وهذا ما يحتجّ به بعض المذاهب الإسلامية ، ألا وهو سكوت الإمام عليه السلام عن حقوقه ، ولكم منّي فائق الاحترام والتقدير.
الجواب : وردت الوصية بما ذكرت من النبيّ صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام نقلاً عن أمر الله تعالى ، وهو جلّ جلاله العليم الحكيم ، واليك الوصية كما رواها الشيخ الكليني (قدس سره) بسنده عن عيسى بن المستفاد أبي موسى الضرير قال : « حدّثني موسى بن جعفر عليهما السلام قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أليس كان أمير المؤمنين عليه السلام كاتب الوصية ، ورسول الله صلى الله عليه وآله المُملى عليه ، وجبرائيل والملائكة المقرّبون عليهم السلام شهود؟
قال : فاطرق طويلاً ، ثمّ قال : يا أبا الحسن ـ كنية الإمام موسى الكاظم عليه السلام ـ قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله صلى الله عليه وآله الأمر ، نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجّلاً ، نزل به جبرائيل مع أُمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة.
فقال جبرائيل : يا محمّد مر بإخراج مَن عندك إلاّ وصيّك ، ليقبضها وتشهدها بدفعكَ إيّاها إليه ضامناً لها ـ يعني عليّاً عليه السلام ـ فأمر النبيّ صلى الله عليه وآله بإخراج مَن كان في البيت ما خلا عليّاً عليه السلام ، وفاطمة فيما بين الستر والباب ، فقال جبرائيل : يا محمّد ربُّك يقرئكَ السلام ويقول : هذا كتابُ ما كنتُ عهدتُ إليك ، وشرطتُ عليك ، وشهدتُ به عليك ، وأشهدتُ به عليك ملائكتي ، وكفى بي يا محمّد شهيداً.
قال : فارتعدت مفاصل النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : يا جبرائيل ربّي هو السلام ومنه السلام وإليه يعودُ السلام ، صَدَق عزّ وجلّ وبرّ ، هات الكتاب ، فدفعه إليه وأمرهُ بدفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : اقرأهُ ، فقرأه حرفاً حرفاً.
فقال : يا علي هذا عهد ربّي تبارك وتعالى إليَّ ، شرطهُ عليَّ وأمانتهُ ، وقد بلّغتُ ونصحتُ وأدّيتُ ، فقال علي عليه السلام : وأنا أشهدُ لك بأبي وأُمّي أنت بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلتَ ، ويشهدُ لكَ به سمعي وبصري ولحمي ودمي ، فقال جبرائيل عليه السلام : وأنا لكما على ذلك من الشاهدين.
فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي أخذتَ وصيّتي وعرفتَها ، وضمنتَ لله ولي الوفاء بما فيها ، فقال علي عليه السلام : نعم ، بأبي أنت وأُمّي عليَّ ضمانُها ، وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا علي إنّي أُريدُ أن أُشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة.
فقال علي عليه السلام : نعم اشهد ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ جبرائيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن وهما حاضران ، معهما الملائكة المقرّبون لأشهدهم عليك ، فقال : نعم ، ليشهدوا وأنا ـ بأبي أنت وأُمّي ـ أُشهدهم ، فأشهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان فيما اشترط عليه النبيّ صلى الله عليه وآله بأمر جبرائيل عليه السلام فيما أمر الله عزّ وجلّ أن قال له : يا علي تفي بما فيها من موالاة مَن وإلى الله ورسوله ، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله ، والبراءة منهم ، على الصبر منك ، وعلى كظم الغيظ ، وعلى ذهاب حقّك ، وغصب خمسك ، وانتهاك حرمتك؟ فقال : نعم ، يا رسول الله … » (1).
وأيضاً يؤيّد ما ذكر ، ما جاء في مصادر أهل السنّة ، فقد روى يونس بن حباب عن أنس بن مالك قال : « كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب معنا ، فمررنا بحديقة ، فقال علي : « يا رسول الله ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة »! فقال : « إنّ حديقتك في الجنّة أحسن منها » ، حتّى مررنا بسبع حدائق ، يقول علي ما قال ، ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله بما أجابه.
ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وقف فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس علي وبكى ، فقال علي : « ما يبكيك يا رسول الله »؟ قال : « ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّى يفقدوني » ، فقال يا رسول الله : « أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم » ، قال : « بل تصبر » ، قال : « فإن صبرت » ، قال : « تلاقي جهداً » ، قال : « أفي سلامة من ديني »؟ قال : « نعم » ، قال : « فإذن لا أبالي » (2).
وقد أخبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أخبره بأنّ الأُمّة ستغدر به من بعده ، فقد روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن الغنويّ : أنَّ علياً خطب بالرحبة فقال : « أيّها الناس ، إنّكم قد أبيتم إلاّ أن أقولها! وربّ السماء والأرض ، إنّ من عهد النبيّ الأُميّ إليَّ : إنَّ الأُمّة ستغدرُ بك بعدي ».
قال ابن أبي الحديد بعد روايته لهذا الخبر : « وروى هيثم بن بشر عن إسماعيل بن سالم مثله ، وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه » (3).
ولم يكن أمر النبيّ صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام بالصبر من بعده على ما سيجري عليه من بلاء وغدر ، كما صرّح بذلك الإمام علي عليه السلام نفسه ، إلاّ للقراءة الكاملة التي كان يقرأها النبيّ صلى الله عليه وآله ـ بما منَّ الله عليه من علم ـ لحال الأُمّة من بعده صلى الله عليه وآله.
1 ـ تفرّق كلمتها ، ورزية يوم الخميس الواردة في صحاح القوم خير شاهد على ذلك.
2 ـ قلّة الناصرين لأمير المؤمنين عليه السلام في مطلب الخلافة ، وزعامة الأُمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله ، وقد كانت أحداث السقيفة ، وتقاعس المسلمين ـ من المهاجرين والأنصار ـ عن نصرة الإمام عليه السلام بأعذار وتبريرات مختلفة ، تناولها الباحثون عند حديثهم عن تلك الحقبة ، خير دليل على هذا الواقع.
وقد وردت جملة من الروايات تشير إلى هذه الحقائق المتقدّمة ، حيث جاء في كتاب سليم بن قيس الهلالي ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : « يا علي ، إنّك ستلقي بعدي من قريش شدّة ، من تظاهرهم عليك وظلمهم لك ، فإنّ وجدت أعواناً عليهم فجاهدهم ، وقاتل من خالفك بمن وافقك ، فإنّ لم تجد أعواناً ، فاصبر وكف يدك ، ولا تلق بيدك إلى التهلكة ، فإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى ، ولك بهارون أسوة حسنة ، إنّه قال لأخيه موسى : إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » (4).
وفي المصدر ذاته ، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يأخذ بيدي الحسن والحسين عليهما السلام ، ويطوف بالبضعة الزهراء عليها السلام على بيوت الأنصار والمهاجرين ، وأهل السابقة في الإسلام ، يدعوهم لنصرته ، فلم يستجب له غير أربعة ، هم : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، حتّى قال : « لو وجدت أعواناً أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار من أهل السابقة لناهضت هذا الرجل » (5).
وفي تاريخ اليعقوبيّ عند ذكره لأحداث السقيفة وما جرى أيامها : « وكان خالد بن سعيد غائباً ، فأتى علياً فقال : هلم أبايعك ، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمّد منك ، واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له ، فقال لهم : « اغدوا على هذا محلّقين الرؤوس » ، فلم يغدُ عليه إلاّ ثلاثة نفر » (6).
الأمر الذي كان يعني بأنّ على الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يسلك أحد الطريقين : إمّا الخروج بالسيف على من ناواه مع قلّة الناصر ، وهذا يعني احتمال موته وموت اتباعه القليلين ، الذين أطاعوا الله والرسول بالتمسّك بالثقلين ـ الكتاب والعترة ـ وفي ذلك تكون الخسارة كبيرة ، وقد لا تعادلها خسارة للأُمّة ، بل وربما تتعرّض الرسالة الإسلامية برمّتها للخطر فيما لو تمّ ذلك.
هذا بالإضافة إلى وقوع خطر الانقسام الشديد في الأُمّة ، الذي يجعلها لقمة سائغة لأعدائها المتربّصين بها من اليهود والنصارى ، وهي فتية عهدها ، وما زالت في دور نشوئها بعد.
والطريق الثاني : وهو طريق السكوت والصبر ، والعمل على تهيئة الأُمّة تهيئة عقائدية روحية ، تستطيع من خلالها أن تتحمّل المسؤولية في نصرة أئمّة الحقّ ، وأن تعي أبعاد الرسالة الإسلامية وأهدافها الطويلة الأمد ، وهو الطريق الذي رسمه النبيّ صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام.
وقد سار عليه الإمام عليه السلام وهيّأ الأُمّة لهذه المرحلة بصبره وعلمه وتقواه ، حتّى أجمعت الأُمّة على مبايعته والامتثال لأوامره فيما بعد ، فقد كانت بيعته عليه السلام هي البيعة الوحيدة من بين الذين سبقوه ، ممّا اجمع عليه المهاجرون والأنصار في مدينة النبيّ صلى الله عليه وآله ، وذلك عندما أحسّت الأُمّة بضرورة قيادته عليه السلام لها ، وأنّه الوحيد القادر على إنقاذها في تلك المرحلة الخطرة من تاريخها.
ولا يعني صبره عليه السلام وعدم خروجه بالسيف على من ناواه في حقّ الخلافة أنّه سكت عن حقّه ، ولم يطالب به ، بل كانت مطالبته عليه السلام بحقّه دائمة ومستمرّة ، إذ لم يترك الإمام عليه السلام مجالاً سلميّاً يمكن أن يطالب فيه بحقّه إلاّ وسلكه ، وقد ذكرت كتب السير والحديث والتراجم تلك المقالات التي كان الإمام عليه السلام يجاهر بها بالمطالبة بحقّه ، وأنّ القوم اغتصبوا حقّاً هو له دونهم.
ومحاججته لأبي بكر وبقية الأصحاب الذين أبرموا بيعة السقيفة ، وقوله عليه السلام : « لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى الله عليه وآله ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً »؟! (7).
وهناك نصوص مختلفة في نهج البلاغة ، يذكر فيها أمير المؤمنين عليه السلام مطالبته بحقّه ، منها ما ورد في يوم الشورى : « وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه ، فلمّا قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين ، هب كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به … » (8)!
_____________________
1 ـ الكافي 1 / 281.
2 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 107 ، كنز العمّال 13 / 166 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 324 ، مجمع الزوائد 9 / 118 ، المعجم الكبير 11 / 61 ، جواهر المطالب 1 / 229.
3 ـ شرح نهج البلاغة 4 / 107 ، المستدرك 3 / 142 ، كنز العمّال 11 / 297 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 448 ، البداية والنهاية 6 / 244 و 7 / 360.
4 ـ كتاب سليم بن قيس : 134.
5 ـ المصدر السابق : 302.
6 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2 / 126.
7 ـ الإمامة والسياسية 1 / 28.
8 ـ شرح نهج البلاغة 9 / 305.