الخليج الجديد :
بعد 44 عامًا من قطع العلاقات، وسط تصاعد الأنشطة الدبلوماسية في جميع أنحاء المنطقة، تتخذ مصر وإيران أخيرًا خطوات حذرة نحو التقارب، بعد عقود اتبع البلدان فيها مسارات متباينة في السياسة الخارجية، وسط تساؤلات حول إمكانية تنحية الخلافات جانبا، وإنهاء عقود من التوترات وكتابة فصل جديد في العلاقات بين غرب آسيا وشمال أفريقيا.
هكذا يلفت تحليل لموقع “مشروع المهد”، وترجمه “الخليج الجديد”، إلى أن التطورات الأخيرة في غرب آسيا، في أعقاب المصالحات بين العديد من البلدان، إلى إثارة الحديث عن انفراج محتمل بين القاهرة وطهران.
تشمل هذه التطورات التقارب بين السعودية وإيران بوساطة الصين، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، واستئناف الرياض العلاقات مع دمشق، وذوبان الجليد في علاقات تركيا مع دول الخليج كالسعودية والإمارات بالإضافة إلى مصر، بالإضافة إلى بدء المحادثات المباشرة بين الحكومة اليمنية والتحالف الذين تقوده السعودية مع جماعة “أنصار الله” (الحوثيين).
وقد أثار احتمال حدوث تقارب بين إيران ومصر ردود فعل مختلفة من البلدين، حيث أعربت طهران علانية عن استعدادها لإصلاح العلاقات مع القاهرة، حتى من أعلى مستويات السلطة.
في المقابل، كان صمت مصر يصم الآذان.
وفي منتصف مايو، نقلت وسائل إعلام مصرية عن مصدر قوله: “الصمت الرسمي المستمر من مصر موقف”.
وهو ذات الصمت الثابت من قبل الحكومة المصرية، خلال تحسين علاقتها مع تركيا، والذي تم كسره في نهاية المطاف، عندما تصافح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بشكل غير متوقع في الدوحة، خلال فاعليات نهائيات كأس العالم لكرة القدم.
ووفق التحليل، فإن هذه اللفتة المفاجئة تطرح السؤال: “هل تلوح في الأفق مصافحة إيرانية مصرية؟، قبل أن تجيب: “يبدو أن المشهد الدبلوماسي يتغير، مما يترك مجالًا للتكهنات والتفاؤل بشأن المصالحة المحتملة بين هاتين الدولتين الجيوستراتيجيتين الإقليميتين”.
وفي 14 مايو/أيار، كشف عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني فدى حسين مالكي، أن المفاوضات بين إيران ومصر جارية في العراق، بهدف إعادة العلاقات بين السفارتين وإعادة فتحهما.
لكن أهم إعلان إيراني صدر عن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي نفسه، الذي رحب بإعادة العلاقات مع مصر، وذلك خلال اجتماعه في 29 مايو/أيار مع سلطان عمان هيثم بن طارق، الذي تلعب بلاده دور الوسيط الإقليمي.
يقول الباحث في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية في جامعة إسطنبول شادي إبراهيم، إن “الخلافات بين طهران والقاهرة تختلف عن الخلافات المصرية التركية، حيث أن القضايا مع إيران خارجية بالدرجة الأولى وليست داخلية، فكل منهما يرى نفسه كمنافس على النفوذ والثروة في المنطقة”.
ويضيف: “لم يكن التقارب المصري الإيراني على أجندة القاهرة في البداية، بسبب هذه الأسباب الخارجية التي تعود إلى الثورة الإيرانية، إلا أنه إصلاح العلاقات بات يسير بسرعة فائقة، وبدأت عملية المصالحة في التبلور”.
تاريخياً، شهدت العلاقة بين مصر وإيران مراحل متعاقبة من التحالف الوثيق والعداء الشديد.
وتوطدت العلاقة بين الدولتين الإقليميتين في عام 1939، عندما تزوج ولي العهد الإيراني آنذاك محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية، ابنة الملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان.
ومع ذلك، أدى طلاقهما اللاحق في عام 1945 إلى أزمة بين البلدين، عندما أصر شقيقها الملك فاروق ملك مصر على الطلاق، ورفض عودة الأميرة فوزية إلى إيران.
ومع تحسن العلاقات، أطاحت ثورة الضباط الأحرار بالملك فاروق في يوليو/تموز 1952، ورفعت مصر راية القومية العربية والمواجهة ضد إسرائيل.
وبالنظر إلى اعتراف إيران قبل الثورة بإسرائيل عام 1960، تدهورت العلاقات مرة أخرى، وظلت مضطربة حتى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في عام 1970.
وتحت قيادة خليفة عبدالناصر، شهد الرئيس المصري محمد أنور السادات عودة العلاقات بين مصر وإيران.
إلا أ، الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بقيادة آية الله روح الله الخميني، أدت إلى زعزعة التقدم عندما أطاحت بالشاه الموالي للغرب والمؤيد لإسرائيل، والذي لجأ لاحقًا إلى مصر، حيث ظل فيها حتى وفاته في عام 1980.
وقفت الثورة الإيرانية في مواجهة معادية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي كانت مصر تضع اللمسات الأخيرة على معاهدة كامب ديفيد للسلام مع تل أبيب.
فنفس الأسباب التي دفعت عبدالناصر إلى قطع العلاقات مع إيران في عام 1960، تكررت في قرار الخميني أن يفعل الشيء نفسه مع مصر في عام 1979.
ومنذاك الحين، بدأت عقود من العلاقات المجمدة بين مصر وإيران، حتى ثورة مصر في يناير/كانون الثاني 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك.
وفي خطوة مهمة، زار الرئيس المصري محمد مرسي طهران في أبريل/نيسان 2012، مسجّلة أول زيارة لرئيس مصري إلى إيران منذ ثلاثة عقود.
وأعقب ذلك زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، إلى القاهرة في فبراير/شباط 2013، مما يدل على فصل جديد في علاقتهما والإعلان عن إعادة فتح السفارة.
ومع ذلك، فإن الانقلاب اللاحق بقيادة السيسي والذي كان مدعوما من السعودية والإمارات ضد مرسي وحكومته التي يهيمن عليها الإخوان المسلمون في يوليو/تموز 2013، أوقف تقدم العلاقات بين القاهرة وطهران، وإن كان ذلك بمستوى منخفض من العداء، حيث تبنت مصر استراتيجية “لا العداء ولا الصداقة”.
ما بعد كامب ديفيد
ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، انضمت القاهرة إلى سياسة الولايات المتحدة ضد إيران، حيث يقول المحلل السياسي عبدالرحمن عادل، إن أي تحولات في العلاقات بين الدولتين الإقليميتين “تأتي في سياق الاستقطاب الثنائي وتنافس القوى الإقليمية فيما بينها”.
وفي السنوات الأخيرة، تضاءل مكانة مصر في ضوء التغيرات الإقليمية، التي حولت ميزان القوى لصالح دول الخليج الغنية، وهو ما حول القاهرة من “قوة فاعلة” إلى “دولة تابعة للقوى الجديدة في المنطقة”.
وخلال هذه الفترة، أدى الاستقطاب بين دول الخليج وإيران، وكذلك بين دول الخليج نفسها، إلى إشعال الاضطرابات والصراع.
وأمام ذلك، وضعت مصر المتوترة اقتصاديًا، والتي تعتمد على سخاء الخليج، نفسها كحليف موثوق به في صراعها الجيوسياسي ضد إيران، بهدف تحقيق شعور بالتوازن، لا سيما في اليمن.
لكن مع مرور الوقت “اكتشفت هذه الدول أن دور مصر كان متواضعا، ومشاركتها محدودة خلافا للتوقعات”، ما أدى إلى تقليص المساعدات من الخليج إلى مصر بشدة.
أثر التطبيع السعودي الإيراني
ووفق تحليل “المهد”، فإن الاتفاق المصري الإيراني على تطبيع العلاقات، يتزامن مع صعود قوى عالمية جديدة مثل روسيا والصين في الشرق الأوسط، مع تراجع مكانة الولايات المتحدة في غرب آسيا، وتحول تركيز واشنطن إلى حرب أوكرانيا والفناء الخلفي للصين.
واتفقت طهران والرياض على تطبيع العلاقات بينهما في بكين، بعد سبع سنوات من القطيعة، ما مثل ضوء أخضر لدول المنطقة الأوسع، بما في ذلك مصر، للانخراط في حوارات مع إيران.
وقبل ذلك، في أغسطس/آب 2022، اتفقت الكويت والإمارات على إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الجمهورية الإسلامية.
وفي فبراير من العام الماضي، أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، فتح صفحة جديدة في علاقات إيران مع دول المنطقة، قائلاً: “يدنا مفتوحة لجيراننا”، مشددا على أن “تعزيز العلاقات مع الجيران، ولا سيما الدول العربية، أولوية رئيسية في السياسة الإيرانية الجديدة، عقب انتخاب الرئيس إبراهيم رئيسي”.
في مايو/أيار، أعرب عبداللهيان عن أمله في أن تستأنف طهران والقاهرة العلاقات، قائلاً: “لقد رحبنا دائمًا بتطور العلاقات بين طهران والقاهرة”، مضيفًا: “رؤساء بعثاتنا في طهران والقاهرة لديهم اجتماعات جيدة.. هناك وصول جيد إلى السلطات في كلا البلدين”.
وساطة عراقية
وتزعم مصادر متعددة، أن العراق يستضيف محادثات بين ممثلين من إيران ومصر منذ مارس/آذار، حيث يقود رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني جهود الوساطة بنفسه.
وقالت مصادر سياسية عراقية، إن السوداني يهدف إلى ترسيخ نفسه كمحاور رئيسي بين إيران والدول العربية، كما سعى سلفه مصطفى الكاظمي.
وبينما أبلغ الرئيس العراقي الرياض بنيته التوسط بين القاهرة وطهران، ورد أن السعوديين لم يبدوا الكثير من الحماس.
في الوقت نفسه، تلعب سلطنة عمان دورًا مهمًا في تسهيل المفاوضات بين القاهرة وطهران، وهو ما كشفه رئيسي عنجما قال إن السلطان العماني نقل رسالة من القاهرة عبر فيها عن رغبتها في تحسين العلاقات.
ومع ذلك، تشير مصادر دبلوماسية عربية إلى أن جهود عمان لا تزال في مهدها، ولم تسفر بعد عن تقدم كبير.
ورغم كل التكهنات الإيجابية، تقول مصادر عراقية إن الاتصالات لم تؤد بعد إلى تفاهمات لبدء تطبيع العلاقات.
فيما تشير مصادر إلى أن القاهرة لا تزال غير متحمسة لتطبيع العلاقات، لأسباب لم يتم الكشف عنها بعد.
وتؤكد المصادر أنه من غير المرجح أن تتخذ القاهرة خطوات جادة نحو تحسين العلاقات مع إيران حتى تصل العلاقة بين طهران والرياض إلى مستوى أفضل.
ومن المتوقع أن يحتاج السيسي إلى دعم واضح من داعميه السعوديين والإماراتيين، قبل إعادة العلاقات المصرية الإيرانية، وفق التحليل.
تأثير محدود على إسرائيل
من جانبه، يرى الباحث إبراهيم، أن إعادة العلاقات بين مصر وإيران قد “لا تؤدي إلى الكثير من المنفعة الاقتصادية للنظام المصري، أو كسر العزلة المفروضة على إيران”.
ويضيف: “من المرجح أن يظل هذا الانفتاح الاقتصادي محدودًا، مع وجود مجال ضئيل للنمو والتوسع الجوهريين، لا سيما في ضوء الوجود الإسرائيلي على طول الحدود مع مصر”.
ويتفق إبراهيم وعادل على أن “التقارب المصري الإيراني سيكون على نطاق محدود، ولن يضر بأي شكل من الأشكال بالشراكة المصرية مع إسرائيل، ولن يتعارض مع السياسة الأمريكية”.
وحسب إبراهيم فإن “إيران ستستفيد أكثر من هذه العلاقات”، مضيفا: “تحويل العلاقات من السلبية إلى الإيجابية، حتى لو اقتصرت على قطاع السياحة الاقتصادية أو الدينية، قد يمثل خطوة نحو دور أكبر في المستقبل في القضايا المهمة لإيران، مثل الصراع مع إسرائيل”.
لكنه يشير إلى أن القاهرة تدرك ذلك جيدًا، و”لن تسمح لطهران بمنافستها في الملف الفلسطيني”.
وتستفيد القاهرة من موقعها الجغرافي ومن حقيقة أن الأراضي المصرية هي الممر الوحيد إلى العالم لفصائل المقاومة الفلسطينية المدعومة من إيران في غزة.
وهذا الواقع يعزز موقف مصر ويضمن بقاءها لاعباً محورياً، وإن كان لاعباً سلبياً في السياق الفلسطيني.
ويختتم التحليل بالقول: “مع استمرار تطور الوضع، ليس من الواضح كيف ستتطور علاقة مصر مع إيران، وما إذا كانت ستؤدي إلى تحول أوسع في الديناميكيات الإقليمية، أم أنها ستعمل في المقام الأول كمشاركة محدودة وعملية”.