منذ البدء.. الاستشراق في خدمة الاستعمار

الخليج الجديد :

أفكار إدوارد سعيد تشرح فى ذاتها علاقة الاستشراق بتدنيس المصحف الشريف بالسويد والدنمارك والأحداث العدوانية المماثلة.

منذ الحملة الفرنسية على مصر وصولًا لأحداث سبتمبر 2001، كان أغلب من يدرسون «الشرق والإسلام» بالغرب في خدمة الاستعمار والهيمنة!

الاستشراق عند إدوارد سعيد منظومة فكرية ومعرفية صارت لها نظريات وممارسات على أرض الواقع تعطى الشرعية للانحياز الأيديولوجى.

فى نقده للمستشرقين يرفض سعيد أصلًا الاختزال والتعميم من نوع «الشرق» بالجملة مقابل «الغرب» بالجملة، أو «المسيحية» بالجملة مقابل «الإسلام» بالجملة.

الاستشراق منهج فكري يقوم على «التمييز المعرفى والوجودى» بين الشرق والغرب وهو معني بخطاب عام يخلق «صورة وتصور فكري» للشرق سياسيًا وأيديولوجيًا واجتماعيًا.

لا تُفهم دراسات الغربيين للشرق، بدون السياق الذى أجريت فيه بدءا ببريطانيا وفرنسا زمن استعمارهما «الشرق» قبل أن تلحق بهما أمريكا فسياق تلك المعرفة استعمار وهيمنة.

فرّق سعيد بين «المعرفة التى يسعى لها المرء بهدف الفهم والدراسة والتحليل الدقيق، وبين المعرفة القائمة على التعسف.. وبغرض إثبات الذات وتهنئتها على التفوق على الآخر».

يرفض سعيد اختزال ثقافات وشعوب ما يسمى «الشرق» فى تعميمات، إذ يتم اختراع هوية جماعية لأعداد ضخمة من البشر. ويحذّر من تأثير التصنيفات «القاتل» لأنها تخلق «أساطير تضفى شرعية على الانحياز الفكرى».

* * *

كنت قد تناولت سابقا «الإسلاموفوبيا»، وقدمت للمفكر الراحل إدوارد سعيد الذى يرجع له الفضل فى كشف التلفيق الذى ينطوى عليه الاستشراق.

قدم إدوارد سعيد الجذور والأساس الفكرى الذى قامت عليه «الإسلاموفوبيا» اليوم، ومنحنا الأدوات الفكرية التى يمكن استخدامها فى مواجهتها. وسوف أجتهد فى عرض أطروحة سعيد، وأهم النقاط التى جاءت فى كتابه المهم الذى يقع فى أكثر من أربعمائة صفحة، وهو ما يعنى أننى سأقدم باختصار شديد إسهامه الأهم. وأفكار «سعيد» تشرح فى ذاتها علاقة الاستشراق بتدنيس المصحف الشريف بالسويد والدنمارك والأحداث العدوانية المماثلة.

وللاستشراق عند إدوارد سعيد أكثر من معنى. فهو يستخدم الكلمة ليقصد الغربيين الذين تخصصوا أكاديميًا فى دراسة الشرق. ويقصد بالاستشراق أيضًا منهجًا فكريًا يقوم على «التمييز المعرفى والوجودى» بين «الشرق والغرب». والاستشراق عنده معنىّ أيضًا بالخطاب العام الذى يتم من خلاله خلق «صورة وتصور فكرى» للشرق سياسيًا وأيديولوجيًا واجتماعيًا.

ومن هنا، فالاستشراق، عند إدوارد سعيد، عبارة عن منظومة فكرية ومعرفية صارت لها نظريات وممارسات على أرض الواقع، وباتت تعطى الشرعية للانحياز الأيديولوجى. فالمواطن الغربى العادى يقول لنفسه إذا كان هذا ما يقوله المفكرون والباحثون (الغربيون طبعًا) «المتخصصون» فى الإسلام والشرق، فلابد أنه صحيح!

وفى أطروحته الجوهرية يقول «سعيد» صراحة إنه لا يقدم نقدًا للاستشراق حتى يقوم بعد ذلك بتقديم الشرق «الحقيقى». فنقطة البدء لفهم أطروحة الكتاب هى أنه فى نقده للمستشرقين يرفض أصلًا الاختزال والتعميم من نوع «الشرق» بالجملة مقابل «الغرب» بالجملة، أو «المسيحية» بالجملة مقابل «الإسلام» بالجملة.

فهو يرفض اختزال ثقافات وشعوب ما يسمى «الشرق» فى تعميمات، بجرة قلم واحدة، يتم بناء عليها اختراع هوية جماعية لأعداد ضخمة من البشر. وهو حذّر من التأثير «القاتل» لمثل تلك التصنيفات لأنها تخلق «أساطير تضفى الشرعية على الانحياز الفكرى».

ويشرح أنه فى الجوهر من المنهج الاستشراقى فكرة «نحن وهم». و«هم»، عند المستشرقين، هى نحن طبعًا. أما «نحن»، أى الغربيين، فتعنى البيض أساسًا.

فالشرق من تعريفاته ضمنًا أنه ليس أبيض، أى يشمل مسيحيى الشرق أيضًا، فهم مثل مسلميه ليسوا بيضًا. و«هم» (أي الشرقيون) كلهم «ليسوا مثلنا ولا يحترمون قيمنا»، وهم بالضرورة «أدنى درجة».

لكن لعل أهم ما قدمه إدوارد سعيد كان نقده للمنهج البحثى الذى يستخدمه المستشرق. ففى مقدمته البديعة التى كتبها لآخر طبعة للكتاب صدرت قبل وفاته (2003)، فرّق بين «المعرفة التى يسعى لها المرء بهدف الفهم والدراسة والتحليل الدقيق، والمعرفة القائمة على التعسف… وبغرض إثبات الذات والرغبة فى تهنئتها على التفوق على الآخر».

ويؤكد على الفارق بين «الفهم بهدف التعايش الإنسانى، والفهم الذى يهدف للهيمنة والسيطرة». ويشير سعيد إلى أنه لا يمكن فهم دراسة «الشرق»، من جانب الغربيين، بمعزل عن السياق الذى أجريت فيه تلك الدراسات. وشرح السياق، فبدأ ببريطانيا وفرنسا زمن استعمارهما لذلك «الشرق» قبل أن تلحق بهما الولايات المتحدة. وبالتالى، فسياق تلك المعرفة سياق استعمار وهيمنة.

وهو قدم الدليل بعد الآخر على العلاقة الوثيقة بين أولئك المستشرقين وصناع السياسة الاستعمارية فى بلادهم، حيث كانوا دومًا عونًا بل مستشارين للاستعمار، بدءًا بالحملة الفرنسية على مصر، ومرورًا بمرحلة الاستعمار التقليدى للمنطقة، ثم للهيمنة الأمريكية، ووصولًا لأحداث سبتمبر 2001. بعبارة أخرى، كان أغلب من يدرسون «الشرق والإسلام» فى الغرب فى خدمة الاستعمار والهيمنة منذ البداية حتى اليوم!

*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية، خبيرة في الشأن الأمريكي

 

المصدر | المصري اليوم

About مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمستقبل العالم الإسلامي و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم على الكلمة وتفاصيل مواردها ومراد الله تعالى منها في كل موضع بكتاب الله في أول عمل فريد لن يتكرر مرة أخرى .

Check Also

نيوزيلندا تدرج “حزب الله” اللبناني و”أنصار الله” على قائمة الإرهاب

RT : أعلنت نيوزيلندا تصنيفها “حزب الله” اللبناني وحركة “أنصار الله” الحوثية في اليمن “منظمتين …