يشهد العالم نوعاً جديداً من سباق التسلح “السيبراني”، قد يشعل حروباً غير محدودة بمكان أو زمان، وبسرعة خيالية، أما الأضرار الناجمة عنها، فهي أشد من تأثيرات الأسلحة النووية، تدمر البني التحتية لدول بأكملها، وتخترق القواعد العسكرية وتعطب المفاعلات النووية أو تتحكم بها. إنها الحروب السيبرانية التي يتطاير شررها الآن، في صورة هجمات إلكترونية معقدة، وسباق تسلح سيبراني عالمي، يعيد صهر وتشكيل موازين القوى العالمية، سباق بلا قواعد، وكل الأسلحة مشروعة، حتى لو كان انتحار أو اغتيال مبرمج عالمي شهير، بوزن “جون مكافي”… أهلاً بكم في عالم الظلام الافتراضي المرعب!
معيار القوة
تنهمك الدول الكبرى والصغرى في تطوير قدراتها السيبرانية، الافتراضية – الإلكترونية، والتي لا تقل أهمية عن القدرة السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، بل تقترن بها حضوراً وعدماً، إذ إن القدرة السيبرانية أضحت إحدى حقائق العالم الأساسية، ممثلة في مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة. المفكر الأميركي جوزف ناي، أستاذ السياسات البارز بجامعة هارفرد، يرى أن القوة الإلكترونية مرتبطة بامتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها. وهي تعني القدرة على استخدام الفضاء الاصطناعي في التأثير بالأحداث التي تجري عبر البيئات وأشكال وأدوات القوة المختلفة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو دبلوماسية أو معلوماتية. وحدد جوزف ناي أنماطاً لاستخدام القوة الافتراضية، تتراوح بين الناعم والخشن؛ في الخير أو الشر.
كان معيار القوّة، في أوروبا القرن التاسع عشر، هو القدرة على بسط السيطرة الحربية، أمّا في عصر المعلومات اليوم، فإن للقدرات العسكرية أهميتها، لكنّها وحدها غير كافية، فالجيش القوي لا يمنح القوة على الإنترنت، انما المعلومات هي التي تفعل؛ لذلك تغيّر ثورة المعلومات الحالية من طبيعة القوّة وتزيد من انتشارها. ولأن الجيوش الإلكترونية تخوض غمار الحروب السيبرانية في المناطق المظلمة على شبكة الإنترنت، موقعة خسائر فادحة بالدول والمؤسسات والأفراد، أصبحت الحروب السيبرانية شكلاً جديداً لممارسة الصراع الدولي؛ ومن ثمّ تتجلى أسباب سباق التسلح السيبراني الذي يشهده العالم، بحثاً عن امتلاك القوة السيبرانية، باعتبارها أحد أهم عناصر قوة الدولة الشاملة.
صراع الجبابرة
أمسى الصراع على “الحيازة الحصرية” للتكنولوجيا ساحة الحروب الجديدة، ففي خضم سباق الهيمنة على تكنولوجيات المستقبل، قادت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين إلى حظر استيراد وتصدير تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس، وأشباه الموصلات، ومنصات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الأمنية القائمة على البيانات عبر العديد من الدول. لهذا باتت الدول تفرض قيوداً على دخول شركات التكنولوجيا الأجنبية التي ترى أنها تشكل مخاطر أمنية إلى أسواقها المالية أو بنيتها العسكرية. أنظر إلى الأزمة بين أميركا وتركيا، بسبب تسلمها صواريخ “إس-400” الروسية ومخاوفها من أن تفك روسيا شفرات مقاتلات “إف-35” الأميركية، أو مطالبة واشنطن للإمارات بعدم استخدام شبكات اتصالات الجيل الخامس الصينية، للسبب نفسه.
تسعى الدول إلى رقمنة مفاصلها المؤسساتية وهياكلها التنفيذية والإنتاجية وخدماتها المقدمة لمواطنيها، وهذا ما يجعل الهجمات السيبرانية التي تسرق المعلومات الحساسة “القرصنة الإلكترونية” أو تعطلها من العمل أو تدمر المنشآت التي تعتمد على “المعلوماتية” أداة هائلة للتأثير والإكراه السياسي والاقتصادي والعسكري في عالم اليوم.
وتعود جذور الثورة المعلوماتية إلى “قانون مور” الذي نشأ في وادي السيليكون في ستينات القرن الماضي، والقائل إنّ أعداد الترانزستورات الموضوعة على رقاقة حاسوب واحدة تتضاعف كل عامين. لذلك، تزايدت قوّة الحوسبة تزايداً دراماتيكياً، وبحلول القرن الحادي والعشرين، باتت تكلفتها تعادل واحداً على ألف، من تكلفتها مطلع سبعينات القرن الماضي. في عام 1993، كان هناك ما يُقارب 50 موقعاً على الإنترنت في العالم، وبحلول عام 2000 ارتفع العدد إلى 5 ملايين. أمّا اليوم، فإنّ عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية يزيد على خمسة مليارات. تربط “إنترنت الأشياء” بين عشرات مليارات الأجهزة الإلكترونية ووسائل الاتصال… التغيير الجوهري ليس سرعة الاتصال، بل التراجع الهائل في “تكلفة” نقل المعلومات وتخزينها. ولو كان سعر السيّارة تراجع بالسرعة ذاتها التي تراجعت بها تكلفة الحوسبة، لكان في إمكان المرء اليوم أن يشتري سيارة بذات سعر شطيرة همبرغر. وعندما يتراجع ثمن التكنولوجيا بهذه السرعة، تصير متاحة على نطاق واسع، بينما تنخفض العوائق أمام استخدامها.
وقد استطاع بعض الدول توظيف التكنولوجيا الحديثة في تعظيم قوتها، لا سيما الإلكترونية، حيث سعت الدول للاستفادة من تلك القوة في تطوير استراتيجياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ حماية لمصالحها الوطنية، لذلك يستعر فصل جديد من الحرب بين أميركا وأوروبا والصين وروسيا، في الميدان الرقمي، يتكشف يوماً بعد يوم، وقد أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش قمة السبع الأخيرة، في بريطانيا، عن تخصيص 250 مليار دولار لتقوية قدرات بلاده العلمية والتكنولوجية وضمان تفوقها في السباق المشتعل مع الصين وروسيا، وذلك في ظل توقعات مؤسسات دولية أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، في غضون سنوات، وما قد يتبع التفوق الاقتصادي من تفوق تكنولوجي، بخاصة في ميدان المعلوماتية والذكاء الاصطناعي وأجهزة الكومبيوتر والحوسبة السحابية وشبكات الأجيال الخامس والسادس والسابع … إلخ، وصور الطاقة. وهنا يظهر السعي المحموم من جانب الصين وروسيا لمنافسة الغرب وبالأخص واشنطن، في هذا السياق، حيث تنهمك القوى الكبرى في سباق تسلح سيبراني حاد، إذ تفرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية وتبذل محاولات حثيثة للحيلولة دون تسرب التكنولوجيا المتطورة لروسيا والصين، للحد من تطورهما التكنولوجي، بوصفه “كلمة السر” في الفوز بالحرب السيبرانية المندلعة، لذا تواصل أميركا الإمساك بزمام القيادة العالمية. وقد شكل الجيش الأميركي عام 2016، قيادة عسكرية سيبرانية جديدة، لحماية الأمن القومي، وفي عام 2018 تبنى البنتاغون استراتيجية تقوم على مبدأي “الدفاع المتقدم” و”الاشتباك المستمر”.
لا رضوخ
وبالطبع لن ترضخ بكين أو موسكو أمام رغبات واشنطن، على سبيل المثال وقّعت روسيا والصين اتفاقاً لإنشاء محطة قمرية دولية، ودعت أخرين للمشاركة فيها، وذلك بعد انسحاب روسيا من مشروع أميركي مماثل، عندما حاول الأميركيون تقزيم أدوار الشركاء الآخرين في المحطة، بخاصة الشق التكنولوجي. هذا المثال يبرز إدراك اللاعبين الكبار الطبيعة التنافسية في المجال السيبراني، سواء كانت محدداته على البر أو البحر أو في الفضاء، كل هذا يعني تغيراً دراماتيكياً مقبلاً في علاقات القوى، بمحيط السياسة الدولية، وكل الأدوات متاحة وكل الأسلحة مشروعة؛ وربما يفسر ذلك انتحارأو اغتيال رائد أنظمة البرمجيات “جون مكافي” صاحب برنامج مكافحة الفيروسات الإلكترونية الشهير الذي يحمل اسمه، في إسبانيا، قبيل تسليمه للولايات المتحدة، بعدما هدد بالكشف عن مصدر العملة الرقمية “البيتكوين”، فالرجل “خزينة أسرار” يجب أن تظل مغلقة!.
وكما هو معلوم، يعد استنفاد إمكانات التقنيات الحالية، أحد أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، فالهواتف والحواسيب اللوحية تجعل الحياة أسهل، لكنها تعجز عن نقل الإنتاجية إلى المستوى التالي، وهذا يتطلب اختراقاً في الطاقة أو التكنولوجيا الحيوية، واتقان الاندماج النووي، وزيادة الإنتاجية من خلال التلاعب الجيني والهندسة الوراثية، أما أخطر الصيحات التكنولوجية، فهي ثورة الاتصالات وإنترنت الأشياء، حيث يرتبط النمو الاقتصادي للدول بمدى قدرتها على الإسهام في ابتكار وإنتاج هذه التقنيات، وتقترن رفاهية الدول الصغيرة بمكانتها في النظام المهيمن لتقسيم العمل الدولي، وفقاً للخبير السياسي الروسي ألكسندر نازاروف، ما يجعل الاستراتيجية السيبرانية لحماية الأمن القومي بكل أسلحتها الجديدة أولوية في إدارة الصراعات في عصر الفضاء السيبراني. وإذا كانت الأسبقية للولايات المتحدة في ابتداع هذه الاستراتيجية وتطوير ميادين الصراع السيبراني، فإن الدول الأخرى، بخاصة الصين وروسيا لديها ما يكفي لمواجهة متطلبات هذا الصراع وإيقاع الخسائر، وعلى رأس هذه المتطلبات الانغماس الشبقي في سباق التسلح السيبراني العالمي، ولا عزاء للمتخلفين… وذلك حديث آخر.