضلال .
إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلّة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده ؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ .
ولقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها ، وأنّ جدّها قد قلّده بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها ، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم ، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض ، ولكنّ القوم قد سلبو